نشر بتاريخ: 06/05/2019 ( آخر تحديث: 06/05/2019 الساعة: 11:23 )
الكاتب: صخر سالم المحاريق
لو تمعنّا المعنى الحرفي والاصطلاحي لمسمى (كلية)؛ لوجدنا أنها إطار تنظيمي منفصل أو متصل الجسم عن مسمى الجامعة، والتي تتبع إلى الجامعة في ثناياها التنظيمية، حيث تعد الكليات أقساماً إدارية وتنظيمية مصنفة المسميات والاختصاصات، في إطارٍ كلي تتبناه الجامعات كرسالة وأهداف تعليمية لها في المجتمعات، وذلك لتحقيق "التنمية الشاملة" عبر التعليم كأداة للتنمية البشرية، والتي تعد المحرك لقطاعات التنمية المختلفة، الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، وغيرها، وبمعنى آخر فإن الكلية: هي تقسيم تنظيمي وإداري داخل حرم الجامعة، ضمن منطقة منفصلة أو متصلة جغرافياً، وتحوي عدد من المجالات لمواضيع ذات صلة برؤية ورسالة وأهداف الجامعة الأم، ومثالها كليات الادارة، والاقتصاد، والهندسة، والعلوم وغيرها.
وقد تكون الكليات في حالات كثيرة منفصلة الجسم عن الجامعات، وخاصةً الكليات المجتمعية، أو تلك الراعية لمنظومة التعليم المهني، والتقني، والتعليم المستمر، والتي تمنح درجة الدبلوم المهني المتوسط، بشقيه قصير المدى، وطويل المدى، ولو ربطنا موضوع حلقة اليوم بالمقالة والمنشورة سابقاً بعنوان "التكوين المهني: المدرسة بين اقرأ واكتب مستقبلك"، والتي تناولنا الحديثَ فيها تباعاً وبإسهابٍ حول تطوير وصياغة منظومة تعليمٍ مهني، وتقني، متكاملة العناصر، والعلاقة البنيوية، والتي تمثلت في دور الأسرة كبداية لهذه السلسلة في حلقتها الأولى، إضافةً لدور المدرسة كمكمل لها في إطار هذه الصياغة الاستراتيجية لمنظومة التعليم المهني والتقني، لنواجه التحديات ونخلق البدائل، في ظل القصور والتراجع في دور التعليم العالي والأكاديمي، في مواجهة ظواهر البطالة والفقر والتهميش، والحالة الفلسطينية شاهد كغيرها؛ والتي بلغ فيها السيل الزبى في أعداد الخريجين بنسبة (54%)، وذلك بحسب الأرقام الصادرة عن الجهاز الفلسطيني للإحصاء لعام 2017، والتي أبرزت بشدة أهمية الكليات المجتمعية، ومراكز التعليم المهني والتقني، إضافة لما أوصت به "الحكومات الفلسطينية" المتعاقبة ولا زالت تلك التوصيات حول أهمية هذا النوع من التعليم، كحل مثالي يلوح في أفق مستقبل مغلق ومرهق، أمام جيلٍ من الشباب الفلسطيني بات متلهفاً للعمل ولو بالأجر القليل.
ولكن التساؤل الأهم والذي نطرحه هنا في حلقتنا الثالثة هذه، ضمن هذه السلسة المتتالية والمتصلة العناصر، بالقول هل الكليات الجامعية والمراكز التي ترعى منظومة التعليم المهني والتقني قادرة على خوض هذا التحدي بهيكلياتها وأنظمتها الحالية؟ "الاجابة لا زالت ضبابية" طالما بقيت هذه الفجوة قائمة بين مكونات منظومة التعليم المهني والتقني، نحو المثالية مبتدئة بدور الأسرة وتأثيره في توجهات الطفل المستقبلية واهتماماته، ودور المدرسة في رعاية هذا الاهتمام، وتطوير المهارات اللازمة لتنميته في بيئة مدرسية مثالية، وموجهة وهادفة، كذلك دور الكلية، أو المركز المهني، في صناعة التكامل والانسجام بين النظرية والتطبيق، والحاجة الفعلية للتطوير المستمر على صعيد الفرد والمؤسسة، وليس انتهاءً بدور بيئة العمل، وسوقه، في توطيد العلاقة، وتقليص الفجوة، بين الحاجة والكفايات المطلوبة لسدها، والاقتناع "بفلسفة العمل المدروس بنهج علمي سليم"، يكفل الحقوق ويراعي الواجبات، وفي الختام دور الحكومة، في دعم المنظومة والتخطيط الموجه لها، نحو التنمية المجتمعية الشاملة، والانتاج الاستثماري، لا الاستهلاك على الصعيدين العام والخاص، وما يتطلبه الأمر من تشريعات، وأنظمة، وقوانين، راعية وداعمة.
