نشر بتاريخ: 10/12/2018 ( آخر تحديث: 10/12/2018 الساعة: 13:57 )
الكاتب: د. وليد الشرفا
"ان الناس هم الذين يصنعون تاريخهم الخاص، لكنهم لا يفعلون ذلك بشكل مصطنع، في ظروف يختارونها بأنفسهم، بل يفعلون ذلك في ظروف معدة سلفا، معطاة وموروثة، إن تقليد كل الأجيال السابقة ينزل بثقله على دماغ الأحياء مثل كابوس" استعارة من ماركس.
ان التاريخ الطبيعي، باعتباره تاريخ الصراع المفحم للقوة الأخلاقية والقمعية، ضد الخوف والخيال والكسل والخرافة والجنون يجب ان يحكى بطريقة معينة. استعارة من نيتشه.
"تؤسس الأسطورة مفهوما معينا للتاريخ، لا يكون لانصرام الزمان وانسيابه فيه خصائص نوعية، بل يرتكز على بدايات واستعدادات لهذه البدايات، أي من أسطورة بدء يوتوبيا ختام. تصبح معرفة التاريخ ليست إلا إعادة تأسيس للأسطورة على أساس من العلم التاريخي، واستنادا إلى الإذعان إلى السلطة التي تؤسس التاريخ على هذا الأساس. استعارة من عزيز العظمة.
مشهد لن يغادر...
الصباح، ندي وحار نسبيا، الهدوء يغشى القرية مع بداية أيلول عام 1990، بعض الدخان والهواجس ما يميز الأفق، اجلس إلى جانب الشباك المطل على الشارع الرئيس في مدرسة بيتا الثانوية للبنين، مراد ابن عمي يجلس على الجهة المقابلة، فجاة يخترق الهدوء "جيبان" للجيش الإسرائيلي، المفاجأة تتسلل كالدخان وتخترق الهدوء كأفعى، ننظر سوية إلى الشباك، يمد برأسه إلى الأمام، أهز راسي، يهز رأسه، يدفع المقعد، يصرخ، عليهم. دقائق معدودة تفور المدرسة بالطلبة ويعلو الضجيج، تنهمر الحجارة من داخل اسور المدرسة على ناقلتي الجند، المعركة بين داخل السور وخارجه، السور يعاند دخان الإطارات ويرفع الشعارات التي كتبت حديثا وقديما، "الأحد اضراب" منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا، صور لأبي جهاد: اول الرصاص واول الحجارة. "فتح مرت من هنا".
ينتهي النهار بصخب، يغمر الغاز المدرسة، نخترق الجبل صعودا الى منازلنا، الجنود يطاردون الجميع وصوت الرصاص شهادة البداية والنهاية، بعد أسبوع يستشهد مراد برصاصة في الصدر، لا براءة ولا مدارس ولا طفولة، الحديد اكل قلب الصغير، والمقلاع ابتلعته فوهة الدبابة والصباح قبر لا مقعد دراسة، قبر اكثر من مرة وموت اكثر من مرة، أتى الجنود ليلا وسرقوا لجثمان وأعيد ممزقا بعد حين.......
ظل مراد الوادع البريء يحلم ان يكون جنديا فلسطينيا كجنود أبي جهاد وأبي إياد بعد أن تتحرر فلسطين.
رحل ولم يتحقق حلمه. كان مثلي يتخيل أن الملائكة ستأتي لمساعدتنا، وان الثورة خارقة معجزة، وقادرة على ذلك، وان ياسر عرفات مثل عمر ابن الخطاب، سيأتي فاتحا، كل ذلك كان حلمه وخياله وانا مثله، سأهديه روايتي "محكمة الشعب" التي كتبت من وحي المرحلة.
مشهد أكثر تعقيدا..
اذهب الى جامعة النجاح العام 1991 -1992 احمل كآبة مترنحة نحو الماضي وقبر الشهيد وتفاؤل بقرب تحقق المعجزة، كانت ساحة الجامعة قد عبرتني قبل ان أعبرها، من خلال اخبار المطلوبين والمعتقلين من ابنائها، ابناء بلدتي، ادخلها اخيرا، رهبة كبيرة اعداد كبيرة من الطلبة، جلبة وضجة، صور الشهداء والقادة تغزو الأزقة والجدران. كوفيات بيضاء وحمراء ولحى وإشارات نصر في التحية وإشارات الشاهد كذلك.
