نشر بتاريخ: 02/09/2019 ( آخر تحديث: 02/09/2019 الساعة: 10:18 )
الكاتب: صخر سالم المحاريق
الجدل عرف مذموماً وسيبقى، لأنه بلا نهاية حتمية، وبلا نتيجة مرجوة، ولا زالت العقول والتي تتبناه نهجاً للحديث تراوح مكانها، وإن أبت ومهما فعلت، وعلى الرغم من مضي مئات السنين على نهج وفلسفة "الجدل البيزنطي" في نظرية الخلق على سبيل المثال لا الحصر، في ما وجدَ أولاً "البيضة أم الدجاجة"، إلا أنه لا زال هنالك من "يتبزنطون" فكرياً في تحليلهم وفي إدراكهم حول الأشياء، وفيما يتبنون من فكر وأفكار ناتجة عن فهمٍ من زاوية واحدة ببعد واحد وبمنطق “One Man Show”، ولو كانت النتيجة هي (عنزة ولو طارت) بموروثنا الشعبي، ولست بصدد الحديث عن من يتبنون نهج الديك بدلاً من الدجاجة في الأصل.
تتعالى الأصوات والتي تنادي بأهمية التعليم الأكاديمي تارةً، كسبيل للتنمية المنشودة، وبأهمية التعليم المهني والتقني تارةً أخرى، كعلاج لفائض البطالة وظاهرتها، والتي طالت "سوق العمل الفلسطيني"، في اعتباره سبيلاً آخر للحد من إخفاقات التعليم الأكاديمي، وفوضى التوجه إليه والتي فاقت المستطاع استيعابه لعشرات السنين القادمة، وذلك في غفلة من الأطراف المنادية جميعاً في أن المشكلة الجوهرية؛ ليست في نوع التعليم بحد ذاته، بل في جملة من (اللاءات، والنعم) الغير مدروسة جيداً في عملية اتخاذ القرار الصائب أو الانحراف عنه، الفردية منها والجماعية وفي مختلف المستويات التعليمية، والتي أفضت إلى طريق مسدود نحن الآن ندق ناقوس الخطر فيه، حين نطرق أبواب التغيير البناء فيه، وسأضعك "عزيزي القارئ الكريم"، في جملة من التساؤلات والاستفسارات والمسلمات ذاتية التحليل، والتي من المستطاع استيعابها من كل عبر وعي ذاتي فقط في ما أتحدث عنه ومنها:
1. "العملية التعليمية" لا تصل إلى حدود الفائض في مخرجاتها، إلا إذا كان هنالك فوضى متأصلة في مدخلاتها وفي عملياتها أدت إلى ذلك، وهذه مسلمة حتمية بل حقيقة كما الشمس لا تغطى بغربال، لأن العلاقة الطردية وفرضها العلمي يقول: "كلما زادت العملية التعليمة نشاطاً وفعالية، كلما تقدمت عجلة التنمية الشاملة بشقيها (الاقتصادي والاجتماعي) إلى الأمام لا العكس، وازدياد الحاجة للخريجين.
2. "العملية التعليمة" هي بمثابة نشاطٍ ذهنيٍ سلوكيٍ اجتماعيٍ فطري، تستوعبه جميع الخلائق إنسانها وحيوانها، قبل أن يكونَ نشاطاً نظامياً يدرس، وواهم من ظن أن "المعرفة" بأنواعها وأشكالها هي فقط تكتسب من ثنايا الكتب، أو تمنح فقط في هيئة "شهادات علمية" مهما علت الدرجة أو دنت، إنما المعرفة هي: “معلومات مخزنة نسقطها نظرياً أو تطبيقياً، في هيئة معلومات وحقائق وسلوكيات، نتحرى الدقة في مصدرها، وهي قابلة للصواب والخطأ طالما لم تجرب أو تدقق”.
