نشر بتاريخ: 26/04/2019 ( آخر تحديث: 26/04/2019 الساعة: 19:01 )
الكاتب: نضال منصور
كل المؤشرات تؤكد أن حرية الإعلام في العالم تتراجع، ويصبح العمل الإعلامي أكثر خطورة وتهديدا، ولا خلاف على ذلك بين المؤسسات الدولية والإقليمية والوطنية المدافعة عن الحريات، والتي ترصد واقع العمل الصحافي.
يقر تقرير "مراسلون بلا حدود" الذي صدر مؤخرا "أن وتيرة الكراهية ضد الصحافيين قد تصاعدت إلى درجة جعلتها تبلغ حد العنف، الأمر الذي أدى إلى تنامي الشعور بالخوف، إذ يستمر تقلص دائرة البلدان التي تُعتبر آمنة للصحافيين لممارسة مهنتهم، في حين تشدد الأنظمة الاستبدادية قبضتها على وسائل الإعلام أكثر فأكثر".
الأنظمة الاستبدادية تشدد قبضتها على وسائل الإعلام والإعلاميون ضحية الصراع السياسي
التصنيف العالمي لحرية الصحافة الذي أصدرته "مراسلون بلا حدود" ويشمل 180 دولة يُظهر العداء المتزايد والمُعلن ضد الصحافيين، ويبين أن "آلة الخوف" تعمل بأقصى طاقتها مما يقوض بشدة ممارسة الصحافة في ظروف هادئة، ويقول التقرير "ترتب على العداء المُعلن ضد الصحافيين، بل وحتى الكراهية التي ينقل عدواها بعض القادة السياسيين في العديد من البلدان أعمال عنف أكثر خطورة من ذي قبل وعلى نحو تكرر أكثر من أي وقت مضى، مما أدى الى تفاقم الأخطار التي تنطوي عليها مهنة الصحافة، وهو ما خلق مستوى غير مسبوق من الخوف".
ما بين التصنيف العالمي لحرية الصحافة لمراسلون بلا حدود، وتقريرهم الذي صدر في نهاية العام الماضي تحت عنوان "الصحافة في دائرة الخطر"، وتقرير "فريدم هاوس" عن مؤشر الديمقراطية في العالم، وتقرير لجنة حماية الصحافيين CPJ فإن القاسم المشترك المتفق عليه أن الإعلام أصبح مُستهدفا من السلطة السياسية، وأن مساحات الحرية تضيق حتى في البلدان التي كانت تُعد ديمقراطية ومساحة آمنة لعمل الصحافيين، والأكيد أن الإعلاميين ضحية للصراع السياسي ومحاولاتهم كشف وملاحقة الفساد.
ويُعبر كريستوف ديلوار الأمين العام لمنظمة مراسلون بلا حدود عن هذه المخاوف بتصريحه "إذا انحرف النقاش السياسي بشكل خفي أو جلي نحو جو أشبه ما يكون بالحرب الأهلية، حيث يُعد الصحافيون من ضحاياها، فإن النماذج الديمقراطية تُصبح في خطر كبير".
التصنيف العالمي لحرية الصحافة التي تتبعه مراسلون بلا حدود يُقسّم دول العالم إلى خمسة مناطق بألوان مختلفة تبدأ من المنطقة البيضاء التي تعتبر أن الصحافة تعيش ظروفا وأوضاعا جيدة، وتتدرج بعد ذلك إلى المنطقة الصفراء (جيدة إلى حد ما)، تليها المنطقة البرتقالية وتُسمى (منطقة مشاكل)، ويتبعها المنطقة ذات اللون الأحمر وتُعتبر ذات (الوضع الصعب)، وتنتهي بالمنطقة السوداء وتُعد (منطقة خطرة جدا).
الشرق الأوسط المنطقة الأصعب والأخطر على سلامة الصحافيين
اللافت أن المناطق التي تحمل تصنيف "جيد" للإعلام لم تتجاوز نسبتها 8 في المئة، في حين بلغت نسبة الدول التي تعيش بها الصحافة مشكلات وظروفا صعبة ـ المناطق ذات اللون البرتقالي والأحمر ـ 66 في المئة، والمناطق الخطيرة جدا "اللون الأسود" 11 في المئة، وهذا التوزيع الدرامي والمحزن كاف ليؤشر على أن الإعلام بلغ حافة الخطر، وأن كل الجهود التي تُبذل حتى الآن لم توقف التدهور، ولم تمنع استمرار قتل الصحافيين بدم بارد، أو اعتقالهم تعسفيا، أو مطاردتهم ونفيهم.
تصاعد خطاب الكراهية والتحريض أصبح سمة يمارسها القادة السياسيون ضد الصحافيين ووسائل الإعلام، الأمر بالتأكيد ليس مقتصرا على مجاهرة الرئيس الأميركي ترامب، وإنما أصبحت ظاهرة لا تكمن فقط في تهديدات القادة السياسيين، بل في غض النظر وإعطاء القوة والشرعية لحالات التنمر على الصحافيين من الموظفين العموميين، أو رجال الأعمال، وكل المتضررين من دور الإعلام ورصده للأعمال المخالفة للقانون.