وعليه يجب على تلك الكليات، والمراكز الراعية، لمنظومة التعليم المهني والتقني، تحقيق عدة شروط كسبيل للنهوض الحقيقي بتلك المنظومة، في فلسفتها البنيوية، والتي يجب أن تكون موجهة، وتدور في ظل فلسفة وطنية للتنمية الشاملة والهادفة، والمقاسة كماً ونوعاً في كافة المجالات، وخصوصاً الاقتصادية، والاجتماعية منها، والمتمثلة في "التمكين الاقتصادي"، من خلال: (خلق فرص العمل، وإدرار الدخل، وتحسين المستوى الاقتصادي للأفراد الملتحقين بالمنظومة، واقتناعهم بالالتحاق بها، من أجل تحقيق ذلك، والسعي الحثيث والمدروس لأجله)، كذلك على صعيد "التمكين الاجتماعي"، من خلال: (التعليم مدى الحياة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية)، لذا علينا الايمان بأن المنظومة التعليمية هي كيان متصل، وغير منفصل الأهداف والغايات عن المجتمع، بل هي إحدى أدوات ووسائل المجتمع، لغايات تحقيق التنمية، لذلك يجب على تلك الكليات مراعاة الاهتمام بما يلي وعلى عدة أصعدة:
• البيئة التعليمية (العملية التعليمية): تفتقد العملية التعليمية بدون مجاملات ومزركشات تجميلية إلى سجل تقييمي، ذو مؤشرات قابلة للقياس والاختبار الحقيقي، والملموس من "الكفايات التعليمية الأساسية والمتقدمة"، والتي تحقق الميزة التنافسية في مجال التخصص، وتحدث الفارق الفعلي في التنمية والتغيير المنشود، والتي تميّز أيضاً كلية تقنية عن أخرى، في قوة خريجها للمنافسة في سوق العمل، وخصوصاً تلك الفجوة الحاصلة بين الجانبين (النظري والتطبيقي)، والحاجة الفعلية والحقيقية في المجتمع، وذلك من أجل صقل تلك المعارف، والمهرات، بطريقةٍ مترابطةٍ مع الواقع المجتمعي، والتي من المفترض تقسيمها إلى: (الكفايات المتخصصة أو المتقدمة، وهي الجانب الأهم، والمهارات المنهجية الأساسية، والمهارات الاجتماعية والحياتية)، والتركيز على صلب التخصص، ومستقبل هذا التخصص، على سبيل المثال لا الحصر، مهنة الفني الميكانيكي والتي يجب أن ينظر إلى مستقبل السيارات فيها: كتكنولوجيا (الهايبرد)، والسيارات الكهربائية، كواقع قادم لا محالة، ويجب الدفع باتجاه اكتساب المهارات المتخصصة في ذلك المجال، لكي لا تصبح هنالك فجوة مستقبلية في مواكبته، بمعنى آخر "التفرعة والتوسع" في مجال التخصص نفسه، لا في متطلبات جامعية لا صلة لها بموضوع اختصاص الطالب، لا تسمن ولا تغني من جوع.
• الرؤية التنموية والوطنية المشتركة: (الجسم التعليمي الموحد، في جودة المدخلات، والعمليات، والمخرجات): أي العلاقة القائمة على أساس تبادل المنافع، والمصالح المشتركة، والتي تصب في الرؤية التنموية للمجتمع، وخصوصاً في جانب التعليم المزدوج، والانخراط في بيئة العمل منذ اليوم الأول للدراسة، والالتحاق بالبرامج التعليمية سواءً كانت أكاديمية أو مهنية، وخاصة في البرامج التي تتطلب التركيز على الجوانب التطبيقية الملموسة، وأنا ممن يؤمن بفلسفة (0 نظري- 70% عملي)، كنهج تعليمي تتبناه منظومة التعليم المهني والتقني، أو بمعنى آخر؛ النظريات المشاهدة واقعاً ملموساً، بجهاز الوعي والحواس عند الانسان، والملاحظة عملياً في بيئة العمل نفسه، لكي تكتسب المهارة بالتجربة والخطأ، لغيات التعلم وفق مقولة: "من لا يخطئ لا يتعلم"، بحيث تكون أوقات الدوام النظري ليومين، والعملي لثلاثة أيام أسبوعياً، لإسقاط تلك المعارف، أو المعلومات الذهنية، على شكلِ مهاراتٍ مكتسبةٍ عملياً بالممارسة المباشرة، ولتعزيز ذلك أقترح المضي قدماً بعملية (التدريب المدفوع أجراً)، وفق نظام الساعة اليومية ولو رمزياً للإحساس بالانتماء للمهنة، وأهمية كون الشخص منتجاً، ويغطي مصروفاته الشخصية أثناء وجوده على مقاعد الدراسة، كذلك المضي في إعداد نماذج تقييمية مشتركة، بين "المؤسسة التعلمية، وبيئة العمل"، يتم دراستها وتقييمها من قبل مشرفين وخبراء، لرصد مدى التقدم في تعلم واكتساب تلك الكفايات التعليمية، من مهارات متخصصة ومنهجية، والتي تحدثنا عنها سابقاً، ووفق مؤشرات قياس واقعية، تقيس سرعة التعلم، ونسبة التقدم، وانحسار الأخطاء في عملية التعلم، عبر التكيّف والتأقلم مع بيئة العمل، في جوانبها الفنية والحياتية، عبر تبني فلسفة الفصل في التقييم، بين الجوانب "العملية والنظرية"، ومدى انسجام المتعلم في تقليص الفجوة بينهما، وذلك حسب طبيعة كل اختصاص، وأهمية كل جانب فيه، سواءً كان ذلك الجانب (النظري المعلوماتي أو العملي التطبيقي).
ومن هذا المنبر الاعلامي والوطني الحر، أجدد دعوتي لكل المهتمين بمنظومة التعليم المهني والتقني، بعقد مؤتمر وطني، ودوري، ومستدام، يجسد شراكة حقيقية نحو تجسير الهوة والفجوة، بين المؤسساتية والمجتمعية، في بناء منظومة صحيحة وسليمة للتعليم المهني والتقني، الهادف للتنمية، ترعاه بشكلٍ دوري وتبادلي، تشارك فيه مؤسسات التعليم المهني والتقني (كليات المجتمع)، كصاحبة خبرة وتجربة حقيقة، وذات مؤشرات فعلية قابلة للقياس الكمي والنوعي، ووزارة التربية والتعليم العالي، ووزارة العمل، كسبيل للتنمية المنشودة عبر هذا النوع من التعليم الموثوق، والخلاق للتنمية بصورها المختلفة، وخاصة