نشر بتاريخ: 30/04/2019 ( آخر تحديث: 30/04/2019 الساعة: 10:17 )
الكاتب: جواد بولس
سينجح بنيامين نتنياهو باقامة حكومته المقبلة مع حلفائه الطبيعيين وذلك رغم ما نسمعه عن وجود بعض العثرات التي تعيق تقدمه نحو خط النهاية ؛ فمعظم مماحكات الأحزاب المتفاوضة تدور حول ما سيدفعه "السيّد" للعملاء، وهو في هذه الحرفة "معلم المعلمين" وصاحب الخبرة في حياكة ضفائر السلطة وترويض "النمور" قبل دخولها الى قصر السلطان.
ستكون هذه حكومة يمينية عنصرية غير مسبوقة في نهمها للتجبّر بمن ليسوا من "رعاياها " وفي اصرارها على دوس حق "الخارجين عن طاعتها" بتربية أحلامهم البريئة، وفي محاربتها لما تبقى من هوامش ضيقة للتنفس خارج مزارعها وبعيدًا عن أقفاصها.
صارت إسرائيل بعد الانتخابات الأخيرة أكثر عتمة، لكننا ، على الرغم من ذلك، نجد ان الأحزاب والحركات السياسية العربية تتصرف كأنها ممالك لا تقهر، ويتقاذف رؤساؤها الاتهامات بينهم كأنهم قادة لجيوش جرارة يغار منها ابن مقدونيا الكبير ويتمناها "تيمور" الأمير.
حسم معظم المحللين العرب مواقفهم ازاء ما حصل في الانتخابات الاسرائيلية الاخيرة واختلفوا كما يليق بكبار المفكرين وبالمثقفين؛ بينما تمترس المحزبون والدعاة والمجندون في قلاعهم ولسان حالهم يقول: "نفوسنا وبعدنا الطوفان" !
ولقد وعدت قلة من النخبويين والقياديين الغيورين بأن تتدارس تفاصيل التجربة بموضوعية، لتقوم باستخلاص العبر وبتقدير معالم الخسارة، وذلك لإيمانهم بأن الوقوف على التفاصيل وعلى المسببات يُعدّ أمرًا ضروريًا، ليس بغرض الكشف عن المذنبين وتقديمهم للمحاكمة، بل من أجل تشخيص المرض وتفاديه، عساهم ينقذون مستقبلًا، بات يترنح على قرون "أطلس" هذا الزمن.
لن ينجحوا في مهمتهم الا اذا واجهوا جملة من المسائل الأساسية التي حان وقت معالجتها بجرأة ومواجهتها بوضوح وبدون رياء؛ وسأتطرق فيما يلي لبعضها، ولكن هذا لا يكفي.
حدْس الناس لا يخطيء، خاصة اذا اعتمد على كيف ووجهت هزائم الماضي؛ فعلى الأغلب ألا تحاسب الأحزاب هيئاتها القيادية كما لم تحاسبهم في الأمس، وألا يدفع مسؤول ثمن فشله في هذه الانتخابات كما لم يدفع عما سبقه.
لا يوجد بين المواطنين العرب تنظيم يمتلك هيئات قادرة على اجراء مراجعة ذاتية وجدّية من شأنها أن تفضي الى مجازاة المسؤول على نجاحه أو محاسبته عن فشله؛ ومعظم الأطر الحزبية، أو شبه الحزبية، لا تمتلك ثقافة تنظيمية مؤسساتية عريقة كفيلة بإنتاج الضرورة لمثل هذا الفحص ولإنجاح هذه المهمة؛ فأكثرية هذه التنظيمات مارست "حزبيّتها" أو "حركيّتها" تحت عباءة "صاحبها" أو برعاية قائدها/مؤسسها الأوحد؛
وعلى الرغم من أننا نستطيع أن نستثني من هذا الواقع تنظيم "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواه" ومركبها الأبرز "الحزب الشيوعي الاسرائيلي"، إلا أنني أشك، وذلك لأسباب قد نخصص لها مقالا منفردا في المستقبل، في أن ينجح قائدها الأبرز ، النائب أيمن عوده، رغم رغبته الحقيقية، بتنفيذ وعوده باجراء تقييم جذري وشامل لتداعيات الأزمة السياسية الأخيرة ولمستقبل العمل السياسي البرلماني وغيره.
لقد استحضرت الأشهر الأخيرة إلى ساحاتنا، مجددًا، عوارض أزمة الأحزاب والحركات السياسية التقليدية العربية، وذلك بعد أن كشفت عنها، بشكل واضح، نتائج الانتخابات الأخيرة للسلطات البلدية والمحلية؛ فلقد نوّهنا، في حينه، إلى ما "قالته" صناديق الاقتراع في معظم قرانا ومدننا، وأكدنا أن الجماهير نأت، عمليًا، عن تلك الأحزاب التي لم تعد تستثير رغباتها السياسية، ولا تستنفر أمانيهم الاجتماعية؛ وذلك ببساطة لأنها اصبحت أطرًا هرمة تعمل بآليات متكلسة ووفق برامج "فكرية" منبتّة فاقدة لصلاتها بالواقع العام وبالمتغيّرات التي حصلت داخلنا وبعلاقة مؤسسات الدولة بأبناء مجتمعاتنا على جميع الأصعدة والمستويات.
