الخميس: 28/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

مسرح الشارع

نشر بتاريخ: 24/01/2019 ( آخر تحديث: 24/01/2019 الساعة: 14:37 )

الكاتب: تحسين يقين

نظمت حملة التضامن مع الشعب الفلسطيني عرضاً لمسرح "الشارع" في مدينة شيفيلد بشمال بريطانيا، تضمنت فقرات ومشاهد تبدو حقيقية لاعتقال الأطفال الفلسطينيين في الشوارع، وعلى الحواجز. يظهر في الفيلم رئيس لجنة التضامن مع الشعب الفلسطيني مشير الفرا مرتديًا ملابس ضابط عسكري إسرائيلي، يقوم بتعنيف الأطفال في الشارع ومعاملتهم بقسوة، ويأمر بتعقبهم واعتقالهم، وقد حاول أحد المارة التصوير وكان الفرا مندمجًا في الدور، فحاول مهاجمة المُصور، بكعب البندقية كما يفعل جنود الاحتلال مع طواقم التصوير التي تحاول توثيق اعتداءاتهم.
في القدس كان الفنان المقدسي حسام أبو عيشة يستخدم مسرح الشارع بطريقته، في "مسرح البسطة" للتعبير عن هموم المقدسيين. ولعلّ هموم المقدسيين هي نفسها هموم الفلسطينيين وطنيا واجتماعيا.
ما يناسب مسرح الشارع عالميا هو ما فعله الناشطون في مدينة شيفيلد البريطانية، كذلك الحال فإن جمهور الفنان المقدسي أبو عيشة يلائمهم الحديث عن آلامهم وآمالهم.
جميلة الفكرة، باستخدام "مسرح الشارع"، الذي عرفته شعوب العالم ومنها شعوبنا العربية قديما وحديثات، حسب الفترة الزمنية التي عشناها، وما كان يجدّ فيها من فنون.
فلسطينيا الآن، لعل تنشيط مثل هذا النوع من المسرح يمكن أن يضيف لنا، خصوصا في اختيار الشكل الحضاري كحوار وتعبير عن همومنا الوطنية والاجتماعية، باتجاه الرقيّ في النقد سياسيا كان أو اجتماعيا.
منذ سنوات ونحن متشوقون للتعرّف على معلومات حول نشأة الأشكال الأولية للمسرح في العالم القديم شرقا وغربا، كذلك في العصر الوسيط بالنسبة لنا كعرب، كذلك بالنسبة لنا كفلسطينيين، أبناء عدة حضارات مرّت من هنا وما زالت.
لكن ذلك يأتي بالطبع خارج جدل الأسبقية، فلكل فرجته وعروضه التي طورها عبر حضارته، تبعا لثقافته وفنونه، فليس من المهم أن ننفق جهدنا للبحث حول من سبق الآخر في هذا الفن، إلا لدواع فنية لا قومية.
حينما أعددت بحثا عن المسرح الفلسطيني منذ أواخر العصر العثماني حتى الآن، تمنيت لو وجدت معلومات عن المسرح قبل ذلك، خصوصا عن عروض الشوارع، بما فيها من تنوع ثقافي، ودرامي ان جاز التعبير.
وهكذا، فلعل هناك من يدفعنا نحو البحث عن تلك المقدمات الفنية، لعلنا نجد ما أسس لمسرح الحارة، أو عرض الشارع؛ حيث أنه وبسبب التشابه في ثقافة المشرق العربي (مصر وبلاد الشام، وفلسطين منها) ووقوع الإقليمين لتيارات في الحكم السياسي والاقتصادي والثقافي، فلا بدّ أنه كانت هنا مثل هذه العروض، ولعل عرض "صندوق العجب" هو أحدها، كذلك فإن الحكواتي (المقلداتي حسب ما ذكره توفيق الحكيم) هو أحد العروض، والذي تجاوز فيه الحكواتي السرد الى التمثيل صوتا أو عن طريق الملابس.
وأدعي هنا أن حواضر فلسطين القدس والخليل ونابلس ويافا وعكا قد عرفت هذه الألوان، ومن دلائل ذلك أن الفرق الشامية والمصرية قد تبادلت الزيارات بين الإقليمين، وما زيارات المسرحيين من مصر في بدايات القرن العشرين الا قد جاءت في سياق التبادل الثقافي.
عرفت فلسطين الفن المسرحي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، بل قبل ذلك، عبر عدة أشكال لها قيمتها التاريخية في مطلع القرن العشرين خصوصاً بعد الحرب العالمية الأولى، حيث كان من الطبيعي استخدام لمقاهي، والمدارس، والأندية كتجمعات تؤمن شراء التذاكر أو طلب طلبيات الشراب.
