الكاتب: المتوكل طه
لقد أصبح المشهد ، في أتون ورشة الشيطان التي شهدتها سوريا الحبيبة ، ملتبِساً على الجميع، وعمّت الفوضى والدمار خلال وأثناء "هذه الحرب" وبعدها في معظم الأقطار، التي نبت فيها إرهاص جديد هو ما سُمّي بالربيع العربي، وتشوّش الفَهم، وربما نفرَ الناسُ من عملية التغيير كلّها، بل وفضّلوا بقاء الظلم والقهر والدكتاتورية على الحرية المقرونة بالدمار والفوضى وغياب الأمن.
إنّ هذا الحدث، والذي لم يعد ربيعاً واعداً في العديد من الأقطار! لم يستقرّ بعد، وسيُنتِج دوائرَ وتداعيات هائلة، على غير صعيد ومستوى، وسيكون مآله، رغم كل شيء، على المدى البعيد ، إيجابياً بالضرورة، وأفضل مما كان. وأؤكد أن هذه الأحداث الصاخبة الوسيعة والدامية ، ومهما اعترضها، وكيفما لوّثوها ، فإنها ستُقدّم في النهاية لغةً جديدة وثقافةً أخرى .. هي ما نحتاجه، بعيداً عن كل المفردات السوداء المتمثّلة بالقمع والمُغايرة والجهوية والعنصرية والتسلّط والنّهب والاحتكار والإقصاء .. باختصار بعيداً عن كل ما يحول دون تحقّق الحرية بمعناها المُطلق والمقدّس .
ويبدو أن من تجليات هذا الزلزال العنيف أنه أصاب كل مكوّنات الحياة ، فوصلت تداعياته وارتداداته إلى باطن كلّ الأشياء ،ما يُفسّر هذه الأسئلة الكبيرة والحارقة التي وجدت لذاتها مُتنَفَساً في هذه اللحظة الرجراجة ، كما تيسّر للمراقبين القدرة على رؤية المجتمع وهو يتعرّى من ثيابه وينكشف .. فتظهر نتوءاته السلبية ! بمعنى أنّ خلخلة المُسلّمات ، وطرح الاستفسارات ، والتجرّؤ على طرح الرأي المناقض والمُعارض ، بات مُتاحاً ويجد لنفسه أرضاً ، سنكتشف أنها أرضٌ تتقلّب وتهتزّ وتتغيّر ، وتُلقي ما اختبأ في كهوفها من ضلالات وفظاعات وعناكب سامّة ، ما يعني أنّ هذا التلاطم والتصادم والعتمات والارتباك .. سيصحب معه تشققات ستمسّ وتضرب قلب كل بناء ومكوّن في المجتمع .
من هنا أدخل إلى عالَم رواية خليل صويلح " عزلة الحلزون " ، والتي اجترحها من فضاء العاصمة دمشق العزيزة ، المُحاطة بأصداء ذلك الزلزال ، وهو وراء زجاج مكتبه ، يراقب ما ينبض ويظهر ويمور أمامه ، ما يجعل حضور آثار " الحرب " من حوله طبيعياً ومتوَقّعاً ، وكيف أطلّت برأسها الشيطاني المُدمِّر ، ص 77، وكيف نُهِبَت البلاد بشكل مفزع ص78 . إن هذه الرواية قد عكست بعمق وضراوة مأساة الحرب التي تشهدها سورية ، بطريقة غير مباشرة ، بعيداً عن التنظير والاجهاش ، وبكيفية تحمل كل تلك المآسي والكوارث والدماء والأشلاء والانكسارات ، وتلقيها ، في وجهك ، دون استئذان . ويكفي ما قاله هنا ، ليلخّص ما ذهب اليه" تمكنّا بعد حصار طويل من عبور حقل الالغام بالمشي على أشلاء الذين انفجرت بهم الألغام قبلنا ، وهم يحاولون الهرب " ص150 .
كما أن انكشاف الأشياء العارية والفاسدة والمعطوبة أمرٌ متوَقّعٌ وطبيعي ، ومن المعقول ان يُسلّط الضوء عليها ويُظهر سوءها وخطرها .
