نشر بتاريخ: 08/12/2018 ( آخر تحديث: 08/12/2018 الساعة: 23:27 )
الكاتب: المتوكل طه
يوم السابع من هذا الشهر كانون أول ديسمبر ، يكون قد مرّ على انفجارها العبقري واحدٌ وثلاثون عامًا .
تلك كانت انتفاضة كاملة!
كان الفهد خارجاً بكامل سخونته، من الغابة البِكْر، يحمل قلبَ الريح، كأنه عاهل العاصفة . كان ريّاناً مُشْبَعاً بغضب الأشجار التي ماتت واقفة، ولم تركع! وكان صمته قِطَعاً من غضب الليل الذي كَنَس البساطيرَ الثقيلةَ من ليل المدن والقرى، وجعل يقظة الخوف أبديةً في حدقات الخونة والجنود .
تلك انتفاضة .. أو أنها كانت فهداً بريّاً، له أناقة البرق وإغواء الغزال
وشعلة الجسد كلّه.
تلك كانت زفّة واحدة أو جنازة واحدة، أو بالأحرى اختلاط الدمع بالحبق، وملوحة عَرق الأعراف بعسل شَهد الفرس .
وكانت صيحة إسرافيل الفلسطيني، الذي أيقظ الحجر والشجر والطير والينبوع.
وكانت غيث كانون الواضح، أو تردد الغيمة في عباءة العاصفة.
وكانت البداهة والبديهة .
وكانت الدخول الحاسم إلى بهاء الموت برضى كامل وأن تغسل الأرض، كل الأرض ، بوريدك الكريم .
وكانت تاج المليحات، وأم الحكايات، وقصّة الراوي الذي لن تنتهي لياليه .
وكانت لحم التفاحة الأحلى، وليلة الدخلة التي لن ننسى لذعة السوسن فيها، أو حُرقة عجين ورقة الليمون، وصخب أغنيات الأهل الفرحين .
وكانت شهوة الزيت، وانفعال الشفتين، ورضى الزوجات عن الغياب المليء بالدوالي والرسوخ.
وكانت مقابسات ليالي القبر التي أشرقت بالجنين الرسولي، ونهضةُ الفتى لتكتمل دروسه، وتصحو مداركه .
* * *
يغيب الآن الموسم كله، بإرهاصاته، وحلقاته وأسواقه وتجمعاته! وتحضر هندسة الحرب، لتبعدنا أكثر عن فِطرة ما كان في ذلك الموسم من حالات وحكايات . كأن الناس كانوا في موسم قطف الزيتون، أو بناء معبد كبير، أو كأنما يريدون تحويل نهر عظيم عن مجراه، أو إزاحة البحر إلى الوراء .. لهذا لم يتأخّر أحد! كان الرجال أطفالاً وشباناً وشيوخاً في الحقل أو البرّ، وكانت النساء يكملن أعمالهن في البيت دون توقّف!
ولعل التاريخ لم يشهد حالة انشغال دائبة مثل التي كانت، أيام تلك الانتفاضة الكبرى - ولا أقول الأولى - . كما أن المرأة لعبت ذلك الدور الواسع العملاق الذي وفّرته لها تلك الانتفاضة، بانخراطها المباشر في المواجهات اليومية الدامية، وحيث حلّت مكان زوجها الذي اعتقلوه، فأصبحت أماً وأباً، وعمّق حضورها ذلك الدور الاجتماعي المشرّف الذي ظهر في تشييع الجنازات التي طالما انتهت باشتباك طاحن مع جنود الاحتلال، وفي عيادة الجرحى، ومواساة العائلات الثكلى، وزراعة المساكب والخضروات، وتطوير الاقتصاد البيتي ..
ولم نسمع أحداً يسأل عن مصير أُسرته، وهو في حمأة الزنازين، أو في عين المتراس الحمراء .. ولم يخلع الناس - آنذاك - التطهريّة التي تليق بالأولياء والفلاحين البعيدين .. ولم يسقط رجل في إغراء المقارنة بين الطبقة المستريحة الحريرية، التي تشكلت في السنوات اللاحقة بعد أوسلو، وبين أحوال الدهماء أو الرعاع -هكذا يسميّهم البعض-، وينظر إليهم على أنهم ليسوا أكثر من حطب، يصلح للاشتعال تحت طنجرة السياسة حتى تنضج، وبالتالي لا يأكل منها إلاّ الطبّاخون المعلمون، أو المَهَرة .
