الإثنين: 25/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

نابلس "دمشق الصغيرة"

نشر بتاريخ: 25/02/2019 ( آخر تحديث: 25/02/2019 الساعة: 11:40 )

الكاتب: د. حسن عبد الله

مدينة نابلس من المدن التي تستفزني في كل زيارة لها للكتابة عنها وحولها. قوتان تشداني إلى نابلس، واحدة من الماضي التاريخي، والثانية من الحاضر، حيث تتعايش القوتان في تناغم خاص بين ماضي المدينة وحاضرها، ويمكن للزائر التنقل بين عبق التاريخ القديم وحيوية الحاضر المعاش خلال خمس دقائق مشياً على قدميه، أي بالعبور من شارع إلى شارع أو من سوق حديثة إلى سوق عتيقة مسقوفة، عامرة بالمحال الصغيرة المصطفة على الشمال و اليمين، تشبه تلك التي هندسها وشكلها الزمان منذ مئات السنين في القدس القديمة.
المشترك بين أسواق القدس وأسواق نابلس، هو "القِدم"، وتلك الرائحة المحببة إلى النفس المنبعثة من المحال الصغيرة التي يصعب على الباعة الوقوف فيها بسبب انخفاض سقوفها. إنها رائحة الزعتر والبهارات والقهوة والميرمية والنعناع، لكن باعة نابلس هم أكثر مهارة في اجتذاب الزبائن والتأثير على المشترين، من باعة القدس أو رام الله، فباعة نابلس يمتازون بسلاستهم وكلامهم الحلو واحتفائهم بالزبون، وقدراتهم اللافتة في الإقناع، مستفيدين من ميزة أن أسعارهم منافسة مقارنة بأسعار المدن الفلسطينية الآخرى .
في كتابي ( البستان يكتب بالندى)، كتبت على خلفية زيارة لنابلس تحت عنوان "تعود من نابلس القديمة ويختار قلبك البقاء هناك"، وهذا ما جعلني أقول لنفسي "ما عساني أن أكتب في زيارتي الآخيرتين خلال أقل من شهر؟!". اصطحبت في احدى الزيارتين صديقي الكاتب جهاد صالح الذي قال لي "أنا جاهز لكي نمضي يوماً كاملاً في أسواق نابلس القديمة"، وكان له ذلك، فقد تجولنا في الأسواق أكثر من خمس ساعات، توقفنا وتأملنا ملياً المحال و تحدثنا مطولاً مع الباعة، و تداولنا الأفكار و الانطباعات حول مدينة عريقة، وكنا مجرد أن ندخل سوقاً عتيقة من أسواقها حتى يسارع جهاد و يشبهها بسوق يسميها في دمشق القديمة، فهو عاش أكثر من عشر سنوات في سوريا ، وله خبرة في دمشق، ويعرف شوارعها و أسواقها بكل تفاصيلها، وسمعته خلال الزيارة يشبه نابلس بدمشق عشرات المرات، مؤكداً أنه ليس صاحب السبق في هذه التسمية وإنما فعل ذلك رحالةٌ قبل مئات السنين، ربطوا بين المدينتين شبهاً و عراقةً ونمطاً معمارياً و تقارباً في طباع الناس، وزاد جهاد على ذلك شارحاً، أن طريقة التجار في دعوة المارة إلى محالهم، و اللياقة في مخاطبتهم وتشويقهم و ترغيبهم، هي طريقة تجارية دمشقية معروفة ،فهناك يحتفي البائع بالزبون و يضعه في أجواء تبجيلية، لا تمكنه من الانصراف دون شراء سلعة ما.
ويتضح أن هناك شبهاً بين الأسواق القديمة خاصة المسقوفة، في معظم المدن العربية و الإسلامية، ففي زيارتي إلى مدينة وجدة المغربية، وجدت أن أسواقها القديمة المسقوفة و طريقة عرض البضائع فيها تشبه أسواق نابلس و القدس، بيد أن قدم وعراقة نابلس ليست محصورة في عمارة الأسواق وكيفية تصميمها، بل في الحفاظ على الموروث الاجتماعي والثقافي، وما زالت بعض العادات في المدينة خاصة بها وحدها، وتختلف عن أية مدينة فلسطينية أخرى ، فبينما كنت أسير في أسواق المدينة مع الأكاديمي و الصحافي د.سهيل خلف وهو ابن نابلس، حيث تقابلنا في مركز المدينة، ليصطحبني مشكوراً في جولة نابلسية، شارحاً لي عن كل معلم، ولنفاجأ سهيل وأنا وقد حوصرنا بكم كبير من الناس خرجوا من مسجدٍ قديم في موكب جنائزي (تشييع أحد أبناء المدينة)، وإذا بفرقة تلبس لباساً خاصاً وتضرب بآلات شديدة القدم، فسألته طامعاً في شرحه للمشهد فقال: "هذه عادة تراثية في تشييع الموتى، و الآلات التي يضرب بها أعضاء الفرقة تسمى العدة، وهي متوارثة عبر قرون خلت".
في نابلس تطوف بالمكان ويطوف بك، وفي نابلس تتحرك ذهنياً ووجدانياً مع التاريخ، ويحركك بدوره في مساحات زمنية، تألقت فيها نابلس وظلت كذلك، رغم صعوبات وآلام عانتها بسبب احتلالات وتدخلات خارجية، إلا أنها استمرت وتستمر بخصوصيتها وإقبال أبنائها على الحياة، وبمؤسساتها التعليمية، وجامعتها التي هي الأكبر بين الجامعات الفلسطينية، وبما تتميز به المدينة من صناعات أصبحت ماركة مسجلة باسمها في كل البلدان العربية كالكنافة والصابون.
وإذا كانت بناياتها تتشبث بقمتي جبل جرزيم وعيبال، فإن نابلس بكل مكوناتها تصر على التشبث بماضيها وحاضرها، لكن دون أن تغلق أبوابها أمام المستقبل، فأبوابها مفتوحة على مصاريعها، لأن نابلس تجتهد وتكافح من أجل أن تحفر لها مكاناً في غدٍ مشرق، لتستطيع أن تعبئ رئتيها في كل ثانية بهواء من حرية.
نابلس التي كانت مركزاً اقتصادياً محورياً، تراجعت أوضاعها في الانتفاضة الثانية بسبب الحصار والاقتحامات، بينما هي الآن تستجمع قوتها وطاقتها لتعود إلى مكانها ودورها الطبيعيين، فتنجح في جوانب مهمة، وتصر على تعويض ما فات، وهذا ما لمسه زائر مثلي، يرى في كل مرة يأتي فيها إلى نابلس، إنها مدينة أليفة تُشعر القادم وكأنه عاش فيها كل مراحل عمره.