وقد ارتبطت نشأة الفرق المسرحية في فلسطين بنشأتها في الوطن العربي ككل، فكان من الطبيعي إذن تشابه شكل عروض الشوارع (المقاهي والساحات)، من خلال خبرات محلية اعتمدت على تقديم النصوص بأسلوب التقليد.
لكن للأسف، فلم يكد المسرح يتبلور هنا في بلادنا حتى ابتليت فلسطين بكل أشكال العنف بسبب الاحتلال الإنجليزي والهجرات الصهيونية، وبسبب حالة عدم الاستقرار والأمن، فيبدو أن عروض مسرح الشارع قد تعثرت في الثلاثينيات والاربعينيات، ومع نكبة فلسطين، فقد تشتت الجهود، فيما ذهب المسرحيون للمسارح العادية، أي دور العرض في الضفة الغربية وداخل فلسطين المحتلة عام 1948.
ولأجل ذلك، وبسبب إدراك المسرحيين لهذه الحالة، فقد راحوا يحاولون استئناف ما تم جزّه ووأد نموه، حيث وخصوصا بعد الاحتلال عام 1967 فقد نشأت فرق مسرحية حاولت استخدام الشوارع، بالرغم من منع سلطات الاحتلال لها بحجة تعكير الأمن. من تلك الفرق "بلالين" وصندوق العجب و"بلا لين"
في الأربعة عقود السابقة، ظهر المسرح الشعبي "سنابل" كمؤسسة ثقافية فلسطينية تأسست في القدس عام 1979 باسم المسرح الشعبي الفلسطيني، ثم اتخذت أسم مسرح سنابل عام 1984 ومقرها قلب مدينة القدس في حي الثوري. تم العمل على افتتاح مسرح سنابل عام 1998، بجهود العاملين والمتطوعين حيث تنقل في عدة أماكن بالمدينة المقدسة. عمل مسرح سنابل ولا زال على تكريس الهوية الوطنية من خلال إنتاج مختلف الأعمال المسرحية للأطفال والشباب والصبايا والكبار؛ وأسهم في بناء "مسرح الشارع" و"مسرح الريف"؛ سعياً منه لتعريض أبناء شعبنا للفن المسرحي الذي نرى فيه رافعة حضارية.
وحين تم تأسيس مسرح عشتار، يبدو أن هاجس عروض الشوارع كانت حاضرة، حيث تمت عروضه في أماكن مختلفة ولم يقتصر الامر على الخشبة داخل المسرح، من تلك العروض (حلم سبل) مسرحية فلسطينية بأسلوب مسرح الشارع، شارك فيها اثنا عشر طفلا تتراوح اعمارهم بين اثني عشر وثمانية عشر عاما نصها مأخوذ من احلامهم.
وهو العرض الثاني الذي نظمه مسرح عشتار بأسلوب مسرح الشارع بعد عرضه العام الماضي مسرحية كلنا في الهوا سوى بالتعاون مع مسرح ريد اند بايت الامريكي والتي كانت محاولة لإدخال مسرح الشارع الى المسرح الفلسطيني.
ولم يبتعد مسرح الحارة عن ذلك، فمن خلال الاسم نستطيع التنبؤ، والمميز انه تم توظيفه لنشر الثقافة المدنية والديمقراطية كما فعل ايضا مسرح عشتار.
ولم تبعد مسارح أخرى عن هذا الاتجاه، مثل المسرح الشعبي الفلسطيني، والطنطورة وعناد وأيام المسرح، كذلك فعل الفنان المقدسي حسام أبو عيشة كما ذكرنا في المقدمة في "مسرح البسطة" للتعبير عن هموم المقدسيين، تحت اسم اخر هو عروض فرجة.
محليا وعربيا ودوليا، من القدس إلى شيفيلد، يمكن جعل مسرح الشارع أسلوب مقاومة من أجل البقاء هنا، والتواجد عالميا بأسلوب جمالي.
كذلك يمكن تطويره في مجال النقد من منطلقات وطنية وإنسانية، لتقريب الكل الفلسطيني من بعضه بعضا، ولم شمل هذا التبعثر الذي هو بلا جدوى.
لو قامت كل فرقة، وكل مسرح هنا بإنتاج مسرحية تلائم الساحات، سيكون بين أيدينا عدة مسرحيات تطوف المدن والبلدات، متجولة بالفكر والجمال، وحرية التعبير المسؤول، ويمكن عرضها بشكل دائم، طوال العام، ما يعني خلق لغة ومشاعر جمعية في ظل هذا التشظي، وخلق لغة سياسية واجتماعية راقية تحترم نفسها والآخرين.
ويمكن خلال ذلك أن يكون مسرح الشارع فاتحة للتغيير، كذلك وسيلة نضالية داخليا وخارجيا..كأجمل ما يكون النضال.