الأربعاء: 05/02/2025 بتوقيت القدس الشريف

اللاجئ الفلسطيني عوني المشني يحمل خيمته ويسافر بين الأضداد

نشر بتاريخ: 30/05/2019 ( آخر تحديث: 30/05/2019 الساعة: 12:13 )

الكاتب: عيسى قراقع

وضع الصديق عوني المشني بين يدي مشروع رواية سياسية يسافر خلالها عبر الزمن إلى عالم جديد مختلف، ينتقل من مخيم الدهيشة للاجئين ويرحل إلى ارض الدولة الواحدة، يحمل خيمته وخيباته وأحزانه وأحلامه وذكرياته وأفكاره ليعيش مع الإسرائيليين في دولة واحدة، دولة علمانية ديمقراطية لكل مواطنيها تحقق العدالة النسبية والمواطنة المتساوية.
صديقي عوني في رحلته عبر الزمن هاجر من فكرة حل الدولتين إلى فكرة حل الدولة الواحدة حيث تتحول البلاد إلى وطن لملايين اليهود الإسرائيليين والعرب كمواطنين متساويين أو إلى وطن لمجموعتين سكانيتين متمايزتين: الشعب الفلسطيني والمجتمع اليهودي الإسرائيلي، وقد قرر هذه الرحلة بعد ان قضت إسرائيل على إمكانية حل الدولتين ولم يتبق أي حيز مكاني لإقامة دولة فلسطينية في حدود الرابع من حزيران عام 1967، فالاستيطان يتسع والمستوطنون يزدادون، وسياسة الضم تجري على قدم وساق مصحوبة بسلسلة من القوانين العنصرية التي حشرت الشعب الفلسطيني في نظام ابرتهايد وداخل معازل وأقفاص كفيلة بسحق هويته القومية والإنسانية.
الصديق عوني في رحلته الطوباوية ينطلق من تحول النضال الوطني التحرري إلى نضال تحري تنويري ديمقراطي، وهو سلاح أخلاقي وإنساني اشهره عوني المشني ضد المشروع الصهيوني الذي يستهدف استئصال السكان الفلسطينيين الاصليين، وهو يراهن مع مجموعة من المثقفين والأكاديميين والنخب السياسية الفلسطينية والإسرائيلية التي تتبنى مشروع الدولة الواحدة على تغيير طابع دولة إسرائيل الصهيوني الاستعماري وإنقاذ الإسرائيليين مما قادتهم إليه الحروب واحتلال شعب اخر من مآزق أخلاقية ومجتمعية في ظل تنامي الفاشية والعنصرية والعسكرتارية والتطرف في المجتمع الإسرائيلي بحيث أصبحت دولة إسرائيل من أكثر البلدان طغيانا ووحشية في منطقة الشرق الأوسط.

صديقي عوني في روايته يسافر إلى عالم مستقل عن النص، يحاول ان يفكك اللغز في الصراع بخياله ويصنع حلما يتدثر به حتى تنمو له أجنحة ويطلع الصباح، يرفض الأرض المحاصرة التي سجنوه فيها ويبني جسرا للأرض التي سيقف عليها غداً، هل هو يهاجم أم يدافع أم يائس؟ يحلق بين الأضداد، يدير كل الزوايا في الاتجاهات المتعاكسة، لم يعد قادراً ان يبقى لاجئا ضائعا في منفى داخلي واغتراب، ولم يعد قادرا ان يصير عبدا في ظل هذا الاحتلال غير المكلف، الاحتلال الجميل، يهيمن على حياته ويبرمجها ليظل مطيعا خاضعا بلا هوية وكرامة.


