نشر بتاريخ: 05/08/2019 ( آخر تحديث: 05/08/2019 الساعة: 09:58 )
الكاتب: ميساء جيوسي
نقف على بعد مسافة شاسعة جدا بين الحاضر بكل مكوناته وما تربينا وكبرنا عليه. مسافة اختلت بها موازين الأخلاق تحت مسميات كثيرة. أو قد تكون مختلة منذ نعومة أظافرنا لكن عدم وصولها إلينا عبر وسائل التكنولوجيا المتعددة جعل من الصعب علينا تخيل وجودها في المقام الأول.
فنحن نشهد انحلالا مخيفا وتطرفا وتشددا أكثر إخافة، الأول يتمثل في الابتعاد عن الدين وإنكاره وإسقاط منظومة الأخلاق والتربية بشكل تام، أو تشددا مخيفا وتعصبا للدين وشيطنة للآخر تبيح من الأعمال والأقوال ما يندى له الجبين. وما بين الفئتين تتأرجح فئة صغيرة تقارب للأسف على الانقراض، لكنها تحاول جاهدة البقاء في صراع حاد ما بين الأولى والثانية، و هنا نتكلم عن مفهوم الأخلاق لا مستوى التعليم أو المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي في ما يعرف التقسيم الطبقي.
و لعل أول هذه المفاهيم وأكثرها مدعاة للنقاش والجدال هي مفهوم "الحرية" التي بها فجوة واسعة مابين المجموعتين المتشددتين على طرفي نقيض. نعم "الحرية" مفهوم إنساني سامي جدا، طاقت إليه أرواح المظلومين وبذلت في سبيله الشعوب الغالي والنفيس. لكن ما أتحدث عنه هنا هو الحرية الفردية التي يتهافت الناس عليها في أيامنا هذه مرددين بلا فهم "أنت حر ما لم تضر" أو "تنتهي حريتك حينما تبدأ حرية الآخرين" أو غيرها من الديباجات التي نسمعها. هل وقفنا لنفهم ونحن على بعد أشهر من 2020 معنى الحرية الشخصية لنا في مجتمعاتنا العربية المتهالكة؟ هل هي تضيق لسياق الملبس والشكل، المشرب والتصرف وطريقة وضع الحجاب ؟
لا أريد أن أخوض في مفهوم الحرية كما أراه شخصيا والذي قد شكلته بناء على عوامل التنشئة والدين والمجتمع، المجتمع الذي أصبحت الأجيال الصاعدة بمعظمها لا تلقي له بالا تحت مظلة أنا حر/حرة. نعم أنت حرة وأنتي حرة، لكن هل انتم وصلتم من المسؤولية والدراية الكاملة بمكان أن تقدروا معنى الحرية. هل تداخلت عندكم الحرية بقلة الأدب، وعدم الاحترام، وشيطنة الاختلاف. هل نسي الأهل في عراك الحياة المتسارع أن يزرعوا بأبنائهم خصال الأخلاق ويعلوا لديهم مبادئ الحق، والصدق والاحترام والأدب وتقبل الآخر وعدم الحكم على الغير فكلنا في نهاية المطاف بشرا نخطئ مرات ونصيب أخرى.
نعم نحن نحيا في عصر منفتح، جعلت فيه التكنولوجيا راقصة شبه عارية تقفز في إعلان وسط كرتون للأطفال، أو دراما إن صحت تسميتها تعج بكل ما هو بذيء تعلو شاشتها 18 . وجعلت شيخا مغمورا مجهول الهوية يخطب بجواز زواج الكفاح، واغتصاب الفتيات في الحروب وارتكاب جرائم باسم الدين؟
نحن مجتمعات عربية، أخذنا من الغرب قشور الحضارة، ففتح البعض الباب على مصراعيه لما رأى وتبنى كل ما هو غربي دون أدنى اختبار أو تطويع للمجتمع. والجمع المقابل رفض كل حديث وتكور مبتعدا كارها لما يحضر من الغرب محاربا له ولمن يتبنوه. تغيرت بنا الأمور بين مجموعة رأت بأن رقينا في عرينا، ورفعتنا في اعوجاج ألسنتنا، وتميزنا في أن نعرف عن غيرنا ما نجهله عن أنفسنا. ومجموعة رأت بأن رقينا باختبائنا ورفضنا للتكيف المدروس، ورفعتنا في ما نعتقد ولا تقبل للآخر وتميزنا بما نحمل من ارث ما صح منه وما لم يصح. وضاعت بين الجمعين شعوبا ولا زالت.
في الختام، من الجدير القول بأن هذه الفجوة لا تقتصر على مجتمعاتنا العربية فحسب، لكنها أكثر سطوة وتأثيرا هنا لأسباب ليس هنا محل ذكرها. وأقول، ارجوا أن لا افهم سلبا، فالقصد هنا ليس تقييد الإنسان وفكره ومعتقده، بقدر أن يكون المرء منا واعيا مسئولا عن تلك الكلمة الراقية "حرية" ما نراه ويتناهى لمسامعنا من أجيالنا الصاعدة يوحي بأنها ستكون أجيالا مغيبة تحصر الحرية في سياق الجسد وما يظهر منه لنا ، بينما العقل والإدراك مرهونا سجينا لمن يتحكمون به عبر ما يبثون من سموم بوسائل مختلفة تدعو الأجيال الصاعدة للتطرف أيا كان شكله ومضمونه. أفيقوا قبل أن تتعطل عقولكم أكثر فتصبحوا أحرارا في وهمكم والحقيقة هي العكس التام.