نشر بتاريخ: 30/05/2019 ( آخر تحديث: 30/05/2019 الساعة: 16:04 )
الكاتب: صخر سالم المحاريق
(أين السوق؟ .. دُلّني على السوق) ... هذا ما قاله الصحابي الجليل، والغني الزاهد، عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، وعن الصحابة أجمعين، حين حطت رحاله أرض يثرب، إبان الهجرة الثانية، وليس معه ما يملكه من متاع الدنيا، غير ثوبه الذي يلبسه، آخى الرسول بين المهاجرين والانصار، فآخى بين المهاجر عبدالرحمن بن عوف، وبين الانصاري سعد بن الربيع، فعرض عليه سعد نصف أهله وماله، فأبى عبدالرحمن أن يأخذ من رزق أخيه وكسبه، وقال قولته المشهورة: (بارك الله لك في أهلك ومالك، دلّني على السوق)، ومن فوره توجه إلى السوق، فاشترى قليلاً من اقطٍ وسمن، ثم باعه وربح فيه، وهكذا أخذ يتصدر السوق، وبعد أيامٍ قليلة رآه المصطفى وفي وجهة صفرة، فسأله عن حاله، فقال تزوجت بامرأةٍ من الأنصار على نواةٍ من ذهب، فقال (أولم ولو بشاة).
لطالما ارتبط مصطلح ريادة الأعمال والمعروف عالمياً بالمعنى الفرنسي الأصل "Entrepreneurship"، بصناع الثروة وفق منظور العالم الرأسمالي، والذي يعني حرفياً (الشراهة تجاه المال) لمن لا يعلم، ولا نقصد هنا حفنة من الدولارات، أو الدنانير، أو الدراهم، وإنما تلك الثروات المنقولة وغير المنقولة، والتي تجاوزت مفهوم الدخول البسيطة، والمرتبطة بعمر صاحب المشروع، أو العمل الحر، وتعدّت ذلك في تحسينها للمستوى المعيشي للفرد، والذي يأخذ وقتاً وفق مفاهيم علم الاقتصاد، لتصل به إلى حد إيجاده لمحفظة استثمارية، من باب توليد الثروة والمال، بحيث لا تعير الزمن انتباهً، وهذا ما يؤكده الواقع والذي نعيشه، وما يبرهنه علماء الادارة والاقتصاد الحديث، وعلى رأسهم الكاتب الاقتصادي الكبير "بيتر دراكر"، حينما وضع أربعة معايير لريادة الأعمال، مؤكداً على ذلك في ثُلةٍ من العناصر والتي كانت كالآتي (الفكرة ومدى جاذبيتها وإبداعيتها، ومقدار خلق الثروات وحجمها، والوقت الزمني المفترض لذلك، وأخيراً روح المغامرة في اقتناص الفرص وصناعتها)، وأتبع ذلك بأهمية دور المستثمر الملاك، أو المقرض، وهو الشخص الذي يقدّم رأس المال للشركات الناشئة مقابل سندات قابلة للتحويل، أو حصص في المشروع، وهذا ما يصنع من وجهة نظره ريادية الأعمال الحقيقية، والثروات الطائلة التي تتجاوز الأفكار البسيطة والتقليدية، إلى تلك المشروعات الضخمة مقارنة بتلك المشروعات الصغيرة، والتي وجدت لغايات تحسين الدخل فقط، والاكتفاء بذلك، رغم كونها مجرد تجارب وبدايات.
ولكن هناك القليل من المهتمين والمختصين في عالم الأعمال، والمعروف اليوم باقتصاديات السوق، أو اقتصاديات الأعمال، ممن تحدثوا عن الطريقة، والكيفية، والخصائص، والسمات، والتي تصنع رائد الأعمال، فالحديث في معظمه اقتصر على نتاج الفعل، أي نتائج الأعمال، وليس سمات من يصنعها، أي الشخص الفاعل، وهو رائد الأعمال نفسه، باستثناء عنصر المغامرة، أو المخاطرة، والمعروف بمفهوم "Risk taker"، كسمة أصيلة من سمات رائد الاعمال، وهذا في نظري هو الجانب الأهم، فالنتائج سلوك من يحتاط بالتدابير، ودالة على مسلك وعقلية صاحبها تجاه الأمور الحياتية، ولو عدنا للهيئة السابقة للصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف، لوجدنا أنه كان في عوزٍ من أمره، ولا يملك درهماً ولا حتى ديناراً، ولكن لنتساءل هنا عزيزي القارئ الكريم، عن ذلك الشيء والذي دفعه ليقول مقولته تلك (دُلّني على السوق)، رغم معرفته بحاله وهوانه على الناس، ورغم أنه كان مخيراً في أن يشاطر سعداً أهله وماله عن طيب خاطر، ويكفي نفسه عناء ذلك كله، ولكنه أصرّ على أن يذهب إلى السوق ولو بخُفَي حُنين، فالأعمال التجارية هي بمثابة الباصات؛ إن فاتتك فرصة، فهناك دائماً فرصة أخرى قادمة.