ولأن الإنسان "الطبيعي" في حمأة الأزمات يصبح إنساناً " مأزوماً " بالضرورة ، فإننا سنرى صورَ هذه الأزمة تتجلّى في سلوك الناس ، من خلال توجّه النُخب والأفراد نحو الخلاص الشخصي، والابتعاد عن الفعل الجماعي، وعدم الثقة بالعمل الطوعي والجمعي، عداك عن الذهاب للانتماء إلى الحلقات الصغيرة كالبلد أو الطائفة أو العشيرة أو الشلّة، وكذلك فإن المأزوم يتقمّص ويُقلّد قاتلَه ، إضافة إلى أنه يستخدم اللغّة النهائية (التكفير، التخوين ..الخ أو تأليه الذات وادّعاء امتلاك الحقيقة " المُقدّسة ") ، علاوة على أن الكفر بالحضارة والتاريخ والثقافة والجذر الأصيل هي من مميزات المقهور والمأزوم، جنباً إلى جنب إشاعة مفردات الكآبة والإحباط والسواد ، ثمّ إن تمزيق الذات بغير آليّة ، والإساءة إلى الرموز وإهانتها هي من مسالك المهزوم وسجاياه العقيمة . من هنا ، أيضاً ، نفهم شخوص الرواية ، بدءاً من الراوي المُنكفئ الخائف الباحث عن خلاصه الشخصي وسط هذا الضجيج المريب والمخيف مثل الحلزون ، علماً أنه يعمل صباحاً ومساءً ليتمكّن من العيش !، مروراً برئيس تحرير الموقع الألكتروني الانتهازي المنافق ، وصاحب دار النشر المُزَوِّر ، والضابط كاف ومرافقه ، ورهام المُتقاطِبة ، وسهام التي تبيع روحها ، وانتهاءً بشخصية غاندي كاز الضائعة، وباقي الشخصيات المرورية والأساسية . وأنّ كل شيء مستباح ! إذ يقوم صاحب دار النشر بالسطو على الكتب التراثية ، فيبدّل ويغيّر ويحذف منها ، فيما يقوم صاحب الموقع الالكتروني بتزوير التاريخ ، فيما يتحوّل الناس إلى ما يشبه الحيوانات الضالّة السائبة الخائبة المُستسلمة (ص154) ، وبطانة كل ذلك حرب أتت على كل شيء فأشاعت الإحباط والانكسار والكآبة ، مع قبضة تتحكّم وتستبدّ وتمعن خراباً في كل شيء ، في لحظة ينكشف فيها التاريخ ، فتظهر نتوءات الخيانة والتزوير والموبقات ، بأقبح صورة ، كما تبزغ مشاهد الرذيلة والمُتع الرّخيصة من الواجهات ومن وراء الجدران وفي العتمات . لهذا كان "طبيعياً" ، في مثل هذه الظروف والمعطيات ، أن يكون كلُّ شيء مُزوَّراً وممجوجاً وخَرِباً ، بدءاً من التاريخ ( القديم والجديد ) -أنّ الكاتب أو الصحفي هو مُزوِّر اللحظة وليس مؤرِّخها- ، مروراً بالإبداع – الكتابة والإعلام ، وانتهاءً بالنساء اللواتي يبدّلن أشكالهن وتصير مفاتنهنّ "بلاستيك صناعي" ! عدا عن أنّ "التاريخ" ما هو إلا سلسلة دموية من العنف والبطش والاستلاب ، وأنه حلقات متّصلة من تكميم الأفواه وملاحقة الحكماء والفلاسفة والصوفيين ومنعٍ للنشر ، والحرقِ ، ووأدٍ للعقلِ وتحريمٍ للقوْل الحق !
ويبدو أن ثمة تماهياً بين خليل صويلح والراوي إلى درجة تنتفي فيها الفواصل بينهما ، وهذا يمدّ الرواية بصلابة واقعية .
واللافت أنّ الكاتب يوطّئ لروايته بتاريخ سلالة أجداده ( الهلاليين ) وكأنهم ولدوا من فضاء جينيٍّ إجراميّ ، فكانوا ، تبعاً لأسماء الحيوانات التي يحملونها (السمحج ،السحليّة ، الضبع ، السبع ، السرحان ، ابن آوى ، أبو الحصين ..) سيتصرّفون بحيوانيّة وغلظة وقسوة ( الجدّ الذي يغزو ويسبي النساء ، الجدّة التي باعت شرفها وقبيلتَها بحفنة تبغ ، الجدّ مقطوع المحاشم لنزواته ، قطع الطُرق في كلّ آن ، سرقة الآثار ومتعلّقات الموتى ..الخ )،الشهوانيّون ،الشبِقون ، الغزاة، الدميّون ، الذين يحملن في صدورهم قلوبَ الذئاب وليس أفئدة الطيور!