النتيجة الحتمية لهذه الأجواء العدائية للإعلام تزايد اندفاع الصحافيين نحو ممارسة الرقابة الذاتية على أنفسهم حتى يتجنبوا وقوعهم في الخطر، فالصورة أصبحت واضحة لجميع الإعلاميين أن اقترابهم لفضح المشكلات والمواضيع المسكوت عنها، ربما بتسبب في مقتلهم، أو سجنهم، أو حتى فصلهم من عملهم، أو تهديد عائلاتهم، ولهذا فإنهم باتوا يفضلون الصمت أو تجنب الكتابة في "التابوهات" والمحرمات التي تخفيها السلطة، أو لا يفضل المجتمع طرحها وإثارة الجدل حولها.
يسأل مركز حماية وحرية الصحافيين، منذ أكثر من 15 عاما في تقريره السنوي لحالة الحريات الإعلامية في الأردن، الصحافيين عن ممارستهم للرقابة الذاتية، ولم يكن مفاجئا أن الصحافيين الذين يفعلون ذلك لم تقل نسبتهم عن 90 في المئة.
حق الجمهور في المعرفة، ودور الصحافة في كشف الحقيقة، مفاهيم باتت مهددة، وعلى المحك في واقع بالغ التعقيد يفرض على الصحافيين ممارسة رقابة ذاتية شديدة، ويتبعها رقابة مسبقة قبل النشر تمارسها إدارات التحرير في وسائل الإعلام، فما يجازف الصحافيون في كشفه وقوله قد يتعرض لـ "الوأد" من قِبل رئيس التحرير لاعتبارات سياسية، وتفهّمه للخطوط الحمراء التي لا يجوز تجاوزها بأوامر الحكومة أو أجهزتها الأمنية.
♦♦♦
التصنيف العالمي لحرية الصحافة يقدم بانوراما للمشهد الإعلامي العالمي، ويكشف الصورة ليُظهر التحديات، ويؤكد على مسلّمات أبرزها أن الدول الأوروبية، وخاصة الإسكندنافية، ما تزال تتربع على عرش الدول الداعمة لحرية الإعلام، فالنرويج أولا، وفنلندا ثانيا، والسويد ثالثا، وفي المقابل يعيد تأكيد ما هو معروف ومُسلم به أيضا أن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هي المنطقة الأصعب والأخطر على سلامة الصحافيين.
مرور سريع على العالم العربي في التصنيف العالمي لحرية الصحافة يُظهر أن دولة جزر القمر تتقدم المشهد بالمرتبة 56 عالميا، وهذا أمر يبعث على البهجة أن تُنافس دولة صغيرة على الخارطة في مؤشر الحريات، وهو ما يستدعي دراسة شذوذ هذه الدولة عن السائد العربي وهو قمع الحريات والتضييق على وسائل الإعلام، وتحتل تونس المرتبة الثانية عربيا وتحوز على المرتبة 72 دوليا، ومن الواضح أن تونس رغم التحديات والمصاعب استطاعت أن تشق طريقها نحو حالة مختلفة نسبيا عن الوضع العربي حتى الآن، ويمكن القول إن تونس الدولة الوحيدة في العالم العربي التي انعكست ثورتها على مؤشراتها في التقارير الدولية المتعلقة بالديمقراطية والحريات.
بعد جزر القمر وتونس تحتل موريتانيا المرتبة 94، ثم تقفز الدول العربية المتبقية حاجز المئة، فلبنان 101، والكويت 108، وقطر 126، والأردن في المرتبة 130، وباقي الدول العربية أسوأ حالا في التصنيف العالمي.
يتقاسم الصحافيون، في العالم العربي ذات المشكلات، قد تقل قليلا أو تزيد، فمن تملّك الدولة وسيطرتها على وسائل الإعلام، إلى التدخلات الأمنية والوصاية، إلى فرض قوانين مقيّدة، وليس انتهاء بانتهاكات جسيمة وخطيرة، مثل قتل وتصفية الإعلاميين، واعتقالهم، ومطاردتهم، مما يجعل بيئة الإعلام خطرة وغير آمنة.
يمارس صحافيون رقابة ذاتية على أنفسهم ويفضلون تجنب "التابوهات" حتى لا يتعرضوا للخوف والتهديد
لا تحتاج قراءة الواقع الإعلامي في العالم العربي إلى عناء كبير، ففي اليمن يشير تقرير مراسلون بلا حدود إلى أن الصحافيين يعيشون الاعتداءات المستمرة، ويتعرضون للاختطاف والتهديد بشكل يومي، ويؤكد أن الإعلام المستقل نادر، منوها بتأثر وتراجع حرية الإعلام بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء، والتدخل العسكري الذي تقوده السعودية والإمارات، ويضاف لذلك الاضطرابات السياسية والأمنية.
اليمن مثال صارخ على تردي الأوضاع الإعلامية، وعلى ذات المنوال يمكن رؤية الحالة في سوريا، فالتقرير يكثف المشهد بالقول "اعتقالات واختطافات واغتيالات متواصلة تجعل العمل الصحافي خطيرا وصعبا".
عالميا أو عربيا من الصعب أن تعتريك حالة من التفاؤل والأمل أن تنتصر حرية الإعلام على خصومها، وفي أحسن الأحوال فإن ما تطمح له الصحافة أن تظل على قيد الحياة، فإن لم تُجهز عليها يد السلطة، فإن "السوشيل ميديا" يأكل من رصيدها ويحاصرها!