السبت: 23/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

عيسى قراقع .. راهب الزنازين وعاشق البرتقال الحزين

نشر بتاريخ: 25/02/2019 ( آخر تحديث: 25/02/2019 الساعة: 20:22 )

الكاتب: رئيس التحرير / د. ناصر اللحام

كدت أموت بجرعة زائدة من الحزن والهمّ حين زارني عيسى قراقع وأهداني كتابه الأخير (إمراة الساعة السادسة والثلاثين). ولم يخطر ببالي أنني سوف أعاني كل هذه المعاناة عند قراءتي لهذا المؤلف. هذا الكتاب من مؤلفات الاخ والصديق الوزير عيسى قراقع، رفيق الدرب والزنازين وصديق الجامعة وأزقة المخيمات الفقيرة. وقد اضطر أهل بيتي لاخذ الكتاب من يدي ثلاث مرات خشية أن يصيبني مكروه، أو أن تصيبني الجلطة وأنا أقرأه فيه.  وخصوصا حين يدور الحديث عن أصدقاء مشتركين استشهدوا مثل زياد ابو عين أو جيراني في مخيم الدهيشة ورفاق العمر في التنظيمات الفدائية.. أسرى عرفناهم وعشنا معهم ظلام الزنازين قبل 30 عاما ولكنهم لا يزالون حتى اليوم في سجون الاحتلال ينتظرون الفدائي المظفّر يعود اليهم، ويخلع باب الزنازنة ويطلق أجنحتهم، انتظر الاسرى وانتظروا نحو 40 عاما ولا يزالون ينتظرون في عنابر السجن..  شعرت بوخزة قاتلة وكاد الاكسجين ينقطع عن رئتي حين قرأت اسم الاسير الطوس. يا رب كان معي في غرفة السجن عام 1985 وهو لغاية الان ينتظر الحرية !!!!
يقول عيسى (تورط الاحتلال مع مخيم الدهيشة، لان هذا المخيم خرج من جرحه وغمده الى حقول الهواء. فجر يلقح فجرا، في الدهيشة يرفضون الاختناق بصمت). ومن جهة أراد ان يقارن المخيم بالسجن ومن جهة أراد ان يشابه الاسرى بفدائيي المخيم الذي يتربى على ضريبة الدم لوطن ضرب جذوره في قلبه حتى مات من شدة العشق.
"لا يسمع القناص أناشيد الثوار ولا اغاني العاشقين"!! وكم كان قاسيا وحادا حين كتب عن عرس الشهيد والشهيدة في بلدة سعير قضاء الخليل.. وكيف يمكن للقارئ العالمي والعربي أن لا يتشنج حين يقرأ ان والد الشهيد رائد جرادات وخلال الجنازة قد طلب يد الشهيدة دانيا ارشيد. شهيد وشهيدة قتلهما الاحتلال بوابل من الرصاص، وخلال تشييع جثمانيهما بكى الرجال وزغردن النسوة فوق القبر يزفون عروسا لعريسها في الجنة. لن تقرأ هذا في ملحمة الالياذة ولا الأوذسة، فهذا يحدث في فلسطين فقط. رائد ودانيا يولدان من أجفان الغيب والمستحيل ويدفنان في قبر واحد.. فيقول عيسى قراقع : ينهض أبونا النبي ابراهيم الخليل يفتح المسجد ويقيم الصلاة.
( ارتوت الكتب والخطابات والكلام، تمرّد جيل اّخر على المفردات، خرج من الموت السياسي ومن الاقفاص ومن العبارات، حطّم الاصنام).
لم أعرف اذا كان عيسى يبكي فأبكي معه؟ أم يثور فأثور معه؟ أم يكتب وصيته فأفعل مثله؟
كم كنت مؤلما يا "أبو خالد". مؤلم لدرجة الاغماء، وحاد كنصل شفرة، ورقيق كورقة عنب في الخريف، وواثق كراهب في صومعة.
يقول عيسى قراقع لزياد أبو عين : لماذا سرقت قبري؟ كان هذا قبري فلماذا أخدته أنت ونمت فيه .. شعرت بألم شديد في صدري وجاءت زوجتي وأولادي وسحبوا كتاب عيسى قراقع من يدي وطلبوا مني أن اتوقف عن القراءة. قالوا لي: كفى. سيقتلك هذا الكتاب، سيقتلك.
ومن صديق الزنازين الشهيد أحمد أبو هزاع الى الرفيقة الاسيرة خالدة جرار الى اسراء الجعابيص الى الاطفال الشهداء واحدا واحدا، عيسى لا يكتب بشكل عام بل يحقن الألم في القلوب حتى يكاد القارئ يفارق الحياة بجرعة زائدة.
يا الهي كم كان هذا قاسيا أن الاسير رجب الطحان من القدس، يحضره الصهاينة في 30 اكتوبر 2017 من سجن نفحة الى مستشفى عين كارم وهو مكبل بالقيود لوداع ابنه مجد المريض بالسرطان. وحين دخل الى غرفة المرض بمراقبة الجنود المسلحين لم يعرف ولده من شدة المرض فاضطر لسؤاله من انت؟ وما اسم أمك؟ وما اسم والدك؟ وحين يتأكد انه ولده مجد... تنهار الدموع مثل شلال فوق شراشف الموت على الشاب المريض في مستشفى هداسا عين كارم. وحين مات مجد صرخ الطحان: أيبها النااااااااااس ابني مجد مات. لكن الاحتلال لا يشفع لاب فجعه الموت ويجدد حكم السجن المؤبد عليه.
وبالمناسبة متى يعود الاسير الشرباتي الى ابنه علاء ويحضن قلبه ويدوخ في عسل اللقاء؟ متى يخرج كريم يونس والدفعة الرابعة من أسرى المؤبدات الذين انتظرت امهاتهم باب سجن عوفر لكنهم لم يخرجوا لهن؟
ويواصل عيسى حتى يشارف على الصفحة 300 وهو يمنح لكل أسير قصته الخاصة به، ولكل شهيدة وشهيد قبرا يليق به .. ولا يكتفي بذلك بل يصحبنا الى ثلاجات الموتى، ويعدّ علينا جثمانا تلو الاّخر ولسان حاله يقول: هذا هو الواقع كما هو.
وبعد أن يكوي قلوبنا بالنار ويدمي مقلاتنا، ويذبح الذاكرة من الوريد الى الوريد. يعود عيسى الى بيت لحم.. لم يعد وزيرا لكنه صار أميرا.. ويسرد حكايا الموت البطيء في سجن المسكوبية بالقدس ويرسم لوحة الساعة 36 مع عاشقة إختارت الوطن على جميع الرجال.. لا ينسى أن يأخذنا في جنازة ربيحة ذياب، وجنازة قدم لاسير في مدينة دورا جنوب الخليل.. يعيد رسم وجه مروان البرغوثي على القمر .. 
ويعود لبيت لحم فيقول:
 في بيت لحم يلتقي الحبيب مع الحبيبة، يفكّان قيدهما وينزعان المسامير عن يديّ يسوع ويتعانقان في الضوء. هواء الكنيسة دافئ هذا العام. ماذا ستلبس العاشقة الفقيرة هذه الليلة؟
وكل قصائد الحب والعشق لا تساوي صرخة أسير بالسجن المؤبد يقول لولده الذي مات 
يا حبيبي انتظرني...