وفي تلك الأيام، كان الانضباط أعلى، في السنوات الثلاث الأولى، وكان جدار الانتفاضة صلباً، لم تخترقه الأصابع الخفية المدسوسة، أو الشائعات السوداء . وكان الاستنفار كاملاً، ولهفة الناس حاسمة، حيث نكشوا حواكير بيوتهم وزرعوها، ورموا المنتجات الاسرائيلية، وكانوا أكثر قناعة بالتقشف الحقيقي الذي فاق زهد الرهبان في الجبال الجرداء، ولم تكن -حينها- تلك المجموعة التي تدبّ الآن بين الناس، تشدّها مصلحتها - بصفتها كمبرادور يستورد البضائع الإسرائيلية، أو وكلاء لكبرى شركات الدولة العبرية - أو يدفعها طموحها الأجوف - بصفتها، كما ترى نفسها، مؤهّلة لوراثة الحكم، أو من أولي الأمر الذين يجب أن يصنعوا القرارات المصيرية للشعب والقضية- .
وفي تلك السنوات، كانت عبقرية الانتفاضة تتمثّل في تحييد أسلحة الاحتلال الثقيلة، باعتمادها على الحجر والمولوتوف، كما تتمثل - أيضاً - بالالتزام الحديدي والدقيق بالقرارات التي كانت تصدرها القيادة الوطنية الموحدة عبر بياناتها آنذاك .
أيام الانتفاضة الكبرى كان لها لون واحد هو الأبيض الذي يسعى للانتصار على الأسود بكل مكوناته ومصادره . ولم يدخل الرماد إلاّ بعد ثلاث سنوات أو أكثر، من بدء ذلك الانفجار العبقري الواسع والعميق .
في تلك الأيام، كانت روح الجندي المجهول تمور في ضلوع كل الناس، فكان التكاتف والتكامل والتكافل قد وصل إلى أقصى صوره ودرجاته، إلى حدّ أستطيع أن أقول، دون مبالغة: إن المليونين ونصف المليون فلسطيني في الضفة والقطاع كانوا أُسرة واحدة، فالأب للجميع، والأم والدة كل الأبناء والبنات، والأولاد أشقاء نزلوا من مجرى واحد وعسيلة واحدة، يتشابهون إلى حدّ التوأمة، ويتسامحون إلى أن أصبح الإيثار لغة منحوتة، لا يغلبها قولٌ مشبوه أو صراخ حاسد .
تلك الانتفاضة غسلت الجسد الواحد، من كل أدرانه وشوائبه، بعد أن صهرته في مرجل هائل، وسكبته لامعاً مضيئاً، لا طريق له إلا الأمام، بعد أن أحرقت، هنا وهناك، تلك الجيوب المُعيبة؛ سواء أكانت بؤرة للمخدرات، أم السقوط الأخلاقي، أم علبة لليل القاصف، أم بقعة كريهة متصلة بالاحتلال، أم الشقاوة المريبة.
تلك كانت التاج الذي أكمل حجارته المسحورة، والعُرسَ الذي اكتمل إلى حدّ المعجزة، والحجر الخرافي الذي حكّ هواء الفولاذ، فدبّت النار في هشيم الدنيا، وفهقت السماء بنجومها، فغاب الليلُ .. إلاّ قليلاً .. بانتظار الشروق الكبير ، وقبل أن يعترضوا الانتفاضة باتفاقيات أوسلو ، ويردّوها على أعقابها .
أسباب الانفجار :
لعل أسباب انفجار الانتفاضة الأم الكبرى1987، والانتفاضة اللاحقة ، هي واحدة، تتركز وتعود إلى الاحتلال، بكل ما يعنيه، من استلاب ومهانة وقهر وإذلال، يوّلد رغبة محمومة، هي ما يشكّل القرار الحاسم الذي يسعى للتخلّص من ذلك، لتهيئة الأيام القادمة، لتكون أكثر قبولاً ولطفاً وكرامة. لكن الانتفاضة الكبيرة تلك ولولاها لما وجدت الانتفاضة الثانية طريقاً ممهَداً لتمضي ، بمعنى أن تلك الإنتفاضة عملت على تسوية أول درب للشعب الفلسطيني ليمضي إلى مستقبله، بعد أن عملت الأعمال الفدائية منذ انطلاق الثورة حتى حصار بيروت على تهشيم وتحطيم الصخور الكأداء الضخمة التي كانت تسدّ الطريق أمام شعبنا. وبمعنى أن تلك الانتفاضة الأولى قد أسست لشكل نضالي شعبي " سلمي" يتوفر لنا، لتوظيفه كلّما دعت الحاجة لذلك، خصوصاً بعد أن تراكمت الأسباب الداعية لذلك.
