نشر بتاريخ: 03/01/2019 ( آخر تحديث: 03/01/2019 الساعة: 11:20 )
الكاتب: سري سمور
عطفا على المقال السابق (هل ينجح التكنوقراطي بما فشل فيه السياسي؟) أعيد التأكيد على خصوصية الحالة الفلسطينية، وطبيعة الصراع، صراع يتطلب ممن يخوضه وضع الهدف الأسمى وهو التحرير نصب الأعين، وهذا يتناقض مع التركيبة والبنية الفكرية للتكنوقراط.
وإذا كانت التنظيمات قد أخفقت-كما قد يحاجج بعضهم- فإن البديل ليس التكتوقراط بالصيغة التي يجري الحديث عنها، ويجب التنويه والتنبيه هنا على عدة نقاط مهمة:-
1) التكنوقراطي عموما ينظر إلى الاحتلال على أنه معيق لشؤونه لا عدوّا مغتصبا لأرضه، قاهرا لشعبه، بحيث تكون الأولوية الخلاص والتحرر، وهذه النظرة أعني بها الجانب التطبيقي على الأرض لا الشعارات والكلمات التي يتحدث بها التكنوقراطي كحالة طبيعية ضمن مواكبة الحال...وحتى هذه الكلمات يضنّ التكنوقراطي بها كلما تمكن وتمدد نفوذه!
2) التكنوقراطي يدعو او يعمل على إدارة الصراع مع الاحتلال، لا السعي الجدي إلى التخلص منه.
3) التكنوقراطيون ليسوا مستقلين وبلا مرجعيات كما يُروَّج، وافتراض الشفافية والمهنية المطلقة سلفا في أدائهم خطأ، وخلوهم من المحسوبية فرضية ساذجة ومفرطة في مثاليتها.
4) كيف سيفهم من عاش وشبّ وصار كهلا متنقلا بين الجامعات العريقة في الغرب ثم بسهولة انتقل إلى العمل في دول ومؤسسات مستقرة، وليس في أسرته شهيد أو أسير، البعد الإنساني للشهداء والأسرى، ويتشبث بضرورة دعم أسرهم وعوائلهم، والحفاظ عليها، وكيف سيدخل إلى وجدانه مفهوم بذل الدم والروح، حتى لو كان خبيرا في شأن ما؟ فإن (البرود) حد اللامبالاة هو المتوقع تجاه هذه الأمور التي هي من أبرز عناوين قضيتنا ومظلوميتنا، فهل هو مؤهل (ولا أريد أن أقول مؤتمن) ليحمل نصيبا من المسئولية عن أصعب وفي ذات الوقت أعدل قضية في التاريخ الحديث والمعاصر؟!
5) التكنوقراط يفترض ضمنا أنه يعمل في بيئة مستقرة، لأنه على المستوى الشخصي قلّما تناله إجراءات الاحتلال الانتقامية أو الاحترازية؛ وبالتالي سيتعامل مع كارثة الاحتلال كشيء ثانوي، وسيفترض في دوافع عقله الباطن أنه يمكن التحرك والعمل والاحتلال موجود، أو أن الخلاص من الاحتلال يكون وفق مفهومه المجرّد من التنمية السياسية والتدافع لبلورة صيغة وآلية تحرك تجعل التحرر أولوية لا نتيجة أو تحصيل حاصل لأداء في حقل من الحقول.
مع كل ما سبق من ملاحظات وتحذيرات فإن حمّى التكنوقراط قد ضربت وما تزال أطنابها وصار هناك اتجاه لتسييس التكنوقراط، باعتبار السياسة هي مدخله.
نريد روتشيلد فلسطيني!
وأرى أن من حق المواطن الفلسطيني العادي، أو المثقف العضوي أن يسأل:أين هو روتشيلد أو روكفيلر أو موسكوفيتش الفلسطيني؟
هذا سؤال مشروع ما دمنا نتحدث في سياق دعم الصمود والثبات على الأرض؟
لو أن لدينا من أمثال أصحاب الأموال والثروات المذكورين الذين خصصوا أجزاء من ثرواتهم لخدمة المشروع الصهيوني، لكفانا الله سؤال العرب، ولو جزئيا، مع العلم أن مشكلتنا خلال كل مراحل مقاومة ودفع المشروع الصهيوني كانت بنسبة كبيرة من حيثياتها ضعف التمويل.
قد يرى مدافع عن فئة كبار رؤوس الأموال بأنهم لا يقارنوا مع نظرائهم اليهود، ليس في حجم الثروات ومقدارها وحسب، بل في حرية الحركة التي يتمتع بها اليهود، ووجود قوانين دولية صارت تجرّم استخدام المال في مصارف دعم مقاومة وصمود الشعب الفلسطيني.
والحقيقة أن تهاون رؤوس الأموال وعدم بنائهم منظومة ودروع قانونية، هي مما أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه، وذلك لعدم وجود استراتيجية في فكر ووعي تلك الفئة لدعم الناس في الوطن والشتات.
