نشر بتاريخ: 11/01/2019 ( آخر تحديث: 11/01/2019 الساعة: 12:31 )
الكاتب: المحامي د.ايهاب عمرو
لعل الصدفة وحدها قادتني إلى حضور لقاء قانوني نظمته إحدى الجامعات العربية قبل عام أو يزيد حول "العدالة العقدية في عقد العمل الفردي".
وأكثر ما استوقفني في ذلك اللقاء هو تلك الفكرة التي أثارها المتحدث، الذي يشغل منصب رئيس قسم القانون الخاص في تلك الجامعة، أن العدالة العقدية تتحقق عند توافر الرضاء بين طرفي عقد العمل، دون النظر إلى طبيعة المراكز القانونية لطرفي العقد من حيث القوة والضعف.
وتكمن خطورة تلك الفكرة، من وجهة نظري المتواضعة، أنها تضع طرفي العقد، كل من العامل ورب العمل، في مستوى واحد من حيث قوة المراكز القانونية. وتلك فكرة غير سليمة كون أن العامل يعد الطرف الأضعف في تلك العلاقة القانونية غير المتكافئة.
وعند استفساري منه عن رأيه بخصوص إدراج شرط التحكيم من قبل رب العمل في عقد العمل الفردي، رغم أن إدراج مثل هذا الشرط في العقد قبل حدوث النزاع وقبل انتهاء مدة عقد العمل يعد غير قانوني نظراً لحالة الضعف التي تعتري العامل عند توقيع العقد ما يمكن اعتبار العقد في تلك الحالة عقد إذعان، أفادني في رده على تساؤلي أن أحد الفقهاء الفرنسيين لا يعتبر الرضائية ركناً من أركان العقد، وأن العقد يعد منتجاً لآثاره القانونية حال توافر الأركان الأخرى.
ولعل ذلك الرأي قد يكون مقبولاً لو تم طرحه في سياق مختلف، وأقصد هنا في سياق غير متعلق بعقود العمل الفردية كون أن العامل يعد الطرف الأضعف في مواجهة صاحب العمل، ناهيك عن إغفال المتحدث لحقيقة أن قواعد قانون العمل تعد قواعد آمرة من حيث الطبيعة القانونية، فضلاً عن تعلقها بالنظام العام بعناصره المختلفة (الأمن العام، والصحة العامة، والسكينة العامة، والأخلاق العامة)، وأن إنتهاك حقوق العامل في هذا السياق يعد انتهاكاً للنظام العام في الدولة. وأكثر ما استوقفني في فكرته هو إشارته إلى أن قوانين العمل بشكل عام تعد متوازنة في حماية مصالح طرفي العقد ما يمنع أي إعتداء على حقوق العامل من قبل رب العمل. وهذا قول مردود عليه دون شك؛ كون أن بعض قوانين العمل، خصوصاً في العالم العربي، لا تنصف العامل في مواجهة رب العمل.
ويعد شرط التحكيم في عقد العمل الفردي خير دليل على نقض تلك الفكرة التي جاء بها المتحدث المشار إليه (فكرة العدالة العقدية)، خصوصاً أن معظم القوانين في العالم ذات العلاقة تعتبر شرط التحكيم الوارد في عقد العمل باطل وغير منتج لآثاره القانونية، حتى في حالة توقيع العامل على عقد العمل. ومؤدى ذلك، أنه يحق للعامل اللجوء إلى المحكمة المختصة بعد إبرام العقد والمطالبة بإبطال شرط التحكيم كون أن الإتفاق على اللجوء إلى التحكيم يكون مقبولاً بعد نشوء النزاع وبعد إنتهاء مدة العقد وليس قبل ذلك، نظراً لحالة الضعف التي تعتري العامل عند توقيع العقد، كما أسلفنا.
وفي الواقع العملي، تقوم المحاكم المختصة عادة بإبطال شرط التحكيم الوارد في عقد العمل الفردي للأسباب المذكورة أعلاه. وفي بعض الدول العربية، ما يشمل دولة فلسطين، أصدرت المحاكم المختصة قرارات بهذا الشأن، منها مثلاً القرار الصادر عن محكمة صلح رام الله بتاريخ بتاريخ 27/2/2014 والقاضي برد طلب قدم لها بعدم قبول دعوى رفعت للمطالبة بحقوق عمالية، بذريعة وجود شرط تحكيم في العقد الموقع بين العامل ورب العمل.
واعتبرت المحكمة في القرار المذكور أن شرط التحكيم يعد باطلاً لكونه يتعلق بحقوق العامل التي هي من النظام العام، وتجب حمايتها وعدم الانتقاص منها. كما أن هذا الشرط قد ينتقص من هذه الحقوق، خاصة وأن توقيعه جاء متزامناً مع توقيع عقد العمل. وفي هذه الحالة يكون العامل في حالة من الضعف تجعله يقبل بأي شرط للحصول على فرصة عمل.
وقد ميزت المحكمة بين حالتي كون شرط التحكيم وارد في العقد الأصلي المبرم بين العامل ورب العامل، وهو ما اعتبرته باطلاً كونه يخالف النظام العام ويخرج عن فلسفة المشرع القانوني وغايته من سن قانون العمل، وبين حالة مشارطة التحكيم، أي وجود اتفاق منفصل عن العقد الأصلي على اللجوء للتحكيم لتسوية النزاع. فإذا كان الاتفاق أثناء سريان عقد العمل أو متزامناً مع توقيع عقد العمل، فإن حكم هذا الاتفاق المنفصل يأخذ حكم الشرط الوارد في العقد الأصلي من حيث البطلان، لاتحاد العلة في المسألتين. أما إذا كان الاتفاق المنفصل على اللجوء للتحكيم قد تم توقيعه بين العامل ورب العمل بعد انتهاء مدة عقد العمل، فإن الاتفاق يعد صحيحاً ومنتجاً لآثاره القانونية نظراً لزوال حالة الضعف عن العامل بعد انتهاء العمل، مما يجعله قادراً على التصرف بحقوقه دون ضعف أو خوف من رب العمل.
في ضوء ما سبق، نستطيع القول أنه يحظر الاتفاق على اللجوء إلى التحكيم في عقد العمل الفردي بسبب مخالفته للنظام العام، وإلا فإن القول بغير ذلك يشكل مساساً بالعدالة العقدية في عقود العمل الفردية. وهذا ما أخذ به القضاء الفلسطيني والقضاء المقارن.