نشر بتاريخ: 03/06/2019 ( آخر تحديث: 03/06/2019 الساعة: 14:52 )
الكاتب: د. حسن عبد الله
أنا واحد من الذين يعشقون "البطيخ" ويستعجلون في سرهم قدوم فصل الصيف ليأتي معه بالبطيخ، حيث تصبح وجبة البطيخ مع الجبنة، الوجبة الثابتة والمتكررة في طعامي مدة ثلاثة أشهر في السنة على الأقل، ولأني لست أكولاً بطبعي ولا تستحوذ اللحوم على خياراتي، فإن البطيخ مع الجبنة يصبح خياري الغذائي المحبب في البيت، وليس في أي مكان آخر، فأنا لا أفضل أكل المطاعم ولا تهمني الشكليات التي تسود الوسط الذي أعمل فيه "وسط الكتاب والمثقفين" الذين يكثرون من التردد على المطاعم، فيما يأكلون في بيوتهم بشكل متقطع وغير منتظم، لذلك لا تهمني تصنيفات المطاعم ودرجاتها وأصناف الطعام فيها، وهذا لا يعني مقاطعة المطاعم، فأحياناً أضطر للأكل في المطعم في حال السفر، أو في مناسبات اجتماعية معينة، لكن في فصل الصيف لا أتساهل في موضوع البطيخ ولا أسمح لهذه الثمرة أن تغيب في الموسم يوماً واحداً عن مائدتي، ومع السنوات صرت خبيراً في البطيخ وأنواعه، وأحدد بدقة متناهية، إذا ما كانت الثمرة ناضجة أم لا، في حين لا أقتنع بشراء البطيخ سوى من سوق الخضار، فأنا أعرف الباعة واحداً واحداً، وأتعامل مع بعضهم منذ أكثر من ثلاثين عاماً.
لقد أدرك والدي ولعي بالبطيخ عندما كنت طفلاً، وأخذ يحرص على أن يعود مساء كل يوم من عمله ومعه بطيخة، وإذا صدف وأن نسي أو انشغل، أنام ليلتي متكدراً. لكن الحقيقة فإن هذا كان نادراً ما يحدث، لأن التزام والدي تجاه البطيخ كان قوياً بشكلٍ عام.
كان طعم البطيخ في الطفولة يختلف عن طعم بطيخ اليوم، لأن الثمرة كانت تترك لتأخذ وقتها الكافي لكي تنضج، بيد ان تقاليد التعامل مع هذه الثمرة، تبدلت بعد أن دخل المزارعون والمستثمرون والمسوقون في سباق مع الزمن، وأخذوا يقطفون الثمار مبكراً، وقبل أن تنضج، بهدف التسويق في بداية الموسم، وتحصيل أسعار مرتفعة مقارنة بمنتصف الموسم أو آخره.
كانت جنين هي بلد البطيخ في الماضي القريب، ولم يكن يضاهي بطيخها أي بطيخ مهما كان مصدره، لكن للأسف الشديد عندما ذهبت قبل أقل من شهر إلى جنين للمشاركة في ندوة في الجامعة العربية الأمريكية، سألت الشاعرة آمال غزال التي أشرفت على الندوة كممثلة لوزارة الثقافة في محافظة جنين عن أحد المحال الموثوقة حسب خبرتها، لنشتري منه بطيخاً جنينياً.
وما كان منها إلا أن ابتسمت ابتسامة ذات مغزى وقالت:
" لو طفنا المدينة من أقصاها إلى أقصاها لن نجد بطيخة واحدة مصدرها جنين، إذ كف المزارعون هنا عن زراعة البطيخ".
وفور سماعي هذه الإجابة تلبسني حزن شديد، فقد كانت المعلومة صادمة بالنسبة إليّ، لأنني كلما سألت بائعاً في رام الله عن مصدر بطيخه، يقول بشكل تلقائي "من جنين".
إذن لا بطيخ الآن من إنتاج جنين، وأهل المدينة أصبحوا يأكلون بطيخاً غير بطيخهم!!!
في الموسم الحالي كان حضور البطيخ في رام الله ليس بحجم السنوات الماضية، والأنكى من ذلك أن سعر البطيخة متوسطة الحجم بلغ أربعين شيكلاً، وانخفض في أواخر شهر رمضان إلى ثلاثين شيكلاً تقريبا ، ليتقلص إقبال المواطنين على الشراء، لاسيما وأن المشهد في الأعوام السابقة كان مختلفاً، لأن المشترين اعتادوا الخروج من السوق وكلٌ يحمل بطيخته بيده ، أما وبعد أن تدلل البطيخ ورفع أنفه إلى الأعلى، صرنا نراه محمولاً في أيدي الميسورين، وهم بالطبع الأقل عدداً مقارنة مع النسبة الأكبر" الفقراء".
تراجع زراعة البطيخ في بلادنا لها أسبابها حيث استمرار مصادرة الأرض الزراعية، إضافة إلى ضعف الدعم المقدم للمزارعين الفلسطينين، ليكونوا قادرين على منافسة المنتج الإسرائيلي ، خصوصاً وأن الإنتاج الزراعي الإسرائيلي مدعوم، والمزارع يتلقى تسهيلات بنكية وحكومية، بينما مزارعنا يضطر إلى أن يواجه مصيره حراثةً وتسميداً ورياً ومكافحة حشرات وقطفاً وتسويقاً، بمعزل عن خطط وتوجهات واضحة.
فقراء بلادنا لا يأكلون البطيخ هذا العام بسبب ارتفاع السعر وتفاقم الأزمة الاقتصادية التي تطحن المواطن طحناً، ويكتفون بالنظر إليه عن بعد، أو سماع الباعة ينادون "على السكين يا بطيخ".
وللمناسبة يتم وضع لون مع الأسمدة كما أكد لي خبير في هذا الشأن، تجعل البطيخ بشكل عام أحمر، لذلك فإن البائع جاهز بسكيته ليحز البطيخة أمامك حتى دون أن تطلب منه ذلك، فهو يعرف النتيجة سلفاً، والعبرة هنا ليست في اللون الأحمر، بل في الطعم والمذاق، وربما تكون البطيخة حمراء لكنها غير ناضجة، وعليه تسقط مقولة "على السكين يا بطيخ"، كتعبير عن جودة البطيخة.
في كل عام أمارس الزراعة البعلية في بستاني، أي في المساحات غير المزروعة بالأشجار، فأزرع بندورة وفقوس ويقطين وكوسا، بما يشكل شبه اكتفاء لأسرتي على مدى ثلاثة أشهر الصيف، وانتهزت فرصة أن بئر الماء امتلأت تماماً هذا العام نتيجة الأمطار الغزيرة، وكانت الأمور مواتية لأروي مزروعاتي، وباقتراح من الحاجة والدتي أضفت عشرين "بيتاً" من البطيخ إلى مزروعاتي التقليدية، وبدأت النباتات البطيخية تعلن عن نفسها، وإذا ما نجحت كل نبتة في إعطاء ثمرتين كمتوسط، سيكون الناتج أربعين بطيخة ، ما يعني اكتفاءً ذاتياً مدة شهرين على الأقل، داعياً كل واحد لديه مساحة من الأرض أمام بيته ليزرع بطيخَهُ بنفسه وينجو من سكين الغلاء المسلط على رقبته، ويترك المنادي ينادي وحده "على السكين يا بطيخ" دون أن يكترث له.