عوني اللاجئ المنكوب يسعى للشفاء من ذكرياته المؤلمة: الطرد من قريته "القبو" في حرب عام 1948، أوجاع السجن وقسوته عندما قضى 10 سنوات في سجون الاحتلال، يملك هذه القدرة العجيبة التي تمكنه ان يعيش في دولة واحدة مع الذين طردوه ونكبوه وسجنوه، يتعالى برومانسية ومسيحانية مع آلامه متجاوزا الزمن الماضي كأنه لم يكن، يزور الأمس لا كما يفعل السائح بل كابن شرعي لذلك الأمس، ولكنه لا ينس انه في اليوم التالي سيجرد أمسه من ثنائية الأساطير، الأعداء صاروا أصدقاء، صاروا متساويين بالمواطنة والحياة، الأعداء دخلوا في النسيان وبدأوا من جديد.

صديقي عوني ينتمي لسؤال الضحية، لو لم يكن من هناك لدرب قلبه ان يربي حنينيه كما كان يدرب أصابعه على زناد البندقية، على الريح يمشي، وهو من هناك ولكنه ليس هناك، لاجئ متعدد المكان والزمان والظلال، هو اثنان، يلتقيان ويفترقان، لغتان عربية وعبرية، حاجزان، طريقان، الماضي تجربة قاسية، والحاضر تجربة قاسية، قد يسقط قتيلا في هذه الرحلة إلى المستقبل، هو يحاول ان يعقد صلحا بينه كمقتول وبين القاتل، هل يلتقي الحي مع الميت ويقعان معا فوق ارض واحدة؟.

عوني اللاجئ المنكوب يحمل دمه وعظامه وتراثه وقصصه وأشواقه وكل الأسماء، يحمل فؤوسه وحجارته وقيوده وما ترك له والداه من كواشين الطابو وصورا للأشجار والصخور، يطالب بالعودة إلى بلده التي طمست واختفت عام النكبة، يطالب ان يتصالح مع المكان والغياب ومع الذين طردوه، الخطوة الأولى بدأت، الإسرائيليون يعترفون أنهم لم ينتصروا فعلا، فقد وجدوا أنفسهم يزورون القبور ويحملون الأضرحة، وجدوا أنفسهم منذ النكبة في معسكرات، نمط حياتهم حربي وحالة طوارئ دائمة، بنوا سجونا كثيرة ولكنهم وجدو أنفسهم في القيود، وجدوا أنهم يقتلون أنفسهم عندما يقتلون الاخرين، لم تنجح سياسة الطمس والتهويد والتطهير من إخماد أنفاس القتيل، لا يوجد موت في اتجاه واحد، للموت ارتداد وصدى.

ماذا يملك عوني المشني في رحلته إلى الزمن الاخر؟ يملك قنبلة الديمغرافيا المرعبة،يملك عقدة الدولة اليهودية النقية التي تحول إسرائيل إلى دولة فصل عنصري في المنطقة، يملك المعونة الأخلاقية لإنقاذ الإسرائيليين من درك الفاشية والعنصرية، يملك حكاياته وقيم العدالة والمباديء والمثل الإنسانية، يراهن ان لا يكون هناك غالب ومغلوب، ان ينتصر الطرفان، يعيش الطرفان، لا احد يرغب بقتل الاخر.

عوني يقول للإسرائيليين، الأراضي المحتلة ستبقى فخا لكم، ستبقون تنتظرون عودتكم إلى البيت دون ان تتحولوا إلى حيوانات بشرية، تنتظرون ان لا تسمعوا أصوات المعذبين والمذبوحين وسياسة السلب والبربرية التي تمارسونها يوميا بحق الشعب الفلسطيني، لن تجد سياسة الانكار وعدم تحمل المسؤولية عن نكبة اللاجئين ومعانات الشعب الفلسطيني بسبب استمرار الاحتلال، لا فائدة من الحصار والاستيطان والحواجز والأطواق والتجويع والاغلاقات والاعتقالات والعنف المنظم، فالنكبة مادامت مستمرة فالمحرقة أيضا مستمرة في ممارساتكم وعقولكم، حاضرة في حياتكم، رغم انتصاراتكم لا زلتم تشعرون بالهزيمة.

