نشر بتاريخ: 04/12/2018 ( آخر تحديث: 04/12/2018 الساعة: 11:42 )
الكاتب: زياد الجيوسي
"الحلقة الثانية"
هي ايدون التي تسحر زائريها كما حورية سمراء تعتلي التلال وتنثر شعرها عليها، هكذا كنت أراها وأنا أتنقل من شارع لشارع ومن منطقة لمنطقة برفقة الفريق المستضيف لي في ايدون، كنا نسير وأستمع لأحاديث يرويها العم أبو خالد الأستاذ "أحمد أبو دلو" وملاحظات مساندة من المربية منى عثمانة، وإشارات هادئة من الشاب الهادئ جدا عبد الرحمن العثامنة، وأضحك مع مشاكسات المربية هند أبو دلو واستمع لانثيال الذاكرة من الفنانة التشكيلية ربا أبو دلو. وما أن أنهينا الجولة في بيوتات عيسى الحاج سالم والتي تحدثت عنها في الحلقة الأولى حتى كنا نتجه لبيت صالح حمد الخصاونة، وهو بيت متميز يشير بوضوح لنمط البناء في ايدون.
أثناء سيرنا على الأقدام باتجاه البيت كان العم أبو خالد أحمد أبو دلو يحدثني عن ايدون وتاريخها بتفاصيل جميلة، فحدثني: "كان أهالي ايدون يسكنون بيوتا من الحجر والطين بطرق بدائية تعتمد على المجهود الشخصي من قبل أصحاب البناء والمعاونين لهم، وكانت الأسقف من الطين المعجون بالقش يسكب فوق القصب، إضافة لبيوت العقد حسب الحالة الاجتماعية والمادية، وكان أهالي ايدون يحتاجون كل عام وقبل فصل الشتاء إلى إعداد كسوة الأسطح من الطين وقش التبن، للحماية من المطر والدلف والثلوج، ومن هنا كان مبدأ "العونة" أساسا في الحياة الاجتماعية، حيث يندفع الجميع للتعاون مع صاحب البيت، إلى أن تغيرت الحال واستبدلت هذه البيوت بالأبنية الحديثة من الحجر والإسمنت واستبدلت "العونة" بالعمال والمقاولين والبنائين والآلات الحديثة".
بيت صالح حمد الخصاونة من البيوتات المقامة على نظام العقود المتوازية وهو النظام الذي كان أكثر استخداما في منطقة ايدون كما الحصن، حيث بني على عدة مراحل من بيوت متلاصقة بلغت أربعة وأحدها تم هدمه، وكل مرحلة مستقلة ببابها عن المجاورة لها، ويظهر هذا واضحا من خلال مشاهدة الواجهة الأمامية والخلفية، حيث تختلف الحجارة إضافة لاختلاف النوافذ وأشكالها، ويضمها جميعا ساحة واسعة ببوابة مرتفعة تجعل من هذا البيت مبنيا على نظام الأحواش حيث تسكن في كل بيت أسرة وعادة تكون الأب وأبناءه، وتكون المساحة الفارغة أمام البيت مزروعة بالأشجار المثمرة التي يتم الاستفادة من ثمرها، ويكون السور مرتفعا حتى لا يكشف البيت وساحته للمارة، وحين ندقق بالبيوتات المتلاصقة نجد أن بواباتها قوسية من الأعلى بحجارة كبيرة وكذلك النوافذ باستثناء البيت الأول ذي النوافذ المستطيلة، كي تمنح البيت القدرة على تحمل الارتفاع الكبير وضغط الحجارة وثقلها لأن هذه البيوتات كان عادة بداخلها درج حجري يصعد للأعلى حيث المنامة وخوابي التموين، وفي الأسفل لاستخدامات أخرى، ويلاحظ أن الواجهة الخلفية المطلة على الشوارع تخلو من النوافذ وطاقات التهوية التي تكون في واجهة البيت في القسم العلوي أعلى الأبواب والنوافذ.
أما السور فكما أشرت فهو مرتفع والبوابة تسمح بدخول الفارس على جواده بكل سهولة لارتفاعها، وكانت البوابات المرتفعة إشارة اجتماعية على أن صاحب هذا البيت ذو مكانة اجتماعية أو كريم يستقبل الضيوف، بينما البوابة الخارجية وأبواب البيوتات الداخلية كما النوافذ من الخشب المتين، ومقابل هذا البيت بيت آخر لكنه بحجم بيت واحد ودون ساحة وأعتقد أنه ما زال مستخدما فبوابته معدنية جديدة، وربما كان لمن سكنه صلة بالبيت الأول الكبير.
حين أنهينا جولتنا في بيت صالح حمد الخصاونة الذي كان مغلقا فلم يتح لنا الدخول ورؤيته وتوثيقه من الداخل، قمنا بجولة في المنطقة المحيطة بها، حين دعتنا السيدة وداد وصديقتها السيدة زبيدة للدخول إلى المنزل الذي تسكنه بالأجرة وهو يعود بملكيته للسيد على هنانده، وهو أنموذج للبيوتات البسيطة في التصميم والبناء كما غالبية بيوتات ايدون التي هدمت، حيث عدة غرف على الجانبين بعد الدخول من البوابة الخارجية القوسية الأعلى وساحة وبئر ماء، ومساحة محدودة تستخدم للزراعة والاستفادة، فكانت لنا جولة سريعة فيها لنتجه بعدها بالسيارت إلى ديوان آل أبو دلو وهو أحد الدواوين الخاصة بالعائلات، وهذه الدواوين والمضافات تستخدم عادة في الأعياد ولقاءات العشيرة وبيوت عزاء أيضا، وإن كانت تصلح أيضا لأن تستخدم لنشاطات فنية وثقافية أيضا.
