نشر بتاريخ: 27/06/2019 ( آخر تحديث: 27/06/2019 الساعة: 11:06 )
الكاتب: د. طارق عاشور
بلهجة الحريص على مصلحة الشعب الفلسطيني ، انبرى المستر كوشنير أمام الحشد في البحرين يدافع ويروج عن مشروعه الاقتصادي تحت عنوان " السلام والازدهار " وبلهجة المحروق كذلك على الإنسان الفلسطيني ، بدأ يعطي الحضور محاضرات في أهمية الاستثمار بالاقتصاد لجلب الرخاء والسلام والأمن للشعب الفلسطيني . وهنا اعذر المستر كوشنير على تمثيله الردئ ، ربما لأنه انطلق من مدرسة ديان والذي قال يوما بان الشعب العربي لا يقرأ وإن قرأ لا يفهم.
لذلك أكاد اجزم أن من كتب له كلماته ورسم له خطة الخمسين مليار استند على مقولة ديان ، واعتمد على انه لا الحضور ولا اي من الشعب الفلسطيني سيقرأ ما كتب في الخطة الاقتصادية ، وان جل اهتمام الشعب الفلسطيني سينصب ربما على الجدال حول ( أن نكون أو لا نكون ) جزءا من الخطة ، وربما جزء آخر سينشغل بحساب حصة الفرد الفلسطيني من الخمسين مليار دولار ، أو ربما سينشغل الجميع بالجانب السياسي وحينها لن يلتفت احد إلى تفاصيل ما احتوته الخطة الاقتصادية .
وهنا أطمئن المستر كوشنير وأقول له إن الزمان تغير ، وان الشعب الفلسطيني يقرا ويفهم ويحلل ويقدر جيدا بل وتعلم جيدا من قسوة السياط التي جلدته قبل وبعد أوسلو ، ويكفي أن اذكر انه وبحضور بضع وعشرين من طلاب ماجستير الإدارة العامة في بيرزيت ، تم نقاش البنود الاقتصادية المقدمة في هذه الخطة وبالتفصيل ، ويؤسفني أن اٌعلم المستر كوشنير أن هذه الفئة المثقفة المتعلمة الناضجة الواعية ، لم تجد ذلك العناء لتكتشف زيف كل وأؤكد على كلمة كل ما يدعيه حول الرخاء والنمو والتنمية المزعومة .
وطبعا فان أي باحث يمكنه التوصل إلى نفس ما توصل إليه الطلبة وبدون أدنى جهد سواء في الإطار العام للعرض الاقتصادي ام بتفاصيله الجزئية ، فبالمجمل تبدأ الكذبة الكبرى بالترويج أن الشعب الفلسطيني سيحصل على خمسين مليار دولار ، لتنحسر ويبدأ الحديث أن حصة الفلسطينيين ستكون سبعة وعشرون ونصف مليار ، ومن ثم تتضاءل ليكتشف القارئ أن الحديث يدور ( وللثلاث دول المحيطة وسكان الضفة وغزة حسب قولهم ) وحسب المشروع المقدم عن منح بمبلغ ثلاثة عشرة مليار دولار خلال عشر سنوات والباقي عن طريق قروض بفوائد واستثمارات بهدف الربح للقطاع الخاص ( لا يعرف هل هو أجنبي ، إسرائيلي، عربي أو محلي ) .
وفي حديث المستر كوشنير امام المجتمعين في البحرين يخبر الحضور انه تعلم من التجارب السابقة للدول كيفية تنفيذ البرامج الضخمة والنهوض بالمجتمعات اقتصاديا، وهذا هو التناقض الكبير الثاني فيما يقوم بشرحه في الخطة ، فجميع الشواهد تشير الى أن سبب نجاح المشاريع الاقتصادية الضخمة في الدول ( كسنغافورة وفيتنام وتايلاند ورواندي ...) كان الاستثمار في القطاعات الإنتاجية وليس كما يحاول ان يسوق ، هذا مع العلم ان الخطة التي يطرحها خصصت910 مليون دولار للزراعة ( ما يقارب 3% من مجمل الصفقة ) وللصناعة 875 مليون دولار ( ما يقارب 2% من مجمل الصفقة ) وليس ذلك فحسب بل إن نسبة %5 للزراعة والصناعة موجة الى بنود شكلية وليس للاستثمار المباشر في هذه القطاعات الإنتاجية .