وثمة سبب ساهم في اشتعال الانتفاضات ، ألا وهو الاحتقان المكتوم، الذي يتفلّت، هنا وهنا، ويتجلّى في النكات الساخرة، أو الاحتجاجات السياسية المحصورة، أو الخطابات الموسمية الخجولة، أو ينداح في الجلسات الخاصة، والذي يتمحور حول هامش الخطأ فينا . وبالرغم من إنه هامش مسكوت عنه، إجمالاً، ولم يصل إلى حدّ خلق صوت معارض يحمله بكيفية يكفلها القانون أو الدستور، فإنه كلام حق، يتدحرج .. ويكبر، ويختلط بالمبالغة حيناً ويستغلّه الاحتلال حيناً آخر، إلا أنه موجود، ويشكّل سبباً هامشياً للاحتجاج، وإعلاء صوت الغضب.
فالانتفاضة تلك أنضجتها حالة القمع المتواصلة، وحالة الوعي التي تعالت من مصدرين كبيرين، هما خرّيجو المعتقلات وخرّيجو الجامعات المحلية، في حين أن الانتفاضة الثانية أنضجتها حالة الإحباط والغضب وممارسات الدولة الاحتلالية التي لا تطاق.
وقد كشفت لنا الانتفاضة الأخرى، وبشكل صريح واضح أن عقليتنا عذرية تماماً، وأننا لم نستخلص العبر من الانتفاضة الكبيرة ، وأن الأخطاء تتكرر، وتُبهظنا بشكل مجانيّ، كأن الرعاة لم يروا الذئب إلا حينها . ومما يعمّق الأسى والأسف، أيضاً، أن انتفاضة الأقصى لديها من الأدوات ما لم يتوفّر لتلك الانتفاضة الأولى .. وبالرغم من كل هذا وذاك فإننا لم نوظّف هذه الأدوات كما يجب!ومثالنا على ذلك وجود التقنيات المتطورة في عالم الإعلام والاتصالات، من فضائيات وبريد إلكتروني، وانتهاء بتكنولوجيا الأسلحة الدقيقة.
وبالرغم من عدم وجود وسيلة إعلامية سمعية أو مرئية فلسطينية في سنوات الانتفاضة الأولى ، وبالرغم من فرض منع التجوال لمدة وصلت إلى ثلاثة أشهر متواصلة، على مدن وقرى كاملة، فإن الناس لم يُصابوا بحالة من الهلع، خوفاً من نقص المواد الغذائية أو الماء أو انقطاع الكهرباء أو مشتقات النفط .
وبالرغم من أن الاحتلال أغلق الجامعات والمدراس، وفتح سجوناً ومعتقلات جديدة، لتتسع لعشرات الآلاف من المعتقلين والأسرى، فإن الجامعات الفلسطينية كانت تؤدّي رسالتها في غير مكان، وينتقل المحاضر مع طلبته، رغم الحواجز ومنع التجوال، من مكان إلى آخر، مثلما ظلت الجامعات البوابة الأولى التي تشتعل، ليكتمل الحريق المقدّس .. ويمتد من الجامعة إلى المسجد فالكنيسة والشارع والمخيم.
كان الشاب في الانتفاضة الأولى يخجل من نفسه، ويتحاشى نظرات أهله وجيرانه ، إذا لم يعتقل أو ينخرط في أتون المجابهة. وكانت المجالس جميعها تتغنّى بالبطولات الجماعية، وتبحث عن دورها لتؤديه، كأنها برلمان صغير أو مجلس شورى للحارة أو البلدة، وكانوا يحرصون على الانتفاضة حرصهم على دماء أبنائهم وحياة فلذات أكبادهم التي تنزف تحت رعب الهراوات ومدافع الغاز والكلاب المسعورة والرصاص المجنون، في ساحات السجون والزنازين المرعبة!
لم تعرف الانتفاضة تلك أنْ تَمَايز جارٌ عن جاره، أو ضرب أحدهم دفّاً في عُرْس ابنه، ولم يخشع لشهادة ابن بلده! أو وضع أحدهم ربطة عنق يوم العيد، في حين تحوّلت المضافات والبيوت الثكلى إلى عناق حميم، وأيد تضع "ما تيسّر" في أيادٍ أخرى.
لقد كانت الانتفاضة الأولى إثباتاً ناصعاً على إمكانية تحقيق أحلام الجمهوريات المثالية أو اليوتوبيا، رغم الحالة الاستثنائية التي كان يعيش الناس تحت وطأتها، بل ربما ساعد وجود الاحتلال وتحدّيه، بتلك البسالة الجماعية المتواصلة ، على سموّ الناس وارتفاعهم عن "عاديّتهم" واختراقهم الصورة الطبيعية المعتادة.