الثلاثاء: 04/02/2025 بتوقيت القدس الشريف

تحفة الزواج الميسر بين سعيد بن المسيب وعقل ربيع

نشر بتاريخ: 08/07/2019 ( آخر تحديث: 08/07/2019 الساعة: 10:04 )

الكاتب: وليد الهودلي

ضرب العالم التابعي سعيد بن المسيب مثلا رائعا عندما زوّج ابنته من طالب فقير من طلابه بعد أن رفض تزويجها من ابن الخليفة هشام بن عبد الملك ، عقد الزواج عصرا ثم ذهب بابنته مساء شفقة منه على هذا الشاب أن يبيت ليلة واحدة دون زوجته التي أصبحت حلاله بعقد شرعي على سنة الله ورسوله ، تجاوز بذلك كل تعقيدات الافراح والليالي الملاح ، تهاوت كل الشكليات والطبوليات والبهرجات وولج بعمق الى روح الزواج وفلسفته العميقة في حياة الانسان ، النفس الواحدة التي خلق الله منها الذكر والانثى لا بد أن تتكامل في بيت الزوجية بسعادة وهناء ، ومن قال ان السعادة لا تتأتى الا من بوابات الجاه المزيفة وليالي الطرب الصاخبة والمهور التي تثقل كاهل خاطب الحسناء لتتحول الى سلعة غالية توزن بالدينار والدرهم ومثاقيل الذهب ، هذا العالم الفقيه بروحه العالية وبفهمه العميق للدين ونسجه الاجتماعي الحكيم يجسد حقيقة سماوية ويجعلها واقعا في حياة الناس : نقية جميلة صفية زاهية زكية ، خالية من شوائب ابتدعها الناس بأيديهم فصارت أغلالا وآصارا تكبل حياتهم وتحرف مراد الدين في الزواج واقامة لبنات المجتمع الصالحة عن مسارها الصحيح، ثم لتفقد روحها وتصبح كلّا على الناس .
وتبقى قصة سعيد بن المسيب في غياهب الكتب يعلوها الغبار وتدوسها عجلات الاعراس المتخمة بالشكليات ، تبقى مغيبة منسية والاعراس المنتشرة في عالمنا الاسلامي الواسع لا تلقي لها بالا ، بل تعمل بالعكس تماما ، تنفق الاموال الطائلة لتحقيق سعادة وهمية زائفة ، ويقلد الناس بعضهم بعضا بل يتسابقون في الاسراف والبذخ في إقامة صخب وضجيج وحشد جموع الناس ليشهدوا مساخر ومصارخ تصخ الاذان وتزعج الجيران ولا تجد فيها فنّا راقيا ولا معنى ساميا ، تجد ما يتخم البطون ويرهق العقول ويضرب عوالم القلوب والمشاعر بخليط من الصوتيات التي لا معنى لها ولا مبنى الا اللهم ما يهوي بالمستمع في واد سحيق ومنزلقات تدغدغ السفاهة والطيش وبلادة الحس ولا ترتفع عن "هزّي خصرك هزّي .. " .
وبقى المثل الذي ضربه لنا سعيد بن المسيب في عالم الكتب الى أن أتى رجل فبعثه من جديد ، شاعر مجيد ممتاز بشعر الحكمة وارتقاء الروح والعقل ، دوما يقدم ما تسمو به روحه على طبق الشعر الجميل الأخاذ النافذ المحرك لكل ما يمتلك القلب من مشاعر ، ما أن تتم قراءة بيت من أبياته الا وتقف مشدوها منبهرا متأملا متذوقا للغة عظيمة أعلاها مثمر وأدناها مغدق ، أنّا لرجل يمتلك كل هذا المخزون من كنوز اللغة والحكمة أن ينزلق في مهاوي العادات والتقاليد التي تهوي باصحابها الى حيث البداوة البشرية والمادية الحجرية الصنمية التي لا تفقه لغة الروح ولا تصل الى عمق الحياة الزوجية ؟
الاستاذ الشاعر الاديب عقل ربيع والذي هندس بيتا كما يهندس شعره الجميل ، ينتظم مع بنته وزوجته كبيت من أبيات شعره التي يحلق بها في عنان السماء ، يشترط مع العروس وأمها شروطا تتناسب مع مكانه ورفعة قدره ..
