الثلاثاء: 19/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

"بغداد وقد انتصف الليل فيها" للروائية التونسية لحياة الرايس

نشر بتاريخ: 01/10/2019 ( آخر تحديث: 01/10/2019 الساعة: 17:54 )

الكاتب: تحسين يقين

"بغداد وقد انتصف الليل فيها" للروائية التونسية لحياة الرايس: سيرة الكاتبة ولكن مرآتنا التي نرى فيها أنفسنا
- سيرة؟
- ومرآة!
فيها: بغداد، وغيرها من المدن والعواصم العربية..
للكاتبة، التي كانت طالبة هناك في زمن مضى، ولطلبة وأفراد آخرين، عاشوا قسطا من حياتهم خارج بلادهم، ثم عادوا، ولكن في نفوسهم حنين كبير باق، وفي أذهانهم تأملات الإنسان بين الأمكنة والأزمنة.
تعيدنا الكاتبة حياة الرايس إلى عواصم ومدن أخرى، فلكل مدينته التي كانت جزءا من تكوينه الفكري والثقافي والانساني، وهي أيضا، وهذه عبقريتها، تعيدنا إلى محاولة أخرى لإعادة اكتشاف أنفسنا، وهذا هدف هذه السردية الذاتية والموضوعية، في إحداث أثر فعلها السردي علينا، خصوصا لمن مرّ بتجربة مماثلة. لذلك، وددنا لو طالت قراءتنا؛ إذ أننا ما برحنا نقرأ أنفسنا أيضا.
"بغداد وقد انتصف الليل فيها" لحياة الرايس؛ عنوان مثير، بدءا ببغداد بكل ما توحيه وتثيره تاريخيا وحضاريا وأدبيا قديما وحديثا، ورمزية انتصاف الليل فيها، الذي لا يقتصر على ليلة واحدة، تلك الليلة التي وصلت فيها العراق هي ومجموعة طلبة في بعثة طلابية رسمية للدراسة ببغداد.
ولعل قراءة الذاتي هنا، تحيلنا لقراءة الموضوعي والعام معا، فثمة خيط ما بين الخلاصين الذاتي والوطني-القومي والإنساني.
وفي ظل ذلك، في ظل هذا الصراع الذاتي والاجتماعي، وفي ظل صراع السلام والحرب (الحرب العراقية-الإيرانية تحديدا)، تكتسب "بغداد وقد انتصف الليل فيها"، سيرة للذات والجماعة والأماكن.
ورغم ما يثيره العنوان من توقع مكان السيرة الروائية، في بغداد كمكان، وبغداد كزمان، منذ السبعينات وأوائل الثمانينات، فقد استعادت الكاتبة أمكنة وأزمنة أخرى هناك في بلد المنشأ، قبل الرحلة، حينما راحت بذكاء أدبي وإنساني تستدعي تونس..
المدخل النقدي المناسب هنا، هو ذلك التزاوج ما بين الذاتية الشخصية والموضوعية العامة؛ فكوننا إزاء رواية السيرة الذاتية، أو جزء منها، على شكل مذكرات تم بناؤها بشكل سردي جميل، فإننا إزاء حالة حنين من جهة، وحالة التزام ما، تجاه البلد التي احتضنتها :فتاة قادمة من تونس، في ظل وجود تونس هنا على قدم وساق مع بغداد.
من المهم الانتباه لما قدّمته أو أخّرته الكاتبة في وصف وتحليل حياتها وأسرتها ومحيطها التونسي، في سياق وصف حياتها في العراق الذي لم يخل من تحليل أيضا؛ بمعنى أن حالة الانتقال الفيزيقي من تونس لبغداد، ساهمت رومانسيا وواقعيا بل وفكريا، في استدعاء الماضي، والذي هو ماضي فتاة تحت سن ال18 عاما.
واللافت للنظر جدا هنا، هي حالة التصوير غير المتكلفة للحياة الاجتماعية في تونس، في ظل حداثة عهد ما بعد الاستقلال، والنزعة العلمانية، وقراءة الحياة الاجتماعية في العراق، في حكم حزب البعث الاشتراكي والعلماني، والعمق الحضاري للعراق القديم والحديث حيث يصل القارئ لمفارقة، ذلك أن حالة النظم الفكرية-السياسية هنا ترفع من سقف توقعات القارئ، والمراقب للحياة الاجتماعية، بحيث يتوقع انفتاحا في العلاقات الانسانية، لكن ما حدث هو بقاء الحالة الاجتماعية المحافظة، خصوصا في وضع المرأة.
فما الذي حدث؟ لربما ان النظم الحداثوية كانت شكلانيا، لذلك مالت إلى حالة المحافظة كونها تخدم حالة بقاء النظم، وهذا له دلالة مهمة عند تحليل التحولات الثقافية والسياسية في بلادنا، في ظل اختلاف النظم السياسية ومنطلقاتها الفكرية، كما هي حالة تونس والعراق، أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات. وكون الكاتبة حياة الرايس قد أوصلتنا الى هذه النتيجة، فمعنى ذلك هو التأكيد على دور الرواية الصادقة في السرد في تصوير مجتمعاتنا بأمانة. لقد نجحت الكاتبة في ايصالنا لهذه الافكار دون ثرثرة قد نختلف عليها. وهذا ينسحب بشكل متفاوت بين الأقطار العربية في المشرق والمغرب العربيين.
