الكاتب: المتوكل طه
خاض العديد من المثقفين في أمر المثقف وعلاقته بالسُلطة أو الجماهير، وتناولوا دورَه وما ينبغي القيام به، وأسهبوا في وضع المواصفات له، وأشبعوا "غرامشي" على سبيل المثال، تحليلاً وذِكراً، ليتفاجأوا بالربيع العربي - الذي تمّ اعتراضه في معظمه حتى بات خريفاً - وراح يتفجّر تحت أقدامهم ! وها هو يتجدّد في الجزائر والسودان بسلميّة ودراماتيكية واصطخاب ..
وثمة تحالفٌ والتحامٌ عميقٌ وطبيعيٌ بين المثقف والثورة، ولا يمكن للمثقف أنْ يستحقّ هذا اللقب ما لم يكن منحازاً كليّاً، ومن دون شروط ، للشعب ولقضاياه، في مواجهة كل الأعداء، وهذا لا يرتبط بوقت محدد أو بزمن الثورة، بقدر ما ينحاز المثقف دائماً لشعبه وتطلعاته، منشغلاً بأمرين على الأقل : أولهما الاصطفاف مع الناس دون تردد أو تبرير، وثانيهما أن يعبّر بإبداعاته عن روح الناس وأحلامهم. وأعني بالمثقف هنا كل من انشغل أو اشتغل بالإبداع دون إغفال لأي صورة من صوره.
ولعل المثقف الذي كان، قبل ربيع الثورات، محاصراً من السلطة والأحزاب ورجال السياسة والدّين الوظيفيّ والمتطرّفين، قد تمّ امتصاصهُ واحتكاره من السلطة التي تمارس كل أشكال الترويع والإجهاض والاستلاب. بمعنى أنه يتم إجهاض المثقف بوضعه في قوالب من الرتابة والتقنين، كما يتم إلزامه تحت وطأة الوظيفة، والسعي إلى لقمة العيش، والخوف على وظيفته، كما يتم فرض الصيغ السياسية والاجتماعية والفكرية عليه، ليؤمن بها ويتبناها ويقوم على تعميمها.
غير أنني أرى مع الكثيرين أن ثمة ثلاث ثقافات: ثقافة سلبية، وأخرى تشاركية، وثالثة مُبادِرة، ويكون المثقف أقرب إلى المبادِرة والتشاركية عندما يجترح إبداعه وهو على مسافةٍ بعيدة من كل السلطات السياسية واللغوية والفكرية الجاهزه والمُعدَّة سلفاً والمبذولة.
والمثقف العربي الذي عاش دون روافع وقوانين تحميه وفضاء حُرّ يناضل .. حتى يتحقق هدفه، ذلك لأن الإبداع هو الأرض الأخيرة التي يمكن أن يحلم عليها، ويتطلع ليرى مبادئه وتطلعاته على طريق التحقّق والحضور.
ويكون المبدع أقرب إلى الحرية عندما يواصل دوره في الاصطفاف مع الناس والتعبير عنهم، أي أن الإبداع هو الحرية، كما يقولون. أما إذا توقف المبدع عن مهمّته، فإنه يتوقف عن الحرية، ويدخُل في عتمة العبودية، أقصد عبودية الواقع المحكوم بقبضة النظام.
والمبدع عموماً هو الذي يتمتع بصفات ثلاث : أُولاها حمولته المعرفية، وثانيتها وَعْيه القادر على جعل هذه المعرفة إبداعاً، وثالثتها أنه صاحب ضمير ينحاز إلى قضايا البشر وهمومهم وتطلعاتهم.
وفي كل ثورة تدّب بين النظام القمعي وجمهور الشعب .. من البديهي أن يقوم المبدع، بصفاته العليا، بالوقوف مع الناس دون سؤال.
لهذا يبدو مُستغرَباً عندما يصطف المبدع مع النظام، لأن المبدع، هنا، يفقد الجانب البدهي والتلقائي والطبيعي لمتطلبات موقفه، ويكون المبدع هنا، أيضاً، إمّا خاضعاً للترغيب أو الترهيب، بمعنى أنه يكون قد تم شراؤه أو إسكاته بالقوة وتهميشه.