بجوار الديوان تقريبا شاهدنا مبنى يعرف أنه مضافة الحصن وبجواره منزل الأستاذ عدنان الخصاونة، الذي أتى للسلام علينا حين شاهدني أصور البوابة الضخمة المرتفعة والحجر أعلاها ويشير أن تاريخ البناء يعود لعام 1307 ه ولكن باقي الكلام لم أتمكن من قراءته لتقادم الزمن عليه، وهو من أصدقاء أبي خالد وأعتقد أنهما عملا معا في مجال التربية والتعليم، وبكل أسف كانت المضافة مغلقة فلم نتمكن من دخولها وتوثيقها بالقلم والعدسة من الداخل، لكن البوابة بنيت أيضا على النظام القوسي وبداخل القوس قوس آخر وبينهما الحجر الذي يوثق تاريخ البناء، لكن الجدار الخارجي جرى ترميمه بالإسمنت فوق الحجارة فأخفى جمالية واجهة المبنى وأفقده نكهته وعبق الأجداد، وإن كان أعلى الجدار يشير أن نظام السقف قائم على الدوامر المعدنية التي تحمل المادة التي صنع منها السقف.
من هناك كنا نتجه بالسيارت لقمم تلال ايدون، حيث مناطق قرن الجاموس وصرصرة والوقف،وحيث حقول الزيتون التي تنتج أجود أنواع الزيوت، ومن قرن الجاموس وهي منطقة حديثة وبيوتها حديثة مبنية من الحجارة البيضاء كنا نطل على امتداد ايدون بمنظر رائع خلاب يكشف البلدة وجمالها، بحيث ظهرت ايدون كما شامة حسناء على جيد حورية شامخة، ومع ارتفاع المنطقة شعرنا رغم حرارة الصيف بحركة الهواء وبرودته، وكنت أعيش لحظات خيالية من التأمل للبلدة من هذا المرتفع، ولا أتوقف عن الحركة والتقاط الصور للمنطقة والبلدة، فمن هذا الارتفاع كنت أرى معظم مباني البلدة كما مشفى الأمير راشد وغيره من المباني، فايدون بلدة ضمت في أراضيها مجموعة مشافي منها مشفى الأمير راشد العسكري، ومشفى إربد التخصصي، ومشفى ابن النفيس، ومشفى راهبات الوردية. كما يوجد فيها عدد من الكليات مثل كلية ابن خلدون، وكلية غرناطة، إضافة إلى أن مساحة كبيرة من جامعة اليرموك موجودة ضمن حدودها الجغرافية، إضافة للأندية والفنادق.
ومن هناك كنا نتجه لأعلى الجبل حيث الهواء الذي يشتد بقوته، حيث وقفت أنظر إلى أبراج المراوح الهوائية والتي هي عبارة عن مشروع لتوليد الطاقة من قوة الرياح التي بالكاد تتوقف في هذه المنطقة، وفي تلك المنطقة أيضا سجن ايدون وبقايا معسكرات سابقة للجيش، وهذه المناطق يمكن أن يكون بها منتجعات سياحية لطبيعة جوها وإشرافها وارتفاعها ويمكن زراعتها بالأشجار الحرجية لتكون متنفسا رائعا وجاذبا للسياحة في المنطقة، ولكن بكل أسف أيضا وجدت أن البعض من ضعاف النفوس يرمون بالمخلفات والأنقاض فيها مما يشوه الطبيعة بدون رقيب أو حسيب إضافة لوجود الحفر في الشوارع مما يسبب خطورة على السيارات.
أنهينا الجولة بعد أن شاهدنا مجموعة أشجار تين ركضت نحوها المربية هند بسرعة وقطفت لنا حبات التين العسلية الشهية، متجهين من جديد الى البلدة لاستكمال الجولة في مناطق أخرى تمثل بعضا من تراث وتاريخ ايدون، وهذا ما سيكون مدار الحلقة الثالثة من جولتي في تاريخ وتراث ايدون الحورية السمراء.
أجلس في شرفة وكني الصغير في جيوس أمام حديقتي الصغيرة وأشجارها وورودها، أمتّع ناظري في هذا الجمال بعد أن عدت لقريتي بعد غياب، أرقب قطرات المطر المتساقطة وأحتسي قهوتي وأستعيد ذكريات جولتي في ايدون وأستمع لشدو فيروز: "شتي يا دنيا تا يزيد موسمنا ويحلى، تدفق مي وزرع جديد في حقلتنا يعلا، خليلي عينك عا الدار عا سياج الي كله ازرار، بكره الشتوية بتروح وبتلاقي بنوار، يحلى عيد ويضوي عيد، نزرع ونلم عناقيد".
فأهمس.. صباح الخير يا ايدون الحورية السمراء، صباح الخير لجيوس ووطني.. صباحكم أجمل.
"جيوس 23/11/2018"