وصل صديقي عوني المشني إلى وطن الدولة الواحدة، سمع أصوات قرى ومدن هدمت وسلبت، أصوات مذابح وقتلى، هل تغير الإسرائيليون؟ هؤلاء الذين رفضوا إقامة دولة فلسطينية على 18% من أراضي الضفة الغربية، فهل سيوافقون ان نعيش بشكل مشترك في دولة في كل فلسطين التاريخية؟ لا زال عوني يحلم ويسال، السجان الذي اقفل عليه باب الزنزانة يستقبله في ارض الدولة الواحدة، القاتل الذي ذبح ابنه يبتسم له في ارض الدولة الواحدة، من الذي يتماثل للنسيان القاتل أم القتيل؟ رائحة أشباح، رائحة دماء، يحاول عوني ان لا يستيقظ من أحلامه، لا يريد ان يعود من رحلته حتى لا يجد نفسه في مخيم يكتظ بالبشر الغاضبين، يصر ان يسمع صوت المحتلين، هل اعترفوا بجرائمهم واعتذروا ويطالبون الان بذاكرة حياة جديدة؟.

بعد 71 عاما على النكبة، يضع صديقي عوني المشني حجارته و مسدسه بشكل مؤقت جانبا ويسافر خارج الزمن، يرتدي ثوب الواقعية، تجاوز الحواجز العسكرية الكثيرة والجدران العالية، وصل إلى دولة ثنائية القومية، وهناك اصابته الصدمة، وجد الإسرائيليين قد وضعوا مخططا إستراتيجيا لمواجهة الأغلبية العربية المتنامية حفاظا على نقاء الدولة اليهودية، ووجدهم قد شرعوا مئات القوانين العنصرية: قانون القومية، قانون الولاء، قانون منع التسلل وغيرها، وجد ان المستوطنات أكلت القدس والضفة الغربية، وهناك شعارات على الحيطان تقول: الموت للعرب، وهناك شعارا يقول: ان كل ولد فلسطيني سيصبح هتلر عندما يكبر فيجوز قتله، ووجد ان الحاخاميين ورجال الدين والمستوطنين المتزمتين قد استولوا على السلطة في إسرائيل وسادت الثقافة والتربية والأساطير التوراتية، وجد ان صفقة القرن الأمريكية قد فككت وكالة الغوث وشطبت حق العودة للاجئين وكرست القدس عاصمة لدولة إسرائيل وعمقت سيطرة إسرائيل على كامل التراب الفلسطيني، وجد صديقي عوني نفسه مقيدا يساق إلى سجن المسكوبية بتهمة التسلل عبر الزمن وتجاوز الخط الأخضر وتهديد الأمن القومي لدولة إسرائيل.

اعتقل عوني المشني، وفي غرفة التحقيق وجد نفسه اما محقق يدعى كريم، استهجن عوني وتساءل عن سبب اعتقاله خاصة انه يحمل مشروعا إنسانيا للتعايش المشترك والمصالحة وبناء السلام بين الشعبين وبطريقة ديمقراطية أخلاقية تشمل حلا للعرب واليهود وتنهي عقودا من الصراع، قال له المحقق الإسرائيلي: الخطورة الإستراتيجية تكمن في طريقة تفكيرك، نحن نريد اعتقال عقلك الذي يريد تغيير جوهر الصراع من النموذج الجزائري إلى النموذج الجنوب إفريقي، من النضال ضد الاحتلال إلى النضال من اجل دولة واحدة، هذا بالطبع أمام الرأي العام يعتبر نضالا نظيفا سيلقى الدعم والمساندة الشعبية العالمية، وبالنسبة لنا كإسرائيليين هذه نهاية الدولة اليهودية، أفكارك تدميرية، وأنت في رحلتك حملت إلينا قنبلة فكرية.