واقتصر الدعم على أمور جزئية لم تخلو من استعراض وتفاخر قد يصل حدّ المنّ المؤذي، بينما اليهود في ذروة الحرب العالمية الثانية كانت لهم صفقاتهم مع النازي بذهبهم وأموالهم.
ولكن ما علاقة رؤوس الأموال بالتكنوقراط؟
هي علاقة وطيدة ذلك أن التكنوقراط هم الوجه الآخر لرؤوس الأموال، أو على الأقل جهودهم ونتاج عملهم يقوي رؤوس الأموال ويزيد من حجم ثرواتها، نظرا لطبيعة الفكر الذي يسيطر على التكنوقراط، كما أشرت إليه سابقا...فالتكنوقراط ورءوس الأموال بمثابة توأم سيامي لا فكاك لأحدهما من الآخر...وأكرر السؤال عن (روتشيلد) الفلسطيني؟ولو وجد لكنت أول من يصفق ويدعو لإدارة تكنوقراطية بحتة!
ومع كل ذلك فإن التكنوقراط مهما نجح في إدارة أزمات وحل مشكلات في مناطق مستقرة نسبيا، فإنه لا يصلح البتة للتعامل مع حالة شعب واقع تحت الاحتلال، وفق ظروف مختلفة صنعها هذا الاحتلال لكل شريحة أو منطقة وأهلها، وملايين في الشتات في مخيمات اللجوء أو بوثائق سفر أو حملة جنسيات أخرى...فالتفكير بإدارة تكنوقراطية في ظل ظرف احتلال معقد هو الاحتلال الصهيوني فكرة حالمة بعيدة عن فهم الواقع وطبيعة الصراع الوجودي.
الطريق الثالث...الفكر والتجربة
قبيل انتخابات المجلس التشريعي مطلع 2006 وتحديدا أواخر 2005 أعلن عن تشكيل قائمة حملت اسم(الطريق الثالث) على رأسها د.سلام فياض الذي كان قد استقال للتوّ من منصب وزير المالية الذي شغله لسنين خلت، للترشح على رأس قائمة حملت هذا الاسم.
والاسم يدل ضمنا على عدم دعم طريقة فتح أو طريقة حماس، ولكنه لا يلتقي مع طريقة د.مصطفى البرغوثي(المبادرة) التي ترى التركيز على المقاومة الشعبية شبه السلمية، مع ترك نهج المفاوضات، وتجنب الصدام المسلح.
والطريق الثالث إجمالا يرى أن بناء مؤسسات وتحقيق تنمية اقتصادية، وفق نسق معين يستدعي ويتطلب التواؤم أو التماهي مع شروط أو معايير بعض المؤسسات الدولية، سيجبر العالم على الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة، مع تبني أفكار ليبرالية واهتمام ببعض المفاهيم (العصرية) فيما يخص المرأة والمجتمع وقد أعلن مرشحو الطريق الثالث أيضا أنهم ليسوا معارضة بل هم مشروع للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي(أنظر: وكالة معا 16 كانون ثاني 2006 ، مرشحو الطريق الثالث يؤكدون أنهم سيعملون على تشريع قوانين لتحسين وضع المرأة وأسر الشهداء والريف)
الغريب والجديد في الأمر، أن د.سلام فياض أعلن عن تشكيل قائمته محاطا بكل من (ياسر عبد ربه) و(د.حنان عشراوي) وكلاهما قد خاضا معترك العمل السياسي سنين طويلة، بما فيه من تجارب وإخفاقات وإحباطات ومنعطفات وتغيرات، وأيضا فإن عبد ربه وعشراوي يعرفهما الجمهور الفلسطيني-وقتها خاصة- كشخصيتين سياسيتين أكثر من فياض!
هل كان هذا نوعا من وجود حالة تعب أو تسليم، أو لربما رغبة في التجربة، بتحويل السياسي إلى تكنوقراطي، أو الدمج بينهما، وكان تعبيرا عن رغبة فئة من النخبة الفلسطينية، بالعمل خارج الموجود...أو تعبيرا عن رغبة التكنوقراط بخوض معترك السياسة؟
على كل حال فإن طموحات الطريق الثالث كانت محدودة فقائمتهم الانتخابية حملت 16 اسما فقط لا غير، ولم يخوضوا الانتخابات في الدوائر.
ولكن هذا على صعيد صندوق الاقتراع، أي عدم منافسة القطبين حماس-فتح ولكن ماذا على صعيد الفكر العام، وخلق تيار منافس حقيقي يحمل هذه الرؤية؟
السؤال كثيف، ولا أزعم أنني أملك إجابة كاملة عنه، ولكن ثمة بعض الجوانب التي يمكن تسليط الضوء عليها.
خاصة أن الطريق الثالث يتداخل فيه التكنوقراط مع الليبرالية الجديدة مع يسار قديم ومستقلين، وأترك الحديث عنه وعن اليسار الفلسطيني لمقال قادم بعون الله تعالى.