ما معنى ذلك ؟ معناه أنّ العتبة الأولى التي أصَّلَت مداركنا كانت عتبة ساديّة إجرامية، ما جعلنا نتاج سلالة قاتلة متوحشة باطشة ، لا ترعوي عن اقتراف كل ضلالة ومهلكة ! لهذا ، كان تاريخنا وما زال ، كما تقول الرواية ، هو تاريخ عنف وكراهية وتكميم أفواه وسحْل وتبديد ! الأمر الذي جعل الروائي يدعونا إلى " الفُرجة السوريالية المجانيّة لحروب الإلغاء والإبادة : طائفة تلغي أخرى بجرعات عالية من العنف والقسوة والاغتسال برغوة صابون الكراهية من آثار الآخر وآثامه" ص67 .
إن الروائي الذي توقّف أمام سؤال كتابة الأحداث بعد مئات السنين ، يجد إجابته التي يقرّرها في غير صفحة من روايته ، والتي تتلخّص في أنّ التاريخ الذي كُتِب بعد قرون من الأحداث .. هو تاريخ مُحَرَّف ومُزَّوّر وغير دقيق ومبالَغ فيه ، مثل قصص جدّه الأول الذي كان يستحضر قصصاً خارقة عن بطولات مشكوك في أمرها ، وقد أصابها التبديل والتحريف ، لِبُعد المسافة التاريخية بين الأحداث وتدوينها ، وبسبب المُشافهة ، والهوى، والجِهويّة ، والطائفية ، والحزبيّة ، وقوّة المُتسلِّط الحاكم ، وغَلَبة موازين القوى ، وتفرّد الراوي المُسيطر . حتى أنّ الروائي يذكر كيف تمّت عملية تزوير العديد من أمّهات الكتب ، ويورد قصة المستشرق أنطوان غالان مع الرحّالة الحلبي حنّا ذياب ، ومع المستشرق الفرنسي بول لوكا.. وإضافة وتأليف قصص وحكايات على ألف ليلة وليلة ! كما أن الراوي في سياق تدقيقه وتحريره للعديد من كتب التراث قد اكتشف أنها تعجّ بالاضطرابات وبأيام تزعزعت بالفوضى ، وكيف ظهر الشُطّار والعيّارون ، دائماً ، وعاثوا فساداً في البلاد .ص 82 .
ويؤكّد الروائي على أنّ هذا التزوير متواصل ، إذ يذكر مباشرة ، وهو منكبّ على كتب التراث ، كيف أنّ رئيس التحرير الحاليّ ، وهو جاهل انتهازيّ ، يمدح وينافق ويزوّر الحقائق .. بلغته الخائبة الخشبية الجوفاء !وكيف سيصبح ذلك تاريخاً بعد سنوات !!
ويوظّف الروائي كل سطر حتى يؤكد مقولاته التي يتغيّا إيصالها والطَرْق عليها وتكريسها، مثل تفاصيل ما ينقله من كتب التراث عن قمع العلماء ومؤامرات الساسة ، والإتيان بمقولات تعزّز أفكاره ومقاصده المنحازة كلياً للحرية والكرامة والمفاهيم المطلقة البيضاء .
إن عصور القمع ، والميتة الشنعاء للمؤلّفين ، والنهايات المفجعة للعلماء والكُتّاب الموسوعيين القدماء ، جعلت الكاتب يجد نفسه أمام كابوس أكثر جحيمية ، وإن سيرة أولئك الضحايا الأفذاذ دفعت الكاتب لأن يقلق بخصوص الهوية والرّقابة .. حتى أنه أحسّ برائحة شواء لحم بشري تتسرّب إلى رطوبة الهواء في مكتبه الحديث ! دلالة على تواصل القمع والعنف والبطش .
إن نقد الروائي للتاريخ القديم والجديد ، من وراء ذلك الزجاج ، وهو على مكتبه ، جعله ينعف كل أوراق التاريخ في وجوهنا ، ويحرّك فينا الساكن ، ليقول إن ثمة رواية أخرى ، أو وجه آخر للتاريخ ، وثمة ما هو مسكوت عنه ، وإن التاريخ مجموعة وثائق عن الخزي وليس سجلّاً للفضيلة .انظر ص 95 .
