الأربعاء: 05/02/2025 بتوقيت القدس الشريف

الكتاب الورقي مصدر معرفي مُجرّب يصارع ليبقى

نشر بتاريخ: 29/05/2019 ( آخر تحديث: 29/05/2019 الساعة: 12:42 )

الكاتب: د. حسن عبد الله

عندما يصدر كاتب أو باحث كتاباً جديداً، فإنه يتطلع بلهفة لكي يصل إصداره إلى أكبر عدد ممكن من القراء، حيث إن الدافع الرئيس للكتابة يتمثل في التواصل والتفاعل مع القراء في إطار رسالة الكاتب أو المبدع التي صرف الوقت والجهد لبلورتها وصياغتها، بعد اختمارها في ذهنه إما كنص أدبي أو مشروع بحثي في أحد الميادين العلمية.
والمتابع لما يصدر عن دور النشر ومراكز البحث الفلسطينية، يجد أن هناك نشاطاً لافتاً على هذا الصعيد في الرواية والقصة والشعر والنص المفتوح والبحوث العلمية، بينما نسبة ما يباع ويسوَّق من هذه الإصدارات تتضاءل من عام إلى آخر، لتتكدس الكتب على رفوف المكتبات، لدرجة أن أصحاب المكتبات وأكشاك الكتب باتوا غير قادرين على استقبال إصدارات جديدة، معللين ذلك، بعدم الإقبال على شراء الكتب، وأن لا متسع في مكتباتهم وأكشاكهم لاستيعاب كتب إضافية.
وقد تناول عدد من المتابعين والمحللين هذه المعضلة محاولين تشخيصها والوقوف على أسباب إدارة الظهر للكتاب، معتبرين أن وسائل الاتصال الحديثة قد وجهت ضربة للكتاب الورقي، الذي خسر كثيرا من حصة حضوره في الساحة الثقافية أمام ما توفره وسائل الاتصال الحديثة من معلومات ومعطيات مذهلة وسريعة في المجالات كافة، وبأقل تكلفة وفي وقت قياسي، وهذا في رأيي أحد الأسباب، لكنه ليس كلها، لا سيما وأن هناك مسببات أخرى أعمق تتعلق بتراجع الاهتمام الثقافي والمعرفي بشكل عام، علماً بأن المعلومات السريعة التي يحصل عليها المواطن من خلال مواقع التواصل، لا تحفر عميقاً في الوعي، في حين أن قراءة كتاب ورقي بتأنٍ وإمعان، تثبّت المعلومات في الذهن وتجعلها تعيش طويلاً في مخزن الذاكرة، كون التعامل مع الكتاب الورقي له طقوسه من حيث الوقت والجهد المبذول في القراءة والفهم، إلى جانب أن الكتاب الورقي يشعر القارئ بمتعة خاصة، إذ يتنقل الكتاب مع القارئ في المكتب وغرفة الجلوس وحتى غرفة النوم ويتحول إلى جزء لا يتجزأ من يومه، بمعنى أن علاقة مباشرة وحميمة تنشأ بين القارئ والكتاب، الأمر الذي لا يتوافر إطلاقاً في القراءة والمتابعة عبر الانترنت.
وأرى أن العزوف عن اقتناء الكتب وقراءتها هو تعبير عن أزمة ثقافية مستفحلة، هي انعكاس لأزمة سياسية وفكرية تجتاح عالمنا العربي، نتيجة مباشرة لهبوط السياسي وترنحه في أزماته وفشله في إنجاح عملية تنموية مستدامة تنقل المجتمعات العربية من الفقر والتقوقع إلى رحاب الإنتاج والمنافسة.
ولأن الثقافي عربياً لم يستطع تحرير نفسه حتى الآن من التبعية والتذيل للسياسي، فقد أخفق بدوره في انتشال السياسي عندما تفاقمت أزمته، فالتابع والملحق لا يمكنه الاضطلاع بدور القائد والمنقذ مرة واحدة، دون أن يقوي ويحصن نفسه ويفرض وجوده وحضوره وتأثيره تدريجياً، فتدحرج الثقافي التابع مع السياسي إلى القاع ليعاني الاثنان معاً أزمة مركبة.
والمؤسف أن عدداً من الكتاب المعروفين بغزارة انتاجهم توقفوا عن الكتابة والإصدار في السنوات الأخيرة، منطلقين من أن لا أحد يقرأ، وأن الكتابة اليوم لا تطعم خبزاً، وما جدوى أن يكتب الكاتب ما دام المتلقي غائباً!!
