نشر بتاريخ: 24/04/2019 ( آخر تحديث: 24/04/2019 الساعة: 10:21 )
الكاتب: د. حسن عبد الله
بداية لا يمكن فصل كتاب "امرأة الساعة السادسة والثلاثين" عن إصدارات سبقته للكاتب المبدع عيسى قراقع ومنها على سبيل المثال "مربع أزرق"، و"كيف تنام وقيدي يكبل حلمك" و"زوابع الخنساء في سجن النساء" و"ذاكرة ملح وحديد" وغير ذلك، بل لا يمكن لنا قراءة هذه النتيجة المتقدمة إبداعياً وإنسانياً بمعزل عن المقدمات الكتابية التي رأت النور على ضوء لامبة كاز في مخيم عايدة، أو تلك المحاولات الشعرية والقصصية للطالب عيسى قراقع في جامعة بيت لحم التي بشرت بولادة كاتب بمذاق مختلف، لتأتي تجربة الاعتقال وتعمد هذه الولادة قراءة وكتابة وانتاجاً ومراساً، ليتجلى التزاوج بين الموهبة والمراس بأوضح الصور على رأي الروائي الكبير حنا مينا، حيث إن التجربة الإبداعية من أجل أن تتوازن وتتكامل لا بد من توافر الموهبة والمراس فيها، فالموهبة بلا مراس تساوي خمسين في المئة، والمراس بلا موهبة حقيقية ينتج جسم كاتب تنقصه الروح.
وبما أننا نتحدث عن كاتب مبدع اسمه عيسى قراقع بجسم إبداعي وثقافي تسكنه روح مطرزة بالجمال، فقد حصدنا في المحصلة النهائية مجموعة من الإصدارات المهمة التي تفاعلت شخصياً مع معظمها، وسعدت بكتابة تقديمين لإثنين منها وهما:
"كيف تنام وقيدي يكبل حلمك" وكتاب "مربع أزرق" الذي قلت من ضمن ما قلت في مقدمته:
"بين عيسى قراقع الأسير وعيسى قراقع الوزير، يُطِلُ الإنسان البسيط، يؤدي مهماته بشكل تلقائي، يكتب، يصرخ، يغضب يفرح ينفطر قلبه حزناً، يشمخ مارده كبرياءً، يشتعل حصان عنفوانه برقاً، يكتب قراقع بخياله وقلمه وقلبه ويومه وأمسه، يكتب بقمره وشمسه، يكتب بمداد بشرته ومداد دمه، فتصير الكتابة مجبولة برائحة البرش تارة، وماء الورد الجوري تارة أخرى".
إن تجربة الاعتقال لم تنته عند عدد غير قليل من الكتاب الأسرى المحررين، بل هي مستمرة، فأدب الاعتقال في رأيي ليس ذلك الأدب الذي كتب في فترة الاعتقال فقط، وإنما أيضاً بعد تحرر المبدع، واعتقد أن الأدب الذي يكتبه الأسير المحرر، خارج دائرة الاعتقال لا يقل أهمية عن الذي يكتب في الاعتقال، وقد يتفوق ما يكتب بعد سنوات من التحرر عما قبله، من حيث المواصفات الغنية وعمق المضمون، لأن مرور السنين، وانفتاح الحياة، والنظر للأمور من زوايا مختلفة، من شأن ذلك أن يعمق التجربة الإبداعية ويخلصها من المباشرة الثقيلة التي يفرضها اعتقال ثقيل.
ولكي لا ابتعد عن أجواء الكتاب أقول:-
خلال إطلاق هذا الإصدار في رام الله قدمت مداخلة في ثلاث دقائق، ذكرت فيها أن قراقع جمع في كتابه بين ثلاثة مستويات أو ثلاث قدرات، فهو كتب نصوصه بقلم صحفي وقاصٍ وشاعر، ولم يتسن لي في عجالة أن أوضح أو أفصّل كيف نميز بين هذه المستويات، بيد أن جوابي التلقائي فألخصه في "الأدوات التي استخدمها الكتاب لكل مستوى".
فقراقع بخبرة صحفي يلتقط عناوينه ومواضيعه، فلديه عين حساسة جداً، قادرة على الرؤية النفاذة، أي أبعد بكثير مما يرى الإنسان العادي، وأقصد رؤية ما بعد الظاهرة، ورؤية ما حول الموضوع، ورؤية ما يختفي ويستتر في دهاليز العمق.