إنّ التاريخ القديم ، العنيف والمُزوّر ، يجد في هذه الرواية مُعادلاً موضوعيّاً له ، من خلال المشاهد المشابهة والمتطابقة والمتكررة ، التي تقع "الآن" ؛ من قتلٍ ، وتدمير ، وإقصاء ، وطائفية ، وعشائرية ، وتحوير ، واستبدال ، واختلاقٍ ، وقلبٍ ، وقطع ، وانتقائية ، وسلخ ، وتنقية ، وترميم ، وإساءة ، وتذويب ، وإلغاء .. والعديد من الآليات والطرائق التي تبدّل الحقائق وتعكسها تماماً .
وأرى أنّ جرأة هذا الروائي الرائي ، والناقد بحقّ وجسارة ، واضحة في هذه الرواية ، لكل ما هو قائم من خراب متواصل .. أنظر ما قاله حول الأحياء التي هدّمتها الحرب ، وكيف يفكر الفاسدون القتلة في ابتلاع تلك الأماكن لإعادة صياغتها وامتلاكها وطرد أصحابها الضحايا وتعميق أو تأبيد مأساتهم ص123و124 .
وسنرى في الرواية مصائر مفجعة وخسارات مبهظة ، لحقت بحيوات العديد من كبار كتاب حضارتنا من ابن رشد إلى الجاحظ وابن المقفع ، لتظهر كارثة ملاحقة المتنوّرين وأصحاب الرأي الحرّ، وهزيمة الحكمة والعقلانية ، عبر الزمن ، وسيطرة التطرّف والعمى والضلال والوهم والجهل والعنف وتبديد المعرفة . ويقيم الروائي حوارات مباشرة مع العديد من كبار الأدباء القدماء مثل الجاحظ وابن رشد ، ويستنطقهم ويحادثهم ، ليكشف عبر الحوار معهم ، عمّا لحقهم من غُبن أو تبعهم من ظُلم وإجحاف .
وعلينا أن ننتبه ألى النهايات التراجيدية لأبطال الرواية ، ما يجعل إيقاعها المذبوح ينتهي إلى هذه الفاجعة الصادمة ، للكثير منهم . مثلما نرى ، من البداية إلى النهاية ؛ كيف تُصنع الأكاذيب علناً !
إن الروائي المصدوم من التاريخ المُدمّى والقذر ، يعتقد أن ما تكتبه المرأة على ملأة سرير عشيقها ، هو التاريخ الوحيد غير المزوّر ، وكل ما عداه أكاذيب مؤرّخين .
وهنا أتوقّف لأقول : لا شيء اسمه " التاريخ " ! إنما هناك وجهة نظر فيما يقع من أحداث ، تبعاً للمصلحة ، والموقف الفكري ، والهوى السياسي ، والزاوية التي تنظر منها . ودليلي على ذلك هو ؛ أنّ مؤرّخاً أو كاتباً سيقول ويكتب : ( إنّ الذي يجري في سوريا هو ثورة وربيع شعبي بلغ معياره ، ضد الديكتاتورية والإذلال والتجويع والقمع والفساد والاحتكار والتوريث ،جوبِه بعنف مبيد فاجر استخدم خلاله النظام سياسات الإبادة الجهنمية فدمّر البلاد وهجّر العباد ونكّل بالملايين ،وصانّع وباع المقدّرات للقوى الكبرى لحماية نفسه ، في حين لم يُحرّر أرضاً طيلة أربعة عقود وقمع التقدميين والأحرار ، وتمّ اعتراض هذه الثورة وتلويثها من قبل النظام والقوى الإقليمية التي تحمي النظام لمصالحها في النفط والمياه الدافئة وتصدير الثورة، وحتى لا يُحدث هذا الربيع تحوّلاً في المنطقة وتستعيد الشعوب كرامتها وثرواتها وحريتها . وإنّ الذي يهدم الأبنية ويُلقي الأسلحة الكيماوية على أبناء وطنه لا يمكن أن يكون مُقاوِماً ). وسيكتب مؤرّخٌ آخر : ( إنّ هذا الربيع ما هو إلا فوضى غير خلّاقة مُعدّة سلفاً لتدمير سوريا ومحور المقاومة، كما دمّروا العراق واليمن وليبيا .. حتى تخلو الساحة الإقليمية لإسرائيل وتكون كل الدول المحيطة بها حُطام ، ولتواصل الدول الامبريالية نهب ثروات العرب ومصادرة مستقبلهم ، وتجعل من ربيبتها اسرائيل دولة فوق القانون ، وإن أمريكا وحليفتها لن يُسامحا سورية على موقفها في حرب تموز 2006 ووقوفها الحاسم مع المقاومة ضد اسرائيل، وإن النظام عروبيّ يواجه سياسات تذرير المنطقة وتفسيخها وأهداف سايكس بيكو الجديد. )
إذاً نحن أمام "تاريخين" ! فأيّهما نُصدّق ؟ من هنا أكرّر بأنّ التاريخ ، إذا لم يكن مشفوعاً بوثائق وأرخيولوجيا ، فإنه ظنّيّ قابل للشك! وتظل هناك وجهات نظر أو روايات للتاريخ ، لا يجوز الركون إلى إحداها ما لم تدعّمها قرائن وسياقات ومبررات ، أو تبقى وجهات النظر متقابلة متعاكسة ، ولكلٍ وجهة نظره .