يقول ريتشارد برانسون: (لا شيء أفضل في الحياة من أن تتبع شغفك بطريقة تخدمك، وتخدم العالم من حولك)، ولعل الذي دفع الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف للقيام بما قام به هو باختصار "الإرادة"، وهي وليدة عزائم الشخص لا مَنْ حوله، وهي الكلمة المشتركة وصلة الوصل، والتي تتلخص فيها قصص النجاح، في كافة مجالات (السياسة، والاقتصاد، والتعليم، ...إلخ)، ولكن الارادة تعني عدم الاستسلام والركون إلى الفشل، والاصرار على المحاولة، وهي وحدها تكفي لتحقيق هذه الريادة ولخلق تلك الثروات، وهي محور دوران واستمرارية جملة من العوامل، والتي سأتلو عليكم ذكرها تباعاً، بناءً على ما وجدته في قراءاتي ومتابعتي لمعظم قصص النجاح القديمة والحديثة، كسلم للنجاح في مجال الأعمال وريادتها وهي:
• القرار ويمثل (جرأة الرائد): في لحظة القرار يتشكل المصير، لذا يجب علينا أن نؤمن بأن لدى كل شخص قدرة كامنة ومنتجة، إن أحسن استغلالها وتدبيرها، فالقرارات من تترجم الارادة وتجعلها حالة نافذة كخطوات فعلية، يجابه بها الفشل بإعادة المحاولة، المرة تتلوها المرات نحو تحقيق الآمال والطموحات، فالأقوياء تصنعهم الارادة والقرار، والضعفاء توهنهم وتوهمهم الأحلام والوقوف على المسؤوليات، فالذي لا يستطيع إعالة نفسه، لا يمكنه اتخاذ قرار بنفسه ولنفسه، وعملية اتخاذ القرار عملية مستمرة في حياة رواد الاعمال، شأنها شأن الارادة، والجهد، والمغامرة.
• الجهد ويمثل (محرك الرائد): يقول رئيس وزراء المملكة المتحدة وينستن تشرشل: (إن الجهد المتواصل وليس الذكاء، أو القوة، هو مفتاح إطلاق قدراتنا الكامنة)، ودرج المثل العربي القائل: لكل مجتهد نصيب، ولن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر، ومعظم قصص النجاح العالمية في مجال الأعمال كانت نتاج جهود فردية جبارة، سطرت تلك القصص عبر مشروعات وأفكار كانت عابرة للقارات ولم توقفها حدود.
• المغامرة وتمثل (روح الرائد): إن المغامرة ليست خارج المرء بل في داخله، وهي الضامن للتطور والاستمرارية، لخلق الفرص قبل انتهازها، حتى أقوى الحيوانات وأشرسها تتخذ من المغامرة سبيلاً لمعاشها ومكانتها، لأن الريادة تحتاج لإقدام وأقدام، لترسم سبيلاً في صناعتها، كما أن المغامرة هي ما تثمل روح القائد في تدارك المخاطر، وخوضها، وتطويعها، وإدارتها، فالمخاطرة حالة من عدم التأكد، تلازم المشاريع منذ بدايتها حتى إغلاقها، وتحتاج لمن يخاطر مخاطرة محسوبة أن يعي التخطيط لتصيّد وخلق الفرص، والسؤال الكبير هو هل تستطيع قبول المغامرة؟ يقول وليام فيذر: (لتحصل على أجمل ما في الحياة انظر إليها على أنها مغامرة).