والمضحك المبكي في استخفاف المستر كوشنير وفريقه الذي خط الخطة المقدمة في تفاصيل العناوين الكبيرة ، وبدون الانغماس في ذكرها بالتفصيل فيكفي الإشارة إلى أن جميع المشاريع المقترحة هي مشاريع إصلاح وتمكين مكرره ، فكثير منها جرى ويجري تنفيذه في الوزارات والهيئات بنفس المسميات ( وكثير منها قد تم انجازه) مع العلم أن فلسطين وبدون الحاجة لمؤتمرات استطاعت تجنيد الأموال عن طريق البنك الدولي أو الاتحاد الأوروبي أو الصناديق العربية والإسلامية ، وطبعا احد النوادر في الخطة مشروع مقترح تم اقتراح مبلغ 25 مليون دولار مع العلم أن نفس المشروع تقوم إحدى الطالبات التي قيّمت الخطة بإدارة مشروع مماثل تم رصد ميزانية تبلغ 200 ألف دولار، وعلى ذلك يجرى العدد الأكبر من المشاريع المقترحة في قطاعات تمكين الناس .
وفي مجال جودة التعليم الذي تغنى فيه المستر كوشنير في خطابه ، اذكر أن وزارة التعليم العالي الفلسطينية تقوم بابتعاث آلاف الطلاب سنويا للدراسة في الدول الصديقة وبدون أن تتكلف الموازنة الفلسطينية أي مبالغ تذكر نتيجة الاتفاقات الثنائية، ولكن يأتينا المستر كوشنير وفريقه الرائع بأفكار فذة ، بحيث يطلب منا اقتراض مبلغ 300 مليون دولار لتخصيصه لابتعاث الطلاب الفلسطينيين للخارج ، ومبلغ 100 مليون دولار للتبادل الثقافي لطلاب الجامعات ، و40 مليون دولار لأساتذة الجامعات وغيره الكثير ونعيد التذكير أن كل ما ذكر تقوم مؤسسات التعليم في فلسطين بتنفيذه وبجودة عالية دون الحاجة لاقتراض مئات الملايين ، هذا مع التنويه أن الخطة أيضا تقترح تخصيص 500 مليون دولار لإنشاء جامعه جديدة في الضفة ومئة مليون لإنشاء مدارس ذكية ، وللتنويه يقوم القطاع الخاص الفلسطيني حاليا وبدون الحاجة لقروض مستر كوشنير بإنشاء جامعتين قرب سلفيت والرام .
أما في مجال المواصلات فجل ما تفتقت به خطة المستر كوشنير هو ترسيخ إجراءات الاحتلال، من توسيع لمعابر الذل الحدودية وللعلم هي مشاريع تقوم بها إسرائيل والأردن حاليا ، ويقوم الجانب الإسرائيلي من رسوم الخروج التي يحصلها من المسافر الفلسطيني ( 120 شيكل ما يقتطعه من ضريبة الخروج ) ، لذا ما الحاجة لتحميل الاقتصاد الفلسطيني ملياري دولار لتوسيع المعابر وتزويدها بأجهزة ، وتوسيع خط 90 الاستيطاني بإضافة مسربين خاصين للفلسطينيين وما الحاجة لاقتراض مئات الملايين لإنشاء طريق معلق يربط الضفة بغزة ( للعلم إسرائيل ترفض هذا الاقتراح ) .
وللامعان في استخفاف عقولنا يطرح المستر كوشنير تخصيص مليار وربع لإدخال الجيل الخامس لخدمة الجوال ، ويتعامى في نفس الوقت على طلبات قطاع الاتصالات المتكررة لتوسيع نطاق الترددات للجيل الثالث واستعداد قطاع الاتصالات الفلسطيني المالية والتقنية ( ودون الحاجة لمشورات المستر أو قروضه ) لإدخال الجيل الخامس والسادس مستقبلا وكل ما يحتاجه هذا القطاع أن يزيل الاحتلال الفيتو وإعطاءنا حقنا في استخدام الترددات والسماح لنا بإدخال الأجهزة والمعدات عبر المعابر التي يريد المستر تطويرها دون تطوير إجراءات الاحتلال في التحكم بحياتنا عن طريقها .