لقد تراجع الاهتمام بالكتاب الورقي في ظل الركض المحموم وراء ثقافة استهلاكية لا تؤسس لمعرفة حقيقية، ولا تؤصل مفاهيمياً، ثقافة تروج لما هو مستورد، ولا تراعي خصوصية المجتمعات العربية، فيتم نسخ ما ينتج في الخارج نسخاً كربونياً، مما يشطب الخاص العربي، في عملية تقليد تكتسح مجتمعاتنا، يُعمقها ويغذيها الشعور بعقد النقص والدونية والعجز والقصور، على اعتبار أن الآخرين سبقونا صناعة وتكنولوجيا ورفاهية، وبالتالي قبع المواطن في أسر ثقافةٍ مستوردة، دون بذل أي جهد للاستناد إلى تراث ثقافي ومعرفي عربي غني، وكأننا نتحرك على السطح بمعزل عن الجذور، متناسين أو متجاهلين أن النبتة التي لا تشدها جذورها إلى الأرض تكون عرضة لتلاعب الرياح بها وربما اقتلاعها تماماً، وهذه ليست دعوة للانغلاق، وإنما للانفتاح المدروس مع الحفاظ على الخصوصية، فالشعب الياباني منفتح على الثقافات الأخرى، لكنه يتمسك بخصوصيته ثقافته، وهذا ينسحب على الصينيين والأتراك والإيرانيين والهنود.....إلخ، فمن حق كل شعب الإعتزاز بثقافته، لأن تلاقح الثقافات لا يفعل فعله إيجاباً وتطويراً إذا غابت ومسحت الثقافة الخاصة.
إن العزوف عن قراءة الكتب حشر الجيل الجديد في مربع الانترنت بدهشته ومفاجآته، وأصبحت رموز ثقافية وإبداعية فلسطينية وعربية غير معروفة للجيل الشاب، نتيجة عدم الاستخدام المفيد والنافع لوسائل الاتصال الحديثة، وإذا كانت المعلومات متوافرة بشكل واسع على المواقع ويمكن الوصول إليها في ثوانٍ على "النت"، فلماذا يجهل كثير من الشبان أسماء روائية وشعرية وثقافية فلسطينية؟!
أتضح لي مراراً من خلال عملي في الإعلام التلفزي عندما كنا نجري استطلاعاً ثقافياً في هذه الجامعة أو تلك وتسأل الطلبة عن أسماء ثقافية فلسطينية معاصرة، كانت تـأتينا إجابات غريبة عجيبة. والسؤال الذي يحضرني كيف كان طلبة الجامعات في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي يحفظون عن ظهر قلب أسماء مبدعين ويلمون بمعلومات واسعة وغنية عن كتبهم ونتاجاتهم بالاعتماد على الكتاب كمصدر معلوماتي!!
والحقيقة وأنا أطرح مثل هذه الأسئلة لا أنطلق من فرضية رافضة لوسائل الاتصال الحديثة، بل انطلق من إقراراي بأنها مصدر مذهل للمعرفة، إذا ما تم استثمارها بشكل صحيح وموجه، لكن دون تجاهل الكتاب الورقي، حيث يمكن الجمع بين الوسيلتين المعرفيتين، مع تأكيدي أنه من الضروري الجمع بينهما، ليتكامل التكنولوجي الحديث مع الكتاب الورقي، حتى لو كان هذا الكتاب منشوراً ويمكن الوصول إليه عن طريق النت، فالقراءة الحية المباشرة للكتاب الورقي، تشكل علاقة خاصة بين القارئ والكتاب، وما زالت في رأيي الطريقة المثلى للحصول على المعلومات وتخزينها تدريجياً في الذهن، بمعزل عن التصفح السريع الذي يفتقد التأمل والتركيز، وحتى نحن الذين أدمنا الكتاب الورقي، عندما نلجأ إلى مواقع الاتصال الحديث، تأخذنا السرعة وندخل في عملية ركض ذهني تحرمنا من متعة التأمل.
الكتاب الورقي باختصار من المفروض أن يستمر، وأن نعمل بشكل متكامل بين كل الجهات الثقافية والتعليمية ذات الصلة لإعادة الاعتبار له، وهنا يأتي دور الأسرة والمدرسة والجامعة والاتحادات والمراكز الثقافية والوزارات والمؤسسات غير الحكومية، وكذلك دور الكتاب أنفسهم الذين ينبغي أن يواصلوا العمل والانتاج ولو كانوا يسبحون عكس التيار، فإن إمكانيات التصويب والتصحيح واردة من خلال الانفتاح على التكنولوجيا من جهة والاستفادة منها، بالتزامن مع الحفاظ على الكتاب الورقي الذي هو أحد أهم مصادر الثقافة والمعرفة، وليس الحفاظ عليه فقط بل وتشجيع عملية الإصدار وإيجاد سبل تربوية وتحفيزية لأطفالنا تشجعهم على القراءة، ولتكن نقطة الانطلاق من الطفولة، فإذا نسجنا علاقة قوية بين الطفل والكتاب في البيت والروضة والمدرسة، ستترسم خطواتنا الفعلية للتأسيس لعلاقة خاصة بين الطفل والكتاب، تكبر معه وترافقه في مراحل عمره كافة، واختياره البدء من الطفولة لا يعني إهمال الفئات والشرائح الأخرى التي يجب أن تستهدف بحملات منظمة للتشجيع على القراءة وإعادة الاعتبار للكتاب، وهناك حملات جَنينيّة في بلادنا، المطلوب دعمها وتوسيع نطاقها على مستوى الوطن.