من العناوين الصحفية مثلاً:
"عندما تورط الاحتلال في مخيم الدهيشة"، وتحت هذا العنوان تحرك قلم الصحفي واشتعل حسه الوصفي "أربعة أسرى من مخيم الدهيشة يعيشون في زنازين العزل، يدقون جدران النكبة والسجن بجوعهم"، ثم في السياق ذاته، نجد القاص المتمرس يمتشق قلمه ويكتب:
"تورط الاحتلال مع مخيم الدهيشة، يتنهد المخيم، يتنهد الأسرى، ماء وملح يسيل في الزنازين وفي الأرقة وكأن زمن المخيم لا تتسع له السماء".
إنها لغة قصصية رشيقة، متدفقة، تمهد لنهاية شعرية ممزوجة بالجمال والحزن:
"المخيم هذه اللحظة جسد/ المخيم هذه اللحظة أبدٌ يترجل/ المخيم أسرى يتكئون على قبرهم المقبل/ يتحولون إلى عقود في أعناق الأشجار".
وبالانتقال إلى عنوان آخر: "بين الشهيدين أحمد هزاع وزياد أبو عين ضوءُ ميلاد".
العنوان أقرب إلى الصحفي، أما البداية فقد جاءت على النحو التالي: "في شهر الثلج والبرد والميلاد، سقط الشهيدان القائدان أحمد أبو هزاع وزياد أبو عين"، فالمقدمة هنا ذات مواصفات صحفية إخبارية، ثم ما يلبث أن يأخذ القاص دوره وباقتدار ومهنية وحرفية وقبل كل ذلك بموهبة متدفقة، فماذا يقول:-
"بين الشهيدين أحمد هزاع وزياد أبو عين ضوء ميلاد، شجرة تضاء في كل ساحة، أولاد يركضون إلى أحلامهم، يعدمون على كل حاجز يطاردهم القناص الإسرائيلي في النوم واليقظة يدوس على الحلوى والرسائل والعمر الآتي، يسيل الدم، تصمت الشفاه الصغيرة، تسكت الأجراس".
ولأن قراقع بدأ مشروعه الأدبي شاعراً منذ كان طالباً، فإنه لا يتخلى عن الشعر في نصوصه، إذْ يطيب له أن تكون نهاياته شعرية " بين الشهيدين سلام وتحية/ خرج الأول من الثاني زيتونة/ خرج الثاني من الأول حرية/ الظلام والنور في ثوب واحد/ طوبى .... طوبى".
واستشهد ايضاً للتدليل على المستويات الثلاثة بنص "مائة وعشرون دقيقة من بيت لحم إلى الخليل"، فالعنوان إخباري بامتياز، ثم تأتي المقدمة لتفتح الباب على بداية أخبارية "مائة وعشرين دقيقة استغرق الوصول من مدينة بيت لحم إلى الخليل، وكدت ألا أصل، فالمسافة لا تستغرق سوى خمس وعشرين دقيقة...".
ويستنفر بعد ذلك قراقع خبراته القصصية في التعامل مع اللغة وحشدها وتوظيفها الجميل" مائة وعشرون دقيقة من بيت لحم إلى الخليل، أشجار صنوبر زرعت بدل الزيتون والتين، اقتعلوا الأسماء وقشروا جلدة الأرض، والساعة تقول: "كان هنا طابون وحقل وقمح وجرن ومدرسة للبنات، كانت هنا عين "المعمودية" التي تعمد فيها ذلك الطفل الرضيع".
يتأخر قراقع عن الوصول إلى الخليل، حيث الموعد المحدد مسبقاً بسبب معوقات الاحتلال، فيقدم اعتذاراً مؤثراً وطافحاً بالحزن لأهالي الخليل:
"يا أهل مدينة الخليل اعتذر
لم أتقدم نحوكم أكثر
أعتذر
لم أصل حتى الآن
أنا واقف أو عائد مقتول أو حي
وفي الحالتين سوف أتأخر".
اكتفي بهذا القدر من الاستشهادات، مع التأكيد أن هناك امكانية للاستشهاد باقتباسات للتدليل على ما ذكرت من كل موضوعات ونصوص الكتاب، لكن يهمني أن أختم بالخلاصة التالية: إن انفتاح المستويات الثلاثة على بعضها هو مصدر قوة، وتنوع، وتعدد أبعاد ورشاقة في الانتقال من ميدان إلى آخر، فعندما تجتمع ثلاثة مستويات في كاتب واحد، أو في نص واحد، أو في تجربة واحدة، فإنها بالنسبة إلى الكاتب تعني أنه واسع المدارك وفير الخبرة، وحضورها في نص معين يعني أن هذا النص يتدفق حيوية ويتفتق حياة، أما حينما تتكامل في تجربة كلية، تصبح التجربة كلاماً جميلاً ووجعاً ونزيفاً يضمده أمل إذا انطلقنا من واقع معاناة المبدع الفلسطيني في مرحلة شديدة الصعوبة.