وإذا تمت عمليه شرائه، فإن المبدع يكون قد فَقَد الركيزة الأهم من مواصفاته وهي "الضمير"، وبغيابه يفقد صفة الإبداع، لأنّ محتوى إبداعه يكون مزيّفاً وغير حقيقي ومخاتلاً ومرائياً، أو تنفيسياً في أحسن الأحوال. أما إذا تم تكميمه وملاحقته، وخَضَع، فإنه يكون قد فَقَد إحدى أهم صفات الإبداع، وهي القدرة على المواجهة والاختراق والنفاذ والتحدي، وهي الجسارة العقائدية أو الشجاعة الفكرية والتجاوز.
كما أن انحياز المبدع مع أهله وجمهوره لا يكون مجرد تعاطف، بقدر ما هو موقف راسخ ومبدئي وحاسم، وفي كل الأحوال.
***
وللثورة ما قبلها وما بعدها، وأثناء فورانها وحمأتها المتصاعدة، بمعنى أن الحراك ما قبل الثورة يقوم به الجمهور بمكوناته ومؤسساته، بما فيها المبدع وغيره، وهنا تتم المرحلة الأولى من عملية الفَرْز، وغالباً ما يكون المبدع الحقيقي الشجاع قد اصطف، في هذه المرحلة، مع الثورة، وهي في إرهاصاتها الأولى، لأن هذا مكانه الطبيعي ودوره المُنْتَظر منه، لأن الجمهور ينظر إليه كصاحب طبيعي لهذا الدور، وليشكل رافعة وموجّهاً ومسانداً وشاحذاً ومسُتَقطباً للجمهور، وهنا يكون المبدع طليعياً، يكرّس هذه الصفة لنفسه، ويستحقها بجدارة. أما مَنْ يتخلَّف من المبدعين في هذه المرحلة - ما قبل اندلاع الثورة - فإنه يكون أقرب إلى الانتهازيين الخبثاء والمتسلّقين الجبناء.
أما المبدع في مرحلة الثورة وخلال تفجّرها، فيكون في مرحلة فَرْز جديدة، لأن الأمر لم يعد تنظيراً واتخاذ موقف كلامي أو تضامن مجاني، بل انخراط مباشر وحميم في الثورة نفسها، جنباً إلى جنب مع كل الناس، وبما يتميّز به المبدع من قدرات مختلفة.
فإن كان موسيقياً، فعليه أن يعزف للثورة، وإن كان شاعراً، فلينشد لها، وإن كان ممثّلاً، فليجعل الساحات مسرحاً له ولجمهوره، تعميقاً لعلاقته معهم وانصهاره بكل تفاصيلهم.
وهنا لا يجوز الاكتفاء بما اتّخذه من مواقف نظرية قبل الثورة، وإلاّ فإن المبدع سيبدو بوجهين، أو أنه يسوّق كلاماً دون رصيد، وأنه سقط في أول امتحان عملي.
إنّ الثورة ديناميكية، وتتوالى فيها مراحل الفَرْز، وقد يسقط خلالها بعض مَنْ انخرط فيها، وهنا تكون الثورة حجّة عليه وليست له، ومهما كانت ذرائع سقوطه وأسبابها.
وفي المقابل، وفي مراحل متقدّمة في الثورة، وعندما تهلّ بشائر انتصارها، يبدأ، هنا، تساقط القوائم السوداء، وأعني أولئك الذين قفزوا من سفينة النظام المنهار إلى سفينة المنتصرين وقوارب الثورة.
أما مرحلة ما بعد الثورة، فما أكثر أولئك الذين خرجوا من الجحور والصمت المشبوه، وراحوا يدّعون الكثير غير الحقيقي، حتى لكثرة هؤلاء لا تكاد ترى المبدعين الحقيقيين أصحاب الموقف الشجاع.
ولعله من الطبيعي، كردّة فعل لها علاقة بالشعور بالألم، أن تبدأ القوائم السوداء وقوائم العار بالظهور، وتتضمن أسماء أولئك الذين كانوا يُنافحون عن النظام المنهار المنحلّ، أو كالوا الاتهامات الشيطانية للثائرين. وربما لا تكون هذه القوائم مكتوبة ومسجّلة، بقدر ما تبدأ في صدور العامّة من الناس الذين أحسّوا بخذلانٍ من أولئك الذين صنع الناسُ نجوميتهم ومجدهم الساطع، وهنا يستعيد صاحب الشيء بضاعته، بمعنى أن الشارع هو الذي تّوّج هؤلاء المبدعين، وعندما تخلّوا عنه وخذلوه، قام واسترجع تاجه الناصع، لأن الإبداع عملية تبادلية، فيها طرفان، هما المبدع والجمهور.
