الأحد: 24/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

ماذا نريد من الحراك في الأردن؟

نشر بتاريخ: 20/12/2018 ( آخر تحديث: 20/12/2018 الساعة: 21:25 )

الكاتب: نضال منصور

ما زال الأردن يغلي على صفيح ساخن، وما زالت حكومة الإنقاذ الوطني برئاسة الدكتور عمر الرزاز ـ إن جازت تسميتها كذلك ـ مهددة، وتقف على الحافة مع الاحتجاجات الشعبية التي تخرج مساء كل خميس تحت شعارات مختلفة "معناش"، "مش ساكتين".

تتعمق الأزمة بعد الاحتكاك والاشتباكات بين المعتصمين من جهة ورجال الأمن والدرك من جهة أخرى قبل أسبوع، واستخدام الأمن لقنابل الغاز المسيلة للدموع لتفريق المتظاهرين أو منعهم اختراق الطوق الأمني المفروض، وتقدمهم لدار رئاسة الوزراء في الدوار الرابع.

وتزايد الاحتقان بعد حملة الاعتقالات لنشطاء الحراك، والإفراج عن بعضهم بعد ضغوط شعبية، ووعود من رئيس الحكومة بالتدخل لإخلاء سبيلهم، وبقاء آخرين رهن الاعتقال والتوقيف، بل وتحويل بعضهم إلى محكمة أمن الدولة.

لا يعرف ماذا سيحدث في الأردن، وإلى أين يتجه مسار الأحداث، وهل ستكون الحكومة قادرة على احتواء المشهد أم ستسقطها صيحات المحتجين؟

تدرك الحكومة تماما أن بقاء الاحتجاجات وتصاعد المطالب وتعددها يهدد استمرارها في دفة الحكم، وتعلم أنه لا بد من الاستجابة لبعض المطالب وتنفيس الاحتقان، ولهذا بادرت إلى سحب قانون الجرائم الإلكترونية ومراجعته وتحسينه، ولو كان التحسين جزئيا وبشكل محدود، وأتبعت هذا الأمر بالمضي في إنجاز قانون العفو العام بعد توجيهات ملكية، ويتوقع في الأيام القادمة أن يكون البرلمان قد حسم مشروع قانون العفو وأصبح واقعا يمتص قليلا من الغضب.

وتزامنت هذه الخطوات وتكللت باستلام الحكومة للمتهم عوني مطيع من تركيا بعد أن وضعت "الإشارة الحمراء" لملاحقته من قبل الإنتربول، وهو ما دفع الرئيس الرزاز بعد جلبه لعمان للتذكير بقول الملك "سنكسر ظهر الفساد" والتأكيد بأن للحديث بقية، مشيرا إلى استمرار الحكومة في مكافحة الفساد والفاسدين، وهذا الأمر على رأس مطالب "الحراكيين" في الشارع.

متابعة ما يكتب ويبث على وسائل التواصل الاجتماعي في الأردن يجعل الصورة أكثر تعقيدا، والأمور أكثر التباسا، وهذا ربما يقضي بالعودة لاستعراض البديهيات والمسلمات لتأطير فهمنا للأمور، وطرح بعض الحقائق بشكل واضح وغير مستتر لعل صوت العقل والمنطق يطغى على التفكير وحركة الشارع.
الحقيقة الأولى؛ إن الأردن من دول الهامش الديمقراطي، وهناك مساحة وفضاء محدودان للحركة السياسية، وليس لدينا وهم أو سذاجة بأن الحريات العامة وحق التجمع السلمي والتعبير متجذرة. واستتباعا، فإن الاعتقاد والجنوح بالخيال ومقارنتنا بفرنسا أو الدول الغربية والحقوق التي وصلوا إليها، مقاربات فيها ظلم وإسقاطات خاطئة، ولا تنسجم مع الواقع أو المسار التاريخي.

وإذا ما اقتنعنا بهذه الحقيقة فإن هذا يعني حكما أن تكون حركتنا بحدود معرفتنا بالواقع، والفرص المتاحة، والمطالب التي يمكن أن نحصدها، وهذا لا يعني التخلي عن حقنا بأن نصل لجميع الحقوق الدستورية، أو الحقوق التي وقعنا وصادقنا عليها في المعاهدات الدولية، إنما المطلوب أن نضع أقدامنا على أرض ثابتة وصلبة حتى لا نتعثر ونقع ونحن نتحرك.

الحقيقة الثانية التي لا نتعاطى معها بواقعية هي قضية "الولاية العامة" لرؤساء الحكومات، وهذا يعني أردنيا أن رؤساء الوزراء يحكمون دون تدخلات وخاصة من الديوان الملكي والأجهزة الأمنية، وتزايدت وتيرة هذا الكلام في عهد حكومة الدكتور عمر الرزاز، وشخصيا أفهم الوضع الدستوري، وأعرف بذات الوقت المعطيات والاشتباك اليومي مع مؤسسات القرار في الدولة الأردنية.

منذ عام 1990 أمارس العمل الإعلامي في الأردن، وبكل أمانة لا أتذكر رئيسا للوزراء امتلك الولاية كما يصورها جمهور النخبة والنشطاء، ولا أعرف رئيسا استحوذ وحده على القرار في الدولة، بل كان في كل هذه السنوات تنازع وتداخل في الإدارة العامة للدولة، حتى لا نقول تجاذبات أو صراعات.