ويتهيؤ طالب يد العروس من طرف العريس الى شروط تتناسب مع هذا القدر الرفيع لهذه العائلة الكريمة ، وطالما أنه أجاز لنفسه أن يتقدم الى أصحاب المقام العالي فليتجهز لتلبية شروطهم ، فمن يطلب الحسناء لا يغله المهر ، والامر هذه الايام ليس للرجل فكم من رجال توقع منهم الناس مواقف الرجال ولكن رجولتهم خانتهم أمام متطلبات الجبهة الداخلية ، النساء هذه الايام على كلمة واحدة : " لسنا أقل قدرا من الناس " لا يقبلن بمهر أقل من مهر فلانة بنت فلان ، ولا أعراسا أقل بهرجة من أعراس دار فلان وعلان ، يطأطىء الرجل رأسه أمام طلبات جبهته الداخلية فيُنحّي رجولته جانبا ويتحدث بلسان تلك التي تقف خلف كل عظيم .
الكل علم وسمع بقصة عالم المدينة سعيد بن المسيب ولكنها مع مرور الايام أصبحت تحفة أثرية ، تنازلنا عنها بعد أن وعيناها جيدا ، هضمتها قلوبنا وعقولنا ولكن الواقع هضمنا وهضمها ، دارت بنا عجلة الواقع الذي سيطرت على رأسه تعاليم التخلف والسير بنا الى مجاهيل الادغال وحياة الطبل والمفرقعات وزركشة الكلام ونفاق المجتمعات وغواية صالونات قلب الاشكال ودور عارضات الازياء وعوالم الموضة التي أصبحت أمضى من عقول الرجال .
بيت الحكمة الذي انطلق من بيت شاعر الحكمة عقل ربيع انتظم بشروط خاصة فاجأت طالب يد العروس ومن معه من الرجال :
طالما أنا رضينا بالشاب دينا وخلقا فشروطنا هي التالية :
• لا نريد مهرا بقيمة مادية فمهر فتاتنا هو ما رضيناه في الشاب من خلق ودين .ويكفينا أننا من الذين يستظلون بحديث نبينا صلى الله عليه وسلم " أقلكن مهرا أكثركن بركة " .
• لا نريد جاهة وأن تأتوننا بربعكم وقضكم وقضيضكم ، جاهتكم عندنا هي سيرتكم وصورتكم الطيبة التي وصلتنا قبل حلولكم بدارنا .
• لا نريد قاعات ولا حفلات فحفلاتنا نقيمها في صدورنا بما يتحقق من قناعة ورضى عن هذا الزواج المبارك . لا حنّة ولا زفّة ولا فرقة ولا غداء ولا قاعات مغلقة ، فرحنا وسعادتنا هي عندما ننجز تطبيقا عمليا لحديث نبينا " يسّروا ولا تعسّروا " .
يكفي الشباب ارهاق وتعاسة جلبتها عليهم هذه الطقوس القاسية والعادات البالية ، لقد اجتمعت ظروف مريرة على شبابنا في ظل احتلال بغيض ، البطالة وغلاء المعيشة والرواتب المسحوقة لمن يجد وظيفة وكل ضغوطات التهجير لتفريغ البلد من شبابها ثم مع كل هذا غلاء المهور ، لقد دفعت كثيرا من الشباب للهجرة والزواج في بلاد الغربة وتركت بناتنا فريسة للعنوسة ، لقد بات من الضرورة بمكان أن يعاد نموذج سعيد بن المسيب للحياة من جديد .
لقد رأيت بأم عيني اليوم ما لا يصدق لو سمعنا به دون أن نراه ، هذا ما فعله ربيع عقل في زواج ابنته، عندما يُزهر العقل المسترشد بوحي السماء ويُنتج أفضل ما عنده فإنه يُخرج للناس ربيعا ، بالفعل لقد أحيى لنا نموذج سعيد بن المسيب من جديد ، قدّم فتاته على طبق من ذهب لاسير محرر قد تحققت به صفتي الخلق والدين ، دون أية تكاليف وعلى شروط التيسير التي طلبها ، والاجمل من هذا كله أنها قناعة مشتركة لهذا البيت الجميل ، ولقد لقيت طريقها في ارض الواقع لتكون مثالا حيا ومنارة عالية لمن أراد أن يكون من الاخيار، منعتقا من تقاليد بالية قد عفى الزمن عليها وأرهقت الناس .
• طوبى لمن كان منارة لغيره .
• هنيئا لمن شق طريق خير وعلق الجرس .
• من أقام للناس فرحا فليخفف .