3. "العملية التعليمة" هي الأصل في حد ذاتها، بغض النظر عن طريقة اسقاطها، فإن كانت هذه الطريقة تفضي إلى معلومات في هيئة أفكار ووجهات نظر مكتسبة، فهي بذلك تكون مجرد (جانب نظري)، أو نظريات للتداول والتناقل اللغوي بغرض الفهم والتحليل والادراك، وإذا ما أُسْقطت في قالبٍ من الاختراعات والابتكارات والمهارات الملموسة والمحسوسة أو السلوكية، فهي بذلك تكتسب (الجانب التطبيقي)، وكلا الأمرين على توازٍ وتكاملٍ وانسجامٍ يقود للآخر لا تضاد فيه ولا تناقض.
4. أن نقول في أن "التعليم الأكاديمي" وصل لطريق مسدود مثلاً، والحل هو التوجه حالاً إلى التعليم المهني والتقني أو العكس، فهذا أمر منافٍ للمنطق وللحقيقية السابقة، فالعملية التعليمية إذا ما كانت منظمة أو في هيئة إطار ما، سواء كان ذلك في جامعة أو كلية أو مدرسة أو مركز أو شركة ..إلخ، فهي بذلك تسير بشقيها النظري والتطبيقي بشكل تلقائي وفي مختلف مراحلها وبالتوازي، وللمعلومة كلمة "أكاديمي" هي لقب لشخص يدعى (أكاديميوس) ليس أكثر، ولا علاقة لها بنمط التعليم وشكله إن كان تعليماً نظرياً أو حتى عملياً لأنهما الهدف نفسه والنتيجة المشتركة، شئنها شأن الماركسية واللينينية .. إلخ.
5. لنضع أنفسنا أمام هذا السيناريو "هب أن عمال فلسطين والذين يعملون في الداخل المحتل، أغلقت في وجوههم الأبواب"، كما الحالة السابقة بداية الاغلاقات في انتفاضة الأقصى، والحقيقية تقول أن عددهم يتجاوز 250 ألفاً ويزيد، وكلهم أصحاب حرف ومهن، هل سيستوعبهم السوق الفلسطيني المتخم بالبطالة أصلاً؟، ولنضع أنفسنا أمام هذا السيناريو مثلاً، إذا ما قلنا يجب علينا أن نهتم اليوم فقط في مسار التعليم المهني والتقني دون الالتفات لحجم السوق واستيعابه الفعلي ليكونَ فعالاً ومنتجاً.
6. يؤسفني أيضاً النظرة الدونية للتعليم المهني والتقني، في وسط جمهور عريض من المثقفين، وحملة الشهادات العليا، وإن كان الأمر ثقافة سائدة لدى عموم المجتمع أيضاً، وكأن التعليم الجامعي أو الأكاديمي لا يقود في نهايته إلى "مهنة"، وأقول لهذه الطبقة من المثقفين كلنا أصحاب مهن، والتعليم المهني والتقني لا يقف عند حدود دنيا، ودون مستوى النظر كما تعتقدون، ولو كان كذلك لما نهضت ألمانيا في عشرين عاماً، كأكبر مصدر صناعي في العالم إلا يومنا هذا، وهو يسير على حد سواء في مراحل العمل والتطور المهني والوظيفي للفرد جنباً إلا جنب مع التعليم الجامعي، بل ويتعداه لأنه "عملية مستمرة" لا نهاية لها، وتتم في جميع المراحل العمرية وفي حياة الموظف أو العامل وفي جميع المستويات، فالفائض الكبير والذي نحن فيه من الخريجين الجامعيين اليوم، هو جزء لا يتجزأ من تلك النظرة الدونية، والغير واعية بالمفهوم الحقيقي لهذا النوع من (التعليم المستمر والمجتمعي) والتي نحن سبب من أسبابها كأكاديميين.