بالطبع كان هناك رؤساء للحكومات أكثر قدرة على فرض إرادتهم ورؤيتهم أكثر من غيرهم، ولكن مهما امتلك الرئيس من قوة، فإن "المؤسسات السيادية" في الدولة تشاركه في القرار، وأحيانا تختلف معه، وتعمل عكس توجهاته.

ولهذا تذكير الرزاز بهذا الأمر والمبالغة به وكأننا قادمون من الفضاء، ولم نكن نعايش هذه الحالة في العقود الماضية، فيه تنظير ورؤية مثالية وتحميله وزر حالة كانت وستبقى، وشروط التغيير لها قواعد مختلفة، آخرها اسم رئيس الوزراء.

الحقيقة الثالثة تراجع ثقة الناس بالحكومة وبمؤسسات الدولة، وهذا ليس سرا وكلاما عبثيا، وهو ما تكشفه استطلاعات الرأي التي تجريها مؤسسات مستقلة، وهذا يعمق الأزمة، ويجعلها قابلة للتكرار والاستنساخ؛ فغالبية الحكومات ـ حتى لا نقول كلها ـ باعتقاد الشارع فاسدة، ولا تملك من إرادتها شيئا، ونفس المعيار ينطبق على الوزراء الذين يتقلدون المسؤولية فهم تحت دائرة الاتهام والقصف في السوشيال ميديا؛ هذا الوضع المأساوي في "انعدام" الثقة لا يتحمل وزره الشعب، بل سببه التجاوزات على مبادئ سيادة القانون، والفساد الذي عايشوه ولم يجدوا فاسدين وراء القضبان، والواسطة والمحسوبية والتنفيعات التي يروها جهارا وليس سرا حتى فقدوا الأمل في الإصلاح.

وحتى القبض على عوني مطيع الذي كان مثار اهتمام الناس لأشهر طويلة لا يفرح الكثير من الأردنيين مثلا، ولا يعزز ثقتهم بحكومة الرزاز التي وعدت بملاحقته بعد فراره، وإنما يدفعها للتشكيك وإثارة الأسئلة مثل "وأين شركاؤه؟"، ويتفحصون أسماء المتهمين فلا يجدون أسماء معروفة، فيقولون "وأين كبار شركائه في الجريمة؟"، وهكذا لا تنتهي حلقات الشك وتحطيم ما تبقى من جسور للثقة تربط المواطن بمؤسساته وحكومته.

وانطلاقا من هذه الحقائق نعود لتقييم واقع الاحتجاجات ومداها وأثرها، ونضع السيناريوهات المحتملة ونسأل أسئلة كاشفة مهمة في سياق الهدف الذي نريد تحقيقه.

ماذا نريد من الاعتصام، هل هو تظاهرة لعرض مطالب الناس وتظلماتهم؟ هل هو موقف سياسي واقتصادي واجتماعي لإسقاط الحكومة؟ هل نريد استعراض قوة الشارع ورفض القبول بالمحددات التي تضعها جهات إنفاذ القانون لتجمعنا السلمي؟ هل نحن مستعدون للاشتباك مع أجهزة الأمن من أجل التأكيد على الحق في الوصول لدار رئاسة الوزراء؟

أعرض هذه الأسئلة لأنني أدرك بوضوح أن مساحات الحركة للاحتجاج السلمي محدودة في بلادنا، وأن هناك خطوط حمر لن يسمح بتجاوزها، وأن هناك مسارات لا يقبل بالخروج عنها، فإن كان مكان الاحتجاج المسموح به الساحة المقابلة لمستشفى الأردن فإن كسر الطوق الأمني للتقدم فيه احتمالات ومخاطر الاشتباك مع رجال الأمن.

بعيدا عن افتراض سوء النوايا والأجندات الخارجية وشيطنة الحراك الشعبي الذي أرفضه ولا أؤيده وأراه سمفونية مكررة وبالية، فإنني لو كنت مكان المعتصمين لأكدت للجميع أنني سألتزم بمكان "ساحة الاحتجاج"، وسنضع الشعارات التي توحد الناس ولا تخلق اختلافات أو مبررات لتأجيج صراع الإرادات.

كل هذا الكلام لا يعني أنني أقدم تبريرا لاستخدام القوة ضد المحتجين حتى لو لم يلتزموا بأوامر وتعليمات الأمن، فاللجوء لأي إجراءات أمنية تحدده وتحكمه بروتوكولات ومعايير حقوقية دولية؛ فهناك مبادئ الأمم المتحدة لاستخدام القوة من جانب الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون، ومدونة السلوك للموظفين المكلفين بإنفاذ القانون الصادرة عن الأمم المتحدة.

وعلى رأس هذه المبادئ والمعايير أن تفهم أجهزة إنفاذ القانون أن وجودها ودورها وواجبها حماية الناس وضمان السلامة العامة لهم، وعدم اللجوء للقوة إلا في حالة الضرورة شريطة تطبيق مبدأ التناسب، على أن تلجأ للتفاوض مع المحتجين وتحذيرهم قبل استخدام قنابل الغاز المسيلة للدموع على سبيل المثال.

حقوقنا ندافع عنها، ولكن إدراكنا لواقعنا السياسي، وعدم القفز في الهواء يساعدنا على تحقيقها دون معارك مجانية، المجتمع في غنى عنها.