إنّ قيم الثورة نبيلة، وتتعاطى مع القوائم السوداء وقوائم العار ليس بروح الانتقام، وإنما بروح الفَرْز، وكأنها تقول لهؤلاء: لقد وضعناكم على القمة، لكنكم لم تحافظوا على شرف البقاء في الأعالي، وبهذا فإنكم تنتمون إلى مرحلة ذهبت وولّت، وستذهبون معها، وعليكم أن تخلوا هذه القمة للمبدعين الذين نجحوا في الامتحان، بعيداً عن الانتقام والاتهام.
وهناك في صفحات التاريخ، من حقّ التاريخ نفسه أن يسجّل سقوط المتخاذلين.
وبهذا المنطق، فإن هذا الفرز الذي أنتج قوائم عار وسوداء لا يعتبر نوعاً من المكارثية أو تفتيشاً في الضمائر.
والثورة هي تعبير عن الضمير الجمْعي الذي يعبّر عن موقفه تجاه الفنان والمبدع والمثقف الذي تخاذل، ما يعني أن المجتمع والجمهور والثورة ينظرون بأهمية وقداسة إلى المبدع، لهذا يطالبونه بموقف واضح، لما له من تأثير ولما يُعلّق عليه من آمال وتطلّعات.
ولننتبه إلى أن الوعْي الجمعي أثناء الثورة هو وعْي مميّز، ويختلف عنه في الحالات النمطية والرتيبة، لأن الوعي في الحالات العادية قد يكون موُجّهاً أو مُضلّلاً من الإعلام أو غيره، ولكن في مرحلة الثورة يكون الوعي نابضاً حيّاً حُرّاً ويقظاً، وبالتالي فإن الموقف الذي يعبّر عنه ليس تفتيشاً في الضمائر، وإنما فرْز يمتلك الحقّ بالردّ الحاسم الخالي من المجاملة أو الوسطية أو التبرير، أي أنّ الوعي الجمْعي من حقّه أنْ يردّ على أولئك الذين شيْطنوه وشوّهوه واتّهموه بالرذائل والعبث مراءاة للحاكم، أيّاً كانت مبرراتهم ومرافعاتهم التعيسة.
فالأمر ليس خلافاً على الرأي أو القناعات، وإنما فرْز بين الحق والباطل.
ولا مجال للقول ؛ إن هذه هي حرية رأي، أو من حق كل مواطن أو مبدع أن يتخّذ الموقف الذي يراه مناسباً أو يصطف هنا أو هناك، لأن الحريّة قيمة سامية لا تكون إلاّ مع الحقّ، وفي مواجهة الباطل.
وإن الحريّة بأسمى صورها تتجلّى في قول الحقّ أمام سلطان جائر، كما أنّ الرائد لا يخذل أهله، كما قال النبي محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلّم)، مؤكداً أن قول الحقّ، وإن أودى بصاحبه يجعله في أعلى مرتبة؛ الشهداء .
وربّ قائل : دعوهم، سيتساقطون وحدهم، وأعتقد أن هذا قول غير العارف بقوانين الثورة، لأن هؤلاء المتساقطين يتصيدّون اللحظة للانقضاض على الثورة وإنجازاتها، لأن العار الذي يلاحقهم يجعلهم مع أي مشروع مُضاد للثورة، لتبرير مواقفهم، وتقديمها كأنها خلاف في الرأي.
وثمة مسافة لدى الثورة بين الفَرْز القائم على اللاّانتقام وبين عَزْل هذه الفئات التي تستحق العار والشنار والعزل والمحاصرة.
إنّ شعور بعض المبدعين بالامتنان للنظام السابق، لأنه صاحب مأثرة عليهم، لا قيمة له في رأيي، لأن التقدير، إن كان رمزياً بالأوسمة أو الجوائز، ساقط أصلاً قبل سقوط النظام، وإن كان التقدير مادياً بالإنتاج أو العلاج أو الأموال، فإن ذلك ليس مِنَّةً من النظام، بل حق لكل مواطن ولكل مبدع، وعلى المبدع أن يشعر إزاء ذلك بالخجل، أحياناً، وليس بالتردد للانضمام للثورة، لأنه أخذ حقّاً له، وتم حجب هذا الحق عن آخرين، علماً أن كل شيء هو ملك للدولة والشعب وليس للحاكم أو للنظام.