7. السباق الغير الواعي لنيل الدرجات العلمية دون هدف سامٍ وفعالية حقيقية، ما هو إلا "ماراثون خاسر"، يقود إلا مقدرات وقدرات بلا ناتج فعلي وحقيقي، لذا يجب أن يكون سباقنا العلمي نحو تنمية ذواتنا أولاً وأخيراً، ونحو البناء المجتمعي لا مجرد ألقاب ومسميات تسبق أسمائنا على مواقع التواصل الاجتماعي، فالتعليم والذي لا يبنى على شغف، وحب، واهتمام، وهواية، من صاحبه وهدف سيؤول إلا البطالة لا محالة، وسيقع به في مصاف أحد أشكالها سواء كانت بطالة مقنعة أو احتكاكية أو هيكلية أو غيرها، والتي نغرق في موجها اليوم ولا نستطيع فيها العوم.
وخلاصة القول إن سوق العمل الفلسطيني محدود بمقدراته وبإمكانياته، وفي ظرفيته الزمانية والمكانية في حالة من عدم الاستقلال وبالتالي الاستقرار، وكلنا يعلم أن عجلة التعليم الحق ترتبط بثالوث يقود في نهايته إلى التنمية المستدامة، والتي ترعى حق الاجيال القادمة، عبر استمرارية عجلتها المتحركة والولادة لكل ما هو جديد، فالاستثمار المادي والمعنوي، وتوكيد الجودة ومعايرها، والتشاركية، هي ذلك الثالوث والذي أتحدث عنه، ولا بد من التركيز عليه في جميع المستويات، فمؤسسات التعليم الحق أياً كان نوعها ومستواها، هي من تركز وتنتهج رؤىً سليمة، وهي من تواظب على "التطور النوعي" وتركز عليه وعلى جودته، دون الالتفات للكميات والأعداد الملتحقة، فالجودة تكمنُ في الآلية، والطريقة، والعملية، ونوع المدخل لتصل لمخرجات فضلى، وليست بالكميات في غفلة عن ذلك كله، كما ويجب علينا النظر في أن "التعليم نعم هو حق للجميع"، ولكن ليس بنفس المستوى والنتيجة والدرجة بل بنوع القدرات والكفيات الداخلة والخارجة من العملية برمتها، وليس من الضروري أن يكون كل أبناء شعبنا (أطباء أو مهندسين أو قضاة أو محامين أو أساتذة جامعات ومدارس أو حملة شهادات عليا لا فعالية لها ... إلخ)، بل يجب أن نركز على (الهواية، والاهتمام، وصناعة، المعايير، وتبني الفكر الاستثماري، التشاركي والمجتمعي)، لذا يجب أن نبني بحد كل جامعةٍ مصنع، وفي حد كل مدرسةٍ مركزاً للتدريب والترفيه، وفي حد كل سجن مركزاً للتأهيل، وفي حد كل وزارة شركة تابعة لها عامة أو خاصة، فالحذاء والحجر والعنب الخليلي رمزاً للتراث الوطني والذي اندثر، وكذلك الصابون والمنسوجات النابلسية، والتحف التلحمية الزاخرة، والباذنجان البتيري، والمزروعات الريحاوية، أليست هي من تشغل المهندس، والطبيب، والصنايعي، وغيرهم ولو كانوا بالآلاف، التساؤل الذي يجب أن يطرح على مسامعكم هو: أين محفزات الاستثمار المادي والمعنوي؟ أين دور المؤسسات الحقيقي وجودتها وفعاليتها العامة والخاصة؟ ألسنا دولة مؤسسات ونبني الوطن بذلك؟ وفي ذلك نماذج تستحق الاشادة بها والشكر، وأختم قولي أننا شعبُ جبارين شاء من شاء وأبى من أبى، كما قائل رمزنا الخالد ياسر عرفات، وسنبقى ما بقي التين والزيتون، فدعكم وما تقولون من جدليةٍ اليوم، في من هو الأهم وكلاهما مهم ومن رحم الآخر إن كان بيضة أو دجاجة.
أكاديمي مختص في التنمية المستدامة وريادة الأعمال.