سقطت البراءة في الشهر الأول لدراستي، سمعت للمرة الأولى ان المعجزة لن تتحقق، وان الشهداء حتى يدخلوا الجنة يجب ان يدافعوا عن الحق وعن كلمة الله، وان ياسر عرفات ليس عمر لأنه لا يريد تطبيق الشرع ولا يفرض الحجاب على بنات المسلمين، وانه يتحالف من الكفرة والملحدين، وان الله لا يستعين بكافر على كافر، لذلك فان النصر لن يتم ولن تتحقق المعجزة حتى نطبق قوانين المعجزة وهي العودة الى الله، والامتناع عن الحرام. خفت على مراد من ان لا يذهب إلى الجنة لأنه لم يكن يفهم هذه التعقيدات وكان يحب ابا عمار مثل معظم الشهداء الذين سقطوا وقتها.
لا يبكون على الشهداء هناك مثل أبناء القرية، وجوه عابسة وقليل ما يشارك أبناء الجماعات الفلسطينية تشييع شهداء الجماعة الأخرى، في الجامعة ليس فقط الشهداء والمحتلون، بل علمانيون كفرة ومؤمنون موحدون، وماركسيون ثوريون، والحق والباطل ليسا بين الشهداء والجنود فقط، بل بين الملتحين وغيرهم من الجماعات، وبين غير الملتحين كذلك.
بذخ الايدلوجيا، نهم اللغة...
حتى العام 1994 لم يكن هناك اي حديث عن اوسلو، ولا عن السلام، ولا عن الخيانة، كانت الجامعة مجموعة من المشاربع الكبرى التي تتربص بالعالم، وكانت فلسطين هي ساحتها، او هكذا كنا نتوهم، مشاريع الحق والباطل، كان الحق هو الاسلاميون والماركسيون مثلا، لم يكن للإسلاميين وقتها اي حديث ارضي، كان العالم وحدة زمانية؛ يحقق الابناء وصفة الرب للمعجزة فتحرر البلاد، هكذا وعد الله وهكذا سيتم، اما مع الله واما ضده، كان خصومهم من العلمانيين والماركسيين، اما فاسق يستتاب واما مرتد يطبق عليه الحد، ولن يتم النصر طالما نحارب – كانوا وقتها في بداية حربهم – تحت اي راية غير راية لا اله الا الله، لذلك علينا ان نعد، فيصدق الله وعده، سمعت في احد الحوارات ان المسلمين هزموا لأنه كان بينهم من لم "يتسوك"، فكيف ننتصر بهذا التبرج والفسق والتشبه بالكفار، لا ، من والاهم فهو مثلهم....
كان اليساريون الشق الاخر من الثناثية، اما ثوري واما رأسمالي، المعركة ضد البرجوازية وضد توحش الرأسمالية، وفلسطين راس الطليعة الثورية لإسقاط الامبريالية، واي تناقض غير التناقض المادي للاحتلال هو خيانة مؤقتة يلزمها تفجير الوعي الثوري، بهمة الرفاق.
العلمانية والبرجوازية الصغيرة، كانتا لازمتان ايدولوجيتان رفعهما جمهور الطلبة ضد بعضهما بعضا، كانت ساحة جامعة النجاح تبدو انها مهبط الوحي او ساحة حمراء جديدة -ليس المقصود الساحة الحمراء في الجامعة..
قبل اتفاق اوسلو رافقت الطلبة في زيارة لجامعة بيرزيت، كانت وقتها اكثر القا وتؤلقا، كان هناك اجتماع تعارفي، دخلت الجامعة في كلية الهندسة، ورأيت ملصقات على الجدران تحتفي بتقدم الكتلة الاسلامية في انتخابات النوادي، اذكر منها : بل "نقذف بالحق على الباطل فيدمغه"، الكتلة الاسلامية تحقق نصرا مؤزرا في معقل العلمانية واليسار .......
منذ بدايتي لم اكن مولعا ببذخ اللغة واكره القطعيات، الطبقية واليقينية، وكنت قبلها قد اصدرت روايتي _ مع التجاوز – الثانية بعنوان اعترافات غائب، يرفص النص التحالف مع التاريخ او الله، ويفند ببراءة، المطلقات مهما كان لونها، كان مراد الشهيد قدوتي الصامتة، لذلك لم اتحيز مع حوزة الربانيين ولا اليساريين، احببت الشهداء دوما والكلام البسيط، فوليت وجهي بهدوء نحو الجماعة التي تشيع الشهداء ولا تتحدث مصطلحات كبيرة.
كانت الارض كلها مصطلحات ومبادئ، اما الحلال والحرام، واما التقدمية والرجعية، وعلى الشهداء ان يدرسوا الكراريس ليناموا بهدوء وسكينة، كان الورق اغلى من الدم والجدل اقوى من المجالدة.
اوسلو: لعنة الرب ولعنة التاريخ! !