وعليه ، فإنّ ما جاء في الرواية من تقرير تاريخي يفيد بأن ثمّة قمعاً لحق بالعلماء والمفكرين .. سيُقابله غير رواية تقول العكس تماماً ! فماذا نفعل ؟
مثلاً : قرأنا كثيراً عن قمع الأمويين لخصومهم وكيف صادروا الحُكْمِ ..الخ ، وعندما نقرأ كتاب العواصم من القواصم لابن عربي ، سنرى عكس ذلك تماماً !!
إذاً نحن ، مرّة أخرى ، أمام معضلة " الانتقاء " أو " الاختيار" أو " تنقية التاريخ " ، ما يدفعني للتأكيد على ضرورة عدم تقديس أو تبنّي أي رواية .. إلى أن أتعمّق وأتبصّر ، ثمّ أُرجّح ..بعيداً عن التعصّب وإطلاق الآراء النهائية المُغلقة . ثمّ عليّ أن لا أُجرّد أي رواية أو فعلٍ أو شخصية من زمكانها ، حتى أفهم أكثر ، الوحيَ الذي أحاط بها ودفعها لهذا السلوك أو ذاك ( مثلاً ؛ لماذا قام ابن تيمية بإصدار فتاويه الكبرى، في وقت كان الاحتلال لبلاده يحرق ويغتصب ويذبح ويسلخ ويسجن .. مع الإشارة إلى عدم جواز الأخذ بفتاويه ، اليوم ، لأن للفتوى زمان ومكان ) .
علاوة على أهميّة إعمال ما قام به البخاري من جرحٍ وتعديل وعلم رجال ، حتى نتبيّن الصحيح المتواتر من المقطوع والضعيف والغريب .
أُكرّر : لا يوجد "تاريخ" . هناك وجهة نظر ، واختيار تبعاً لما ترى .
وبظني فإنّ الروائي التقط النقاط الدامية والمساحات الشائكة من التاريخ ، لأن لحظته التاريخية مغموسة بالدم والعنف والحطام . وثمة اشتعالات وإضاءات مبهرة في هذا التاريخ ، الذي لا أدعو إلى تنقيته أو تقديسه .
***
ويسترعي اهتمامنا أنّ المجتمع " الضعيف " لا ينطق بالحق ، وهو جبان يخاف ، ولا يحتمل الحقيقة ، ومرعوب منافق ، وباطنيّ ،على العكس تماماً من المجتمع " القوي " الذي ينتقد ذاته ويعترف بأخطائه ويسعى إلى إصلاحها ، ويتحمّل البوح وكل ما يقال ! لهذا فإنّ مجتمع الراوي اليوم يخاف من نشر كتاب إيروتيكيّ تترجمه امرأة !