فكيف يصنّف ويعرّف المحللون هوية أحزابنا والحركات السياسية والدينية العربية الناشطة في داخل مجتمعنا العربي المحلي ؟ وهل في رأي هؤلاء المحللين والنقاد ما زالت هذه الأحزاب حاضرة وقادرة على تأدية أدوارها الاجتماعية والسياسية في الذود عن وجودنا وعن مستقبلنا؟ وكيف ستفعل ذلك؟
وعلى الجبهة الثانية، فلقد أجمع نشطاء معظم الأحزاب وجيوش وسائل "الشقاق الاجتماعي" على عدم وجود يسار صهيوني في إسرائيل وعدم أهلية من يعرّفون حزبهم يسارًا كحزب "ميرتس" مثلًا؛ وجنّد هؤلاء هذه المقولة كذريعة لدعم نداءاتهم بضرورة مقاطعة الانتخابات.
ولقد قامت هيئات جميع الأحزاب المشارِكة في الانتخابات برفض نداءات المقاطعة، في حين لم تتطرق معظمها لقضية اليمين واليسار ولحيوية التمييز بينها ولمن يضع الحدود بينها ووفقًا لأي معايير ولأي مساطر؟
لم يكن ذلك مجرد سهوة، بل عارضًا لتفشي نفس الأزمة عندنا! فهل فعلًا لا يوجد لابن العرب يسار سياسي حقيقي؟وما تأثير ذلك على آفاق العمل السياسي والحزبي وعلى هوامش التحالفات بين الجماهير العربية من جهة، وبينها وبين القوى السياسية القائمة في المجتمع اليهودي ؟
لقد أشرت في الماضي إلى حصول انعطاف حاد في مجتمعنا نحو اليمين، حتى غدا خاليًا من قوى اليسار التقليدية أو من بدائلها، على كل ما يعنيه هذا الأمر من تشوّهات اجتماعية وسياسية واقتصادية، وتأثيرها على الهوية الحقيقة للفرد وللمجتمع.
فعندنا من التيارات القومية تشكيلة واسعة، مثل ما عندهم، ولدينا عدد من التيارات الدينية السياسية على تفرعاتها واختلاف عقائدها وأهدافها السياسية. وتحاول، إلى جانبهم، بقايا حركات يسارية أو شبه يسارية أن تعيش بعد أن فقدت معالم طريقها الأصلية وأضاعت قواسم رفاقها المشتركة حتى اختلفوا فيما بينهم على معنى المقاومة وما تكون الثورة ومن هو المنقذ ومن المستبد.
فمن وجد منكم يسارًا حقيقيًا بيننا، ليدلني اليه.
انها مسألة هامة، خاصة عند من يسعى لتشخيص علل مجتمعنا، مستشرفًا حياة سياسية واعدة وعملا حزبيًا من شأنه أن يخدم ابناء المجتمع ويحافظ على هويتهم الجامعة ويمثل مصالحهم على المستويين المحلي والقطري.
يمكنني اضافة عشرات المواضيع والعناوين السياسية والاجتماعية التي تنسّكنا عن معالجتها باستقامة فكرية، حتى أوصلنا انحرافنا وعزوفنا عنها إلى حالة عجزنا الحالية وضياعنا؛ فلأكثر من عقدين كان اليساريون شهودًا على تحلل عراهم الوثقى ولم يواجهوا مصيرهم، بل فضّل بعضهم الركض وراء سراب الشام، واستفيأ آخرون خيمة الأمير، وقصد بعض الحالمين ود موسكو طامعين بظل من الأساطير.
نحن مجتمع مشوه ! ومعذرتي من الأديب الطلائعي، توفيق فياض، صاحب رواية "المشوهون" ؛ فلقد أعلنها في روايته قبل حوالي الستة عقود؛ ورغم اختلاف المحاور والعوارض ومرور الأعوام، نستطيع اليوم أن نحملق في مرايانا المهشمة ونرى كيف تسخر الأقدار من جبننا ويحرج منا الرياء.
وأخيرًا،
ماذا بعد؟ أحقًا كل العرب يمينيون وحسب ؟ وكل اليمينيين اخوة وحلفاء ؟
وماذا سيقول الجبهويون وحلفاؤهم لمن يدعوهم، وهذا مجرد مثال عابر فقط، كما فعل ثلاثة اعضاء الكنيست السابقون (حاييم اورون وديدي تسوكر عن حزب ميرتس وابراهم بورغ عن حزب العمل) لاقامة حلف سياسي يتوافق فيه على برنامج عمل أساسي من غير حاجة إلى التعهد المتبادل ايديولوجيا أو فكريًا، أو كما كتبوا قبل أيام في جريدة هأرتس وشرحوا: "فقط توافقات بين الشركاء على برنامج عمل: مساواة مدنية تامة، إنهاء للاحتلال عن طريق حل الدولتين، واقامة اطار برلماني مشترك .. فالفكرة هي مبادرة إلى مشروع سياسي وفكري .. حلف بين المواطنين.. سد من الأحزاب يحاول التصدي لانسلاخ العرب عن دولة إسرائيل ولانسلاخ دولة إسرائيل عن مواطنيها العرب .."
أليست هذه فكرة شبيهة لمشروع دولة لجميع مواطنيها ؟