مع اوسلو، انفجرت الايدلوجيا الفلسطينية انفجارا حطم المبادئ وانتجت بذخا ونهما في اللغة قرب السماء من الارض واحدث هزة اوحت بان المعركة الكونية في ذروتها ان الرجعية والعلمانية والتخاذل تلفظ انفاسها الاخيرة، فالخطايا والاخطاء عمت وطغت والخلاص لابد قادم.
طبعا عارضت الاتفاقية، بل على العكس رفضتها قطعا، وكنت اتخيل ان رفضي سيزلزل الارض وما حولها، رفضتها لكني لم انضم لجوقة المتحالفين من الاسلامين والماركسيين، وبقيت مشدوها امام بلاغة الرفض وبذخ اللغة، هذه المرة تسقط المبادئ والحلال والحرام امام حدث اكثر جلالا، لم اشارك في النقاش الدائر بين المؤيدين والمعارضين صمت محبطا من المصير، وبدات اسمع الكلام الخطير حول توحش الرسمالية والكفر والعمالة، كانت هناك حالة من الرفض لأي تبرير من مؤيدي الاتفاق، تتفكك فصائل منظمة التحرير وتنتج تحالفات جديدة، مؤيدو الاتفاق وهم والثوريون في سوريا، تحت تحالف القوى العشر.
ما كان يثيرني وقتها ما الفرق بين تغيير المبادئ والمواقف !! عند الايدولوجيات الكبرى؛ وكيف تم تعطيل التاريخ لصالح المبدأ في اللحظة نفسها، كان الاسلاميون برددون : هل يحق لمن لا يملك المهر ان يزني، وكان الثوريون يرددون : من تعب من المسيرة فليخلي لنا الطريق ! اما المؤيدون الثكالى – الاغبياء الان- فظلوا يرددون :فن الممكن !!!
كيف انتقل بذخ الحلال والحرام والتقدمي والرجعي الى بذخ الخياني والثوري، في اللحظة نفسها ظل الشهداء حالة مشبوهة؛ اما تموت على طريقتي في اللحظة التي اعيش بها انا على طريقتك، لقد اسقطت البلاغة الايدولوجية الواقعية الانتخابية، فما نتج عن الباطل باطل ، الانتخابات – الاولى في اوسلو – باطلة لأنها باطلة شرعا ،وولادة تقاسم وظيفي مع الاحتلال جدليا وماركسيا.
بعد الثنائيات جميعا؛ ارضيها وسماويها، بقيت ثنائيتان ضديتان: المقاومة والخيانة !
بعد فشل التفاوض يتم حصار ياسر عرفات، وتبدأ مواجهة مسلحة هي الاعنف في الوطن المحتل، قال الاحتلال ان ياسر عرفات هو من مولها وحولها، يحاصر الرجل، بعد ان رفض تأجيل قضايا الحل النهائي، وبعث رجاله ليشتبكوا مع المستوطنين والجنود، يحاصر عرفات ويظل ينعت بالمفاوض، كانت وقتها العمليات في اوجهها، قبلها كان قد اشتبك مع الاحتلال للمرة الاولى – بعد عودته -في هبة النفق من اجل القدس التي قال :انها ليست ارضا سائبة.
عندما حلق قبل روحه مودعا الارض التي قوطع فيها – المقاطعة – اوصى من حوله بقوت الناس والاسرى والشهداء.
يجتمع الان قادتنا وهم على ابواب الشيخوخة، ويستمر البذخ البلاغي تحت قبة برلمان اوسلو، وتعود الواقعية السياسية باقتراح رباني، ولا حديث عن الكفر والرجعية، لا صواريخ ولا رصاص، وجوع كبير، وحده عرفات "الملعون عند باغضيه" يلعن وتردد كلماته: ع القدس رايحين شهداء بالملايين، يرحل وحيدا بعد ان اقنع دمه بالمقاومة، في حين اقنع لاعنوه الناس بالتفاوض المقدس، لا نفير عن القدس ولا عليها.
يستمر الثوريون والواقعيون بالتناقض، وينتجون اوطانهم البلاغية، لكنهم يجتمعون اخر الشهر امام باب بنك واحد ورب عمل واحد.
انتفضي ايتها السماء: لقد حقق الشعب الفلسطيني احلام احزابه، فلهم دولتان وراتبان وتاريخان وشهيدان فيما لم يحققوا له لا الخلافة ولا الاشتراكية والا حتى الحرية، اليست ارض البركات، التي تحول الهدنه الى مقاومة وتحول المال عبر المحتل الى انتصار وتؤسس الى علم جديد في السياسة ، هناك فرق بين الحكومة والحكم .
وحده الرئيس يعيش بعيدا عن البلاغة وعن السياسة على طريقة مثقف وجودي، فقد تخلص من عبء المستقبل
انه مكر العقل ونهم الايديولوجيا يستمر الى حين...