نشر بتاريخ: 03/12/2018 ( آخر تحديث: 03/12/2018 الساعة: 13:51 )
الكاتب: د.مصطفى البرغوثي
تدعي بعض الأطراف الخارجية أن تحسين الوضع الاقتصادي للفلسطينيين لا يمكن أن يتم إلا بالتبعية المطلقة لاقتصاد الاحتلال الإسرائيلي، والخضوع لعبودية التطبيع مع ما تمثلة هذه التبعية من تمييز وإستغلال.
وتسعى هذه الأطراف عن قصد لتحميل مسؤولية المعاناة من النكبة والاحتلال ونظام الأبارتهايد الإسرائيلي، للفلسطينيين أنفسهم، بهدف تبرئة الاحتلال.
ويذكرنا ذلك بمستوى الإنحطاط الخلقي لمن يحاول تحميل المرأة المغتصبة مسؤولية اغتصابها، بهدف تبرئة المغتصب المجرم.
لا يحتاج الإنسان لأن يكون بروفيسورا في علم الاقتصاد ليدرك أن التنمية الإقتصادية والتحسين الاقتصادي الحقيقي لأي بلد، يتطلب أن يسيطر البلد وأبناؤه على أرضهم، ومواردهم الطبيعية، ومياههم، وحدودهم، وتجارتهم، وصادراتهم ووارداتهم، وعلى الدخل المتحقق من ضرائبهم، وأن تكون لهذا البلد عملته الوطنية، وبنكه المركزي، وحرية جلب الاستثمارات والمستثمرين، وأن يحدد هو بنفسه قيمة ضرائبه، بما فيها ضريبة القيمة المضافة، دون إملاء من أي طرف مجاور.
وإذا أردنا أن نُفَصل أكتر فلا يمكن تصور تحسن اقتصادي مستقر وذو ديمومة دون حرية التنقل، وحرية نقل البضائع والمنتجات بين أجزاء البلد ومدنه وقراه، ودون حرية الزراعة في الأرض، وحرية إنشاء المصانع والشركات، وحرية الصيد في البحر.
كما لا يمكن الحديث عن تنمية مستدامه دون حرية في إنشاء المؤسسات التعليمية، والخدمات الصحية وأنظمة الضمان الاجتماعي في كل أراضي البلد دو قيود .
فعن أي تنمية اقتصادية يتحدث الداعون للتطبيع، وغزة محاصرة بالكامل ومقطوعة بقوة سلاح الاحتلال عن الضفة، والضفة نفسها مقطعة إلى 224 جزيرة، معزولة ومجزأة بمئات المستعمرات وبجدار الفصل العنصري، وبأكثر من ستمائة حاجز، وعندما تكون أهم مدينة في البلد، أي القدس محاصرة ومحرمة على 90% من سكانه ؟
وأي تنمية وتحسن إقتصادي يمكن الحديث عنة لأهالي غزة الذين تعاني 95% من مياههم من التلوث والملوحة، أو لأهل الضفة الذين يسلب الإحتلال الإسرائيلي 84% من مياههم ، ويحصر حصة الفلسطيني ب 50 متر مكعب سنوياً، في حين يمنح المستعمر غير الشرعي 2400 متر مكعب سنوياً أي ثمانية وأربعين ضعفا لما يمنح للفلسطيني.
ولماذا لا تنصب جهود الدوليين الداعين للتطبيع على إنهاء هيمنة إسرائيل على 62 % من الضفة الغربية المسماة مناطق "C"، والسماح للاقتصاد الفلسطيني بإنشاء المزارع والمصانع والجامعات والعيادات، ومراكز التطوير التكنولوجي فيها بدل تكريسها لتوسع المستعمرات الإستيطانية غير الشرعية ؟
ولماذا لا يجبروا إسرائيل على إطلاق يد الفلسطينيين لاستثمار حقول الغاز والنفط المكتشفة في أرضهم ومياههم لتحسين أوضاعهم الاقتصادية ؟
الشعب الفلسطيني المتعلم أذكى من أن يُستخف بفطنته، أو يُستهان بوعيه وعلمه.
ونحن نعرف أن الاقتصاد الإسرائيلي يفتقر للقوة العاملة، ولذلك يستعبد عشرات آلاف العمال الفلسطينيين ويميز ضدهم، وهو قادر على دفع أجور أعلى مما يُدفع لهم في الأراضي المحتلة ، لأنه أولاً يستغل أرضنا ومياهنا وتجارتنا ويتحكم حتى في ضرائبنا، ولأنه يفرض سوقاً موحدة على الأراضي المحتلة، ويجبرنا على دفع نفس ثمن البضائع حسب تسعيرة السوق الإسرائيلي ،ومثل ما يدفعه الإسرائيليون في حين أن دخل الفرد الإسرائيلي السنوي يزيد عن دخل الفرد الفلسطيني بأكثر من خمس عشر مرة.
كما يجبرنا الاحتلال على دفع ضعف ما يدفعه الإسرائيلي ثمنا للكهرباء، ولمياهنا التي يسرقها، ويلزم الفلسطينيين بدفع أربعة أضعاف ما يدفعه الإسرائيلي مقابل نفس العلاج أن اضطررنا لإرسال مرضانا لمستشفيات إسرائيلية .
ونحن نعرف أن الإقتصاد الإسرائيلي يعاني اليوم من نقص ليس فقط في القوة العاملة اليدوية، بل والفكرية أيضاً، ولذلك يريد توظيف خريجينا المتعلمين، و الذين علمناهم من عرق جبين عائلاتنا، في صناعاته الالكترونية، عبر شراكات تطبيعية تعطي معظم الربح والتطور له، مقابل استغلال أبنائنا المتعلمين وإعطائهم الفتات مما يتحقق من دخل وأرباح .
من يريد تحسين وضعنا الاقتصادي، عليه أن يساند نضالنا للتحرر من نظام العبودية العنصري الاستغلالي، وأن يساعدنا على إنشاء مصانعنا ومؤسساتنا وجلب استثمارات لمشاريعنا الالكترونية التي نديرها بأنفسنا، وأن يضمن لنا حرية الاستيراد والتصدير بعيداً عن الهيمنة الإسرائيلية .
ولن أخوض في تفنيد تفاهة الحديث عن التطوير الاقتصادي كبديل للتحرر السياسي، فهذه بديهيات لم يعد أحد يستطيع نقضها .
حرية الإرادة والقرار هي الشرط الأول لحرية الاقتصاد ولتحسين الوضع الاقتصادي، والحقائق كانت، وستبقى، أقوى من الأوهام مهما بلغت مكانة من يروج لها .