إنّ التعويل على أنّ الثورة، عادةً، تقوم بعد رسوخها وانتصار مشروعها، وانطلاقاً من قيمها النبيلة ، تقوم بعملية مصالحة بين كل فئات الشعب وتلك المجموعات التي كانت ناتئة أو خارجة عن صفّها، تعويل في غير محله، لأن هذه المصالحة تقع في البُعد الإنساني، أما في البُعد المتعلّق بالإبداع، فعليهم أن يبدأوا من الصفر، وأن يكفّروا عن أنفسهم. وثمة مشوار طويل أمامهم، قد يدركونه وقد لا يسعفهم العُمر، فتلحقهم اللعنة الصامتة.
***
ثمة حالات خاصة من المبدعين شكّل انحيازهم مع النظام، مباشرة أو غير مباشرة من خلال خطابهم الناصح للحاكم، صدمةً كبيرةً لما لهم من مكانة، وكذلك شكّل خسارة حقيقية للإبداع، وربما يكون موقف الثورة منهم أكثر شدّة، لأن سقوطهم سقوط صخور كبيرة، وعندما تهوي تحدث رجّة لا ينكرها أحد، لكن سقوطها يكون سريعاً لأنها ثقيلة.
وربّما لن تفيدهم طاقاتهم الإبداعية المميزة، مهما بلغت، لأنّ مَنْ سقطت ثيابه عنه وبات عارياً لن تغطيّه كل أوراق الغابات وسفسطة ثقافة كائن الأرض والسماء.
إنّ المواقف المنكسرة لبعض "كبار" المبدعين تنمّ عن تشقّق أصيل في شخصية هؤلاء، وأن حمولتهم المعرفية هي أشبه بحمولة الخُرج على ظهر الحصان، أو أقرب إلى جِراب الحاوي منه إلى المفكر أو الفيلسوف، لأنه "يتَمَسْخَر" بالمنطوق الفلسطيني، ويحاول أن يضحك على ذقون البسطاء في تغطية حقائق لا يمكن تغطيتها، مثل أن ثمة رئيساً منُتخباً!! والرئيس هنا ليس رئيساً، بل وريث، وكذلك لم ينتخبه أحد، كما ينبغي للديمقراطية وآليات الحرية.
وإن بعض هؤلاء المبدعين الذين يتشدّقون بالحرية واحترام الرأي والرأي الآخر وبالحوار والاعتراف بالآخر، هم أنفسهم يتّهمون الثورة لأنها بدأت من بيتٍ للعبادة! وهم هنا يُنكرون ثقافة المجموع، وينظرون إليها بدونيّة، باعتبارهم أصحاب ثقافة سامية وعليا!
إنّ مجرد التفكير بهذه الكيفية هو أدنى درجات الانحطاط الفكري، التي تُسفّه ثقافة الآخر وعقائده، والآخر هو لحُمة الثورة ومعظم الشعب بتاريخه وقيمه وحمولته العقدية والإنسانية.
وأسأل: مَنْ أين يأتي هؤلاء بثقافتهم وإبداعاتهم، إن لم تكن نابعةً من أصالة مجتمعٍ حيٍّ وعريقٍ ومنطلق؟ هل كان ينتظر هؤلاء أن تخرج الثورة من صالات الغرْبنة والاستلاب أو من فضاءات الحكّام الوارثين قصوراً وثروات وتاريخاً أكثر سواداً من العتمة والفحم؟ أم أنّ على الثورة رَفْع شعارات المموّلين والمصالح المكشوفة أو السقوط المدوّي في الطائفية ونظريات القَطْع وقتل الأب أو تنقية التاريخ؟ مَنْ قال إن عروة بن الورد، الذي يعجب بعض هؤلاء، كان منفصلاً أو منبتّاً عن ثقافة أهله وربْعه ومجتمعه؟ وكذلك المتنبي إن أرادوا.
إنّ الفلسفة، بشكل عام، هي أحد تجليات الوعي الإنساني، لكنها ناتجة، أصلاً، عن فهم عميق يوصل بين الخاص والعام، فيما نرى هنا المفكر المنكسر يشطب هوية الذات، وهي الخاص، ويلغيها، ويخرجها عن جذورها الحقيقية العميقة، ويريد أن يحلّ مكانها فلسفة البعيد والعام البشري، التي هي غير مجزّأة أصلاً، لكن لكل فلسفة جوهرها الخاص، بمعنى أن الفلسفة اليونانية انطلقت من الثقافة الإغريقية باتجاه الإنساني، ولم تُلغِ الإغريقي لتصل إلى الإنساني، وهكذا ثقافتنا وفلسفتنا تنبع من ذاتنا، وتتخلّق في فضائنا بتشابكها مع محيطها، لتصل إلى الإنساني بنكهتها وملامحها الخاصة.