نشر بتاريخ: 01/07/2019 ( آخر تحديث: 01/07/2019 الساعة: 10:52 )
الكاتب: د. حسن عبد الله
من الصعب أن تؤرخ للصحافة الفلسطينية في الخمسة عقود الأخيرة، دون أن تتوقف عند تجربة الصحفي "محمد أبو لبدة" التي بدأت في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي ولم تنته، لأن "أبا لبدة" ما زال متشبثا بقلمه، لا يغادر صالة التحرير دون أن ينجز عملاً يومياً وبطاقة كبيرة وحماسة لا تنطفئ جذوتها، بل تزداد توهجاً مع السنين واختمار التجربة.
ومن عمّل في مرحلة ما مع هذا الصحفي المخضرم، أدرك أنه لا يكل ولا يمل ولا يستعجل انتهاء ساعات الدوام، بقدر ما يهمه إنجاز عمله على أحسن وجه، فقد تزاملنا في العمل في أكثر من تجربة، وخبرت عن قرب مدى اخلاصه وتفانيه، حيث تصعب مجاراته، فهو يكاد لا يرفع رأسه عن أوراقه، يقرأ ويمحص ويدقق ويدفع بما ينجز لمخرج الصحيفة في عملية سباق مع الزمن ومع الذات ... ومع كل شيء...
"أبو لبدة" يعيش حالة استنفار مستمرة، يعدو ذهنياً وعصبياً بلا محطات راحة، وكل همّه أن يجهز عدداً مهنياً يحترم عقل وذوق القارئ. لم تكن حياته سهلة، ولم ينضج قلمه في صالات التحرير فقط، وإنما سبق ذلك سنوات من الإعداد الثقافي والكتابي، سلخها من عمره في المعتقل، وهو لم يتجاوز السنة الثامنة عشرة من عمره، وحين تحرر من الاعتقال عمل موظفاً بضع سنوات في شركة الكهرباء، إلى جانب وظيفته الجزئية في صحيفة "الفجر المقدسية"، لكنه حسم جهده وقلمه للصحافة مستقيلاً من الوظيفة في شركة الكهرباء، متنقلاً من صحيفة إلى أخرى، ومعظمها قد أغلق بأوامر احتلاليه، ليستقر منذ ربع قرن في صحيفة القدس، واضعاً كل إمكانياته وخبراته فيها.
اللافت في تجربته أنه صحفي صامت يكتب ويحرر ولا يتكلم، يتعامل مع وظيفته، في إطار المهمات وليس من موقع الاستعراضي المتباهي، أو القاء الأوامر بفوقية على من يقعون تحت مسؤولياته في الصحيفة، وهذا جعله محط احترام لكل من زاملهم وعمل معهم منذ بداياته الأولى وحتى الآن. إنه تواضع الكبار وإخلاص معتق، ينطلق من أن الصحافة رسالة، وأن الرسالة تكثيف لفكر ومعطيات وقواعد وأسس مهنية، وبالتالي فإن طريقته في الكتابة والتحرير ومعالجة القضايا الوظيفية ينطبق عليها توصيف "السهل الممتنع"، أي حينما تجرب تقليد أسلوبه تتوقع أن ذلك سهلاً ويسيراً، لكن ما أن تبدأ سرعان ما تكتشف أنك وضعت نفسك فريسة لامتحان صعب، فجَلّد "أبي لبدة" استثنائي وصبره وطول نفسه كذلك.
له باع طويل في العمل النقابي، وهو أحد مؤسسي رابطة الصحفيين، وأمين سر هيئتها الإدارية لسنوات، وحصته كبيرة أيضا في التجربة السياسية والفعل الثقافي العام، إلا أنه لم يسع يوما لمقابلة تلفزية أو إذاعية، ولم يقدم نفسه كمحلل أو ناقد، فهو لا يحب الشاشات ولا تجذبه المرايا.
لقد عاش في التسعينيات من القرن الماضي أزمات حياتية وعانى ظروفاً مالية واجتماعية معقدة، غير أنه قرر إدارة الظهر للتذمر والتبرم واستعطاف الآخرين، شد حزامه على بطنه من جهة، وشد قلمه على ورقته من جهة أخرى، ونجح في اجتياز كل الاختبارات والتغلب على التحديات، وظل هو هو كما عرفته قبل خمسة وثلاثين عاما محباً ودوداً قنوعاً شعاره العمل بصمت ..
لم يلتحق "أبو لبدة" بالجامعات أو كليات الصحافة نتيجة اعتقاله بعد إنهاء الثانوية العامة مباشرة، ليتخرج صحفياً وباحثاً، أولاً من "مدرسة الاعتقال"، ثم من خلال انخراطه في الصحافة الوطنية مراسلاً ومحرراً ورئيس تحرير، ابتداءً من الفجر ومروراً بمجلتي الشراع والعهد واشرافه على مركز الزهراء للبحوث ومكتب القدس الصحفي، وصولاً إلى عمله في جريدة القدس التي يضطلع الآن بمهمة مدير تحريرها.
إنها مدرسة الحياة كما وصفها الروائي التقدمي حنا مينه، حين يُصقل الاستعداد في الميدان العملي، ويُغذى بالقراءة والتحصيل الذاتي، و"مينه" لخص تجربته الخاصة قائلا "تعلمت من الحياة... تعلمت على قارعة الطريق"، أما "أبو لبدة" فقد تعلم في المعتقل والشارع والنقابة، تعلم من الناس وظل وفياً لهم معبراً عنهم.