• الفرص وتمثل (مكاسب وآفاق الرائد): الحياة لا تمنحُ الفرص إلا للراغبين، فأنت مخيّر بين اقتناصٍ لها أو صناعتها، ولذا ما كنا لنتحدث عن رواد الأعمال الحقيقين أمثال جوبس، وزكربيرغ، وقيتس، وماسك، بل عن قدرتهم على اقتناص وصناعة الفرص، وهذه العملية هي ترجمان للعلاقة الوثيقة بين الريادة، والابداع، والابتكار، والاختراع، وهي جزء أصيل من حياة الرياديين في خلق الحاجات، وصناعتها بأفكارهم التي برزت في الوقت المناسب، فالفرص هي بمثابة تحويل الفكرة لواقع لتهيئة وقتها المناسب، وخلق الحاجة لها، فالسيارة الهجينة "هايبرد"، هي وليدة عشرينيات القرن الماضي، على يد المهندس الألماني "فرديناند بورشة"، مؤسس شركة بورشة الألمانية للسيارات اليوم، ولكن ذلك الوقت لم يصنع فرصتها، ففرصتها هي حاجة اليوم الملحة ومستقبل السيارات هذه الأيام، ولكن تقنياته تلك الفترة خلقت فرص جديدة في قطاعات جديدة فمثلاً دخلت هذه التقنية "الهايبرد"، عالم الدبابات والغواصات الألمانية في الحرب العالمية الثانية، وما زالت إلى يومنا الحالي، يقول ليلي توملن: (إن وراء كل فشل فرصة جديدة بعضهم يتمنى لو انه لم يضعها) وأقول: هنا إن الفرص تساوي الوقت، مثلها مثل شروق الشمس، إن انتظرت طويلاً فإنك غالبا ما تفقدها.
إن من يصنع السمة والصفة هو صاحبها ليوسم ويوصف بها ومن خلالها، عبر ما قدم وسيقدم من منجزات، وهي من سيتحدث عنه فيما بعد، سواءً كان ذلك على صعيده الشخصي أو المجتمعي، ولا زالت قناعتي كمختص وكاتب في موضوعات التنمية المستدامة، تفيد بأن نقطة البداية لأي تطور أو أي تفرد وتميّز في عمل ما، هو العقل والجهد البشري، وهو السبيل لما سنصنعه على الصعيدين الفردي والجماعي، في الأسرة، والحزب، والمنظمة، والدولة، وفي غيرها من تكوينات وتكتلات جماعية ومجتمعية، تصنع الانسان المؤثر، بحيث يكون بذلك شخصاً ذا أثر، وعليه فإن محصلة العوامل سابقة الذكر هي الأركان الرئيسة في بناء شخص الانسان الريادي، ورائد الأعمال، على وجه الخصوص في حديثنا هذا، وإن معظم قصص النجاح والتي اطلعت وراجعت في زماني وزمان غيري، أشارت إلى تلك العوامل كضرورة في بناء شخص رائد الأعمال، نحو صناعته لريادية أعماله، سواء ذكرت هذه العناصر بشكل مباشر في حديثهم عن ذواتهم ومنجزاتها، أو بشكل غير مباشر من حديث غيرهم عنهم، سواءً كانوا من الأقرباء أو الاصدقاء أو موظفيهم.
وخلاصة القول إن سمة الريادية من وجهة نظري ليس مقياسها المال فحسب، بقدر صناعتها للأثر الشخصي والمجتمعي، وهي ليست حكراً على قطاع ما دون غيره، بل هي مفهوم عام يضفي سمة خاصة، تعني التفرد والتميّز لموصوفها إذا ما قورن بغيره، فالريادية في قطاع المهن موجودة في الطب، والهندسة، والخياطة، والرياضة، وفي النشاطات الاقتصادية كالصناعة، والتجارة، والزراعة، وهي في الشخوص أيضاً كالتاجر، والطبيب، والمخترع، والمهندس، والخياط، ولقد مات الملياردير عبد الرحمن رضي الله عنه، ولم يبقِ من ميراثه المادي شيئاً من ذهبٍ أو فضة، إضافة إلى الكثير من الإبل، والماشية، والخيل المسومة والانعام وغيرها، ولكن بقي إرثه حاضراً الى اليوم ورياديته ونهجه في الخير (أين السوق ... دلوني على السوق)، ويبقى توفيق رب العالمين صاحب الأمر كله، ولكل مجتهد نصيب، في كل مجال إلتمس فيه لنفسه إرادةً وجهداً وقراراً وفرصة.
______________________________________________________________________
• أكاديمي ومختص في التنمية المستدامة والموارد البشرية.