وطبعا الأمر ذاته ينطبق على اقتراحاته لإنشاء ثلاث محطات توليد كهربائية في جنين والخليل وغزة بحجة أننا نستورد 99% من احتياجاتنا الكهربائية من الخارج ، مع العلم ان شركة باديكو الفلسطينية ودون الحاجة لمشورة أو خطط قامت من فتره بطرح سندات تجارية لتمويل إنشاء مثل هذه المحطة في جنين ، وللتذكير لفلسطين اتفاقات ربط بينية لربط شبكة الكهرباء الفلسطينية مع الشبكة البينية العربية وبأسعار رمزية مقارنة مع ما تجبرنا شركة الكهرباء القطرية الإسرائيلية على دفعة وهنا لن نشير إلى النوايا الخبيثة للخطة في طرح إنشاء هذه المحطات الثلاث( والتي أشار المستر أنها تعمل على الغاز ) وبتوريطنا للاعتماد على الغاز الإسرائيلي المسروق من سواحلنا .وما ينطبق على اقتراحات المستر في قطاع الطاقة يتكرر في قطاع المياه ، فمعظم المشاريع التي تطرحها الخطة ، توصلت سلطة المياه الفلسطينية مع جهات مانحة عدة لتمويلها ودون الحاجة إلى أي مؤتمر ومنها محطة تنقية المياه والتي تم تجنيد حوالي نصف مليار دولار عن طريق البنك الدولي ودون الحاجة لوساطة المستر ، فيعيد طرحها في خطته عن طريق قروض .
أما قطاع الإسكان فليفرح المواطن الفلسطيني ، فالمستر وخطته تفتق ذهنهم لتخصيص مليار دولار لقروض سكنية وبفوائد للمواطن الفلسطيني ، وكأن جميع البنوك العاملة في فلسطين عجزت عن تقديم مثل هذه القروض ، بل والمضحك هنا أن الكثير من الدراسات المحلية الحديثة تؤكد على أن الاستثمار في القطاع الإسكاني على حساب القطاعات الإنتاجية احد أهم مشاكل الاقتصاد الفلسطيني .ولن اكرر الحديث في قطاعات السياحة وميناء غزة فكلها تتبع ذات النهج .
واطمئن كذلك إخوتنا الأشقاء ، في الأردن ومصر ولبنان أن المليارات المرصود هي ليست هبات ، وليست موجهة لأي قطاع إنتاجي ، بل تفاصيلها تشمل توسيع المعابر والطرق لتسهيل تدفق البضائع الإسرائيلية للأسواق العربية والإسلامية ، وليست منح لتحسين حياة المواطن في تلك الدول .
واختم هنا بما بدأته ، إن كان من اقترح الخطة يظن أن الشعب الفلسطيني لا يقرأ السطور ، وانه بهذه السذاجة ليمرر عليه خطط سواء سياسية ، أو اقتصادية بهدف تجنيد الأموال العربية وباسم الفلسطينيين لتقديمها على طبق من ذهب للشركات الاستشارية الكبرى في الولايات المتحدة فهو واهم ، فقد تعلمنا من تجربتنا ، ونعرف بالتحديد ماذا نريد لكي ننهض باقتصادنا ، ونعرف أكثر كيف نجند المال الفلسطيني للاستثمار في فلسطين ، أو المال العربي الشقيق لمساعدتنا دون الحاجة لأي واسطة أو مؤتمر .وكل خبرائنا والخبراء الحقيقيين يجمعون على ان السبب واحد للمشاكل الاقتصادية في فلسطين ألا وهو الاحتلال وإجراءاته لخنق الاقتصاد الفلسطيني وتدمير القطاعات الإنتاجية الزراعية والصناعية ، وحرماننا من استغلال مواردنا الطبيعية سواء في البحر الميت ، أو بترولنا في رنتيس والغاز في سواحل غزة ......مستر كوشنير نقترح عليك بدل المسرحيات الكلامية والتباكي على مصلحة الشعب الفلسطيني ، إما أن تخرج وتقول للعلن انا أريد شراء الذمم بدون مقابل ، أو تقول بصفتي امثل القوة العظمى اربد فرض حل يستثني حقوق الشعب الفلسطيني أو قل ما شئت ولكن لا تحاول الاستخفاف بالشعب الفلسطيني وافتراض انه ساذج لا يقرا ولا يفهم ولا يعرف .