لقد صورت، من خلال استدعاء الماضي في تونس، حالة الأسرة والاب بشكل خاص في تونس، وحالة الصراع-الجدل ما بين الحداثة في حي معين ، والمحافظة في حيّ آخر، موحية بمدى تأثرها بجمالية العمران والمعمار التاريخي المحلي، وميلها للحداثة بالوجود الفرنسي في آن واحد.
من ناحية أخرى، وتاريخيا، رصدت تحولات الحياة البغدادية في ظل نظام حزب البعث، وما ارتبط به من أمن سياسي، ووجود طلبة آمنوا بالفكر القومي، وكيف صار محركهم حتى في ظل اتصالهم بالطالبات، بهدف التبشير والاستقطاب السياسي. وقد كانت الكاتبة صريحة في كل ذلك على عكس كتاب السيرة، فضمنت كتابها الأسماء الحقيقية، كشهادة موثقة، بل نحت منحى صريحا في ذكر بعض العلاقات العاطفية والى ما أفضت إليه.
الذاتي النفسي، في الدائرة الاجتماعية، في المجتمع الطلابي في بغداد ونظرة الجامعيات لأنفسهن وبلدانهن، والجامعة والصراعات بل والتقييدات على الحرية، في ظل عامل الحرب العراقية الإيرانية، منحت السيرة-الروائية (أفضل رواية السيرة)، ولعل ذلك الفصل كان الأكثر تعبيرا عن هول الحرب وآثارها، ( فصل عراق الحب و الحرب )وفي الوقت نفسه سردت الكاتبة بذكاء تلك الحالة الملتبسة بين الحرب وما يقتضيه حالها، وبين الهدوء الذي كان يفصل بين ضرب النار.
بناء النص كان مدهشا، ففي ظل انتظارها بدء العام الدراسي، وكونها كانت وحيدة في سكن الطالبات، فقد راح خيالها يذهب لماضيها في تونس، فقدمت لنا لوحات اجتماعية جميلة، تم استحضارها بدوافع حنين، ثم نجدها تنتقل لمجتمع الطالبات الوافدات والعراقيات، فجو الطلبة بشكل عام، فالمجتمع لكن بشكل محدود. ولعل تصوير جو الطلبة الوافدين منح النص تعددية وتنوعا محبّبا، كما في اللهجات والطبع.
ثم نجدها تزاوج ما بين الحاضر، والماضي التونسي، بل والمستقبل، حين تخرج من (أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات) وصولا الى التسعينيات وما بعد، وصولا للعودة لتونس والعمل، ثم الانتقال الى باريس، الذي ستفرد له الكاتبة كتابا خاصا. كما تعرج على عملها في الصحافة وما فيها من علاقات، موحية بالنقد الاجتماعي والثقافي ونقد المثقفين.
اللغة! كم كانت مدهشة، بعادية وجمالية في آن واحد، حملت تلك المضامين الإنسانية وطنيا وقوميا وشخصيا، حيث كانت رافعة رائعة لتعبيرات الكاتبة وصفا وتحليلا وبوحا ونقدا.
ولعل لغة الكاتبة التونسية تأتي في سياق تميز خاص لدى الكتاب والكاتبات في تونس الشقيقة بشكل خاص. تلك ظاهرة تستحق التحليل.
وأخيرا، كان للسيرة الذاتية من المصداقية والحبكة الروائية لكاتبة قد خبرت كثيرا من الاجناس الأدبية في الكتابة السردية والشعرية دورا اساسيا في ربط الأحداث وتسلسلها والتشويق، فكان التداخل بين الرواية والسيرة الذاتية وادب الرحلة أيضا دورا في إضفاء الحيوية على النص، الذي تتمنى ان لا تفارقه ... فليس هناك تفضيل لهذا الشكل أو ذاك، فالذي يجمعهم الابداع والجمال والمضمون الانساني.
ترى لم استعادت الآن حياة الرايس تلك الأيام؟
هل هي النوستالوجيا او شيء من التضامن القومي والانساني؟
أم إعادة اكتشاف الذات والجماعة والمجتمع؟
تقول الروائية حياة الرايس في بعض حواراتها :
"" استعدت بغداد في هذا الوقت بالذات لأهربها من براثن الغزاة واللصوص الذين فتكوا بها ... وأخلدها في اذهاننا وذاكرتنا ووجداننا وبأعيننا وأحرفنا وكتبنا بغداد الايام الجميلة التي لا تنسى والعمق الحضاري الذي لا يمحّى، ولأرد بعض الوفاء للمدينة التي درّستني وعلمتني وكونتني وبصمت حياتي وصارت جزء من تاريخي "
وبالمناسبة فإن الكاتبة حياة الرايس هي أول طالبة تونسية تتخرج من قسم الفلسفة ببغداد.
المهم في ذلك كله هو ما دفعتنا الروائية التونسية إلى اكتشافه من عمق شعور ووعي، ذاتيا موضوعيا لأنفسنا ومجتمعنا العربي وليس فقط تونس والعراق، من خلال جمالية الشكل واللغة، ونحن نعيد قراءة الذات والمجموع والتاريخ القريب..
"بغداد وقد انتصف الليل فيها" للتونسية حياة الرايس، سيرة الكاتبة ولكن مرآتنا التي نرى فيها أنفسنا.
صدرت عن دار ميارة 2018
*ناقد-القدس