***
إن كاتباً يقرأ ثم يقرأ ثم يقرأ بعمق ووعي وتنوّع ، كما نرى تجليّات ذلك في هذه الرواية ، سيجعلك تحظى منه بالضرورة بعمل يتفجّر بينابيع عذبة ثرّة من المعارف والخلاصات المكثفة ، وسيؤكد لنا ، مرّة أخرى ، أن القراءة الجادّة والمتواصلة هي ما ينتج مسوّدة باذخة ، ستصلنا صفحات ذهبية تفيض بثقافة تغري بالتصفّح والعودة للاستزادة ، مثلما تملأ القاريء بقناعات تقوم على ثوابت وشواهد ، كما تستفزه ليعجم كلّ المسلمات . إن هذه الرواية ترجّ الثابت الذي يبدو ساكناً ، وتطرح أسئلة حارقة أمام الأحاديث والسرديات والمرويات والقصص التي أخذت رتبة القداسة والمسلمات النهائية ، التي اعتقدها الناس وأقرّوها بحقيقتها ، التي تبدو غير قابلة للمعاودة أو الشك .
إنّ القدرة المذهلة على السرد ، بهذا السبْك السّوي ، وانتقاء الكلمة الأكثر مناسبة ، وشحنها بسياقٍ بلاغيّ رشيق وغير مسبوق .. يجعلني أقرر بأن هذا الروائي يمتلك أسلوباً غير معهود ، ويؤسس لأسلوب مدرسة خاصة به ، قلّما تمتع بها كاتب !
وإنّ لغة الروائي الصافية الحسّاسة المعافاة ، التي ينظمها في لوحة إثر لوحة ، جعلها أقرب إلى البناء الشعري منها إلى السرد النثري البارد المباشر ، ما خلّاها نافذة نابضة وشهيّة مريحة ، ترسم لك ، بمجازاتها وتشكيلاتها ، المعنى صافياً ومغرياً وجديداً .
***
ولعل الكشف والبوح الجسدي الذي رأيناه ما بين الراوي وبطلته ، بدا أخّاذاً وأنيقاً ونابضاً ! وبالرغم من إظهار تفاصيله ، إلاّ أنه ظلّ في دائرة الجَمال المبهر الماتع البعيد كليّاً عن الفجاجة ، والعري بقصد الإثارة المجانية.
إن تحوّل رهام البطلة، من مُدرّسة في دير ، وكادت أن تكون راهبة .. إلى امرأة تسعى إلى المتعة وتغلّب الشهوة ، وتؤصّل للجسد ورغباته .. إشارة إلى سقوط عصور العفّة، ودخول المجتمع إلى مرحلة الانكشاف وإشباع الرغبات وانتصار الغرائز ، وهذا يتوافق كلّياً مع مقاصد الرواية ، بأنّ المجتمع مأزوم يومض نحو الهاوية.
غير أنّ الروائي ، أحياناً ، يُطلق أحكاماً نهائية على بعض العلماء والأئمة ، مثل حُكمه على أبي حامد الغزالي ب" الهرطقات " وعلى فتاوى ابن تيمية ب"الهوية المضادّة" .. وهكذا ! وأعتقد أن الأمر لا يصحّ بهذه الطريقة ، فثمة رأي آخر يفنّد رأي الراوي ، وله وجاهته المحقّة ، ويحتاج الحُكم الى فحص وإعادة نظر ! فآراء الغزالي جميعها لا يمكن أن تكون هرطقة !
ويطعّم الروائي صفحاته بقصص تراثية فنتازية لطيفة ومسلّية ، وتحمل حكمة مُقطّرة ، مثل قصّة الحطّاب ، وهذا يرطّب أجواء الرواية ، ويشحذها بمتعة إضافية ونكهة طيبة.
وبعيداً عن الذهنيّة والصنعة ، يأخذك خليل صويلح ، كعادته ، إلى هذا التدفّق البديع ، كأن السماء قد بعثته إلى الأرض ليكون روائياً بامتياز ، وليبعث غير مسألة ، يلجها وهو يمتلك أدوات تفكيكها ، ووضعها على بساط صفحاته ، بحذق ودراية ، كأنه "أُسطى" يمسك بتحفته المُشعّة ، ويقدمها سائغة ، فتنسرب بمياه ضوئها إلى روحك ، وتتفشّى في شرايينك ! وما أن تنتهي من الإحاطة بها ، حتى يحتلّك النور البهيج ، فتشفّ ، وتحسّ بأنك قد خرجتَ من الرواية بغير ما دخلت إليها.
باختصار ؛ إنّ خليل صويلح روائي ستقف أمامه الأيام وستنحني له .. وتحمله.
شكراً أخي خليل على هذا العمل البليغ الرائع والمضيء.