نشر بتاريخ: 23/10/2019 ( آخر تحديث: 23/10/2019 الساعة: 21:26 )
الكاتب: المتوكل طه
عن "الحيرِم" اليهودي، الارتكاس، ولهجة الإرهاب
قبل نكسة 1967 ببضع سنوات ، أدرك الغرب الاستعماري أنّ مصر استطاعت أن تنتج صواريخ نوعيّة (يصل مداها إلى 1500 كم) وأصبحت قوّة صاعدة ستقلب غير معادلة إقليمية وتهدد مصالح الامبرياليات المتشابكة ! الأمر الذي دفع الغرب لتوريط مصر في حرب اليمن واستنزافها مالياً وعسكرياً ، إذ كانت مصر تخسر يوميا اثنين مليون جنيه تكلفة وجودها هناك ! وعندما تأكّد لإسرائيل وحلفائها أن نصف الجيش المصري في اليمن وتمّ استهلاكها مالياً .. شنّت حربها المُباغتة على مصر وباقي الدول العربية .. وكانت هزيمة حزيران . لكن الشعب المصري الذي خرج في تظاهرات يرفض من خلالها الهزيمة ، دفعت الرئيس عبدالناصر لاستدراك الحالة ، فَهيّأ الجيشَ المصري لخوض حرب استنزافية ضد الاحتلال الجديد ، الذي أتى على سيناء والأراضي الفلسطينية والجولان السوري .
وقد استطاع فيلم "الممرّ" الذي يتناول مقطعاً من هذه الحرب أن يستدعي الروحَ الشجاعة العربية، القادرة على اجتراح معجزة التجاوز، وتحقيق العبقرية القتالية الباسلة لرجال القوات المسلّحة وقوات الصاعقة المصرية بشكل خاص، إلى درجةٍ يتماهى معها المتلقّي للفيلم ويتّحد مع تلك المجموعة الفدائية، التي أثبتت أن دولة الاحتلال الإسرائيلي تصلحُ للهزيمة، مثلما أيقظت فينا ينابيع تلك الكلمات التي لم تفقد جدواها ومعناها، بدءاً من وحدة الأُمّة العربية الفعلية برغم الحدود المصطنعة، ووحدة المصير والقضايا المشتركة والأحلام، والانحياز لقيم الحقّ والعدالة والكرامة والحرية، في مواجهة الاحتلال والقتل والعنصرية والبشاعة وكل المفردات السوداء، التي وجدت متنفّساً غير شرعي لها في العقود الأخيرة، أظهرت وكأن أُمّتنا وقواها الحيّة قد ران عليها الموت والغبار والتكلّس، وأصبحت مُستَلبةً لقوى الظُلم والنهب والإجرام. بمعنى أنّ القيمة الكبرى التي حملها هذا الفيلم هي أن الروح العربية، وفي مصر خاصة، ما زالت تتمترس في خندقها الأوّل المدافع عن الحقوق، والرافضة لأي احتلال غاصب، وأن لحمة الشعب المصري، باعتباره ذخر العرب وعمودهم الفقري، ما زالت تربأ بنفسها الذلّ والصَّغار والإخضاع، وأنها تنتصر لتاريخها ومجدها وكرامتها وتطلعاتها وحقوقها المشروعة، وبهذا فإن هذا الفيلم هو صيحة مدويّة جسورة ترفض التطبيع والاستكانة والهوان، وتعيد للشارع العربي كلَّ المقولات الناصعة التي تُرجع الصراع مع الاحتلال إلى جذره الأول، وترفضه وتتصدّى له، بل وتنسفه من أساسه.
إن مصر التي أنتجت هذا الفيلم، تُلحف على أنها ما زالت في مكانها الاستراتيجي المواجِه، وأن كل "الاتفاقيات" لا تعني نسيان ما اقترفه القتلة المُحتلّون بحق أرضنا ورجالنا وأسْرانا، وإن الصراع سيظلّ قائماً ما دام هذا الاحتلال سادراً في ممارساته الاحتلالية وإجراءاته الفاشية وسياساته المعارضة لنداءات السلام الحقيقي والعادل الذي يُعيد الحقوق لأصحابها.
ويُحسب لهذا الفيلم أنه يؤكد أهمية التحديق في أسباب الهزيمة والاعتراف بها حتى نستطيع تجاوزها، وعدم الوقوع في وحْلها ثانيةً، بعيداً عن الشعاراتية والديماغوجية والإجهاش بالخطابات الفاقعة الفارغة، كما يُثبت الفيلم حقيقةً حاسمة، وهي أن الشعوب الحيّة لا تموت، وقد تُصاب بغير انتكاسة وهزيمة، لكنها تستطيع، ثانيةً، أن تعود إلى لياقتها وتشحذ قدراتها وتفجرّ طاقاتها وتسترجع كل أسباب التخطّي والنفاذ والخلاص والنصر، إذا أحسنت ترتيب أُمورها وتخلّصت من كل المعيقات والبيروقراطيات والمصالح الفاسدة.
ويشير الفيلم بوضوح إلى أن المجتمع الإنساني وحدة واحدة، أي لا يمكن أن ينتصر عسكرياً إذا كان مهزوماً من الناحية الاجتماعية، ولا يمكن أن يكون متقدّماً اقتصادياً وهو متخلّف ثقافياً.. بمعني أن الجدليّة التي تحكم مكوّنات المجتمع تتطلّب أن نعمل في كل الجبهات، ونحصّن كل البناءات، ونُعلي من مناعة كل الأعمدة التي ينهض عليها المجتمع، حتى لا نتنافى مع جدلية نضالنا لإقامة مجتمعٍ قويٍّ معافى.
وثمة معنى جليل كرّسه الفيلم، وهو أن قيمة أيّ فرد في المجتمع تنبع من الدور الإيجابي الذي ينخرط به مع الجماعة الصاعدة نحو إنجاز فعلٍ كبيرٍ وأساسيّ، الأمر الذي يكسبه احترام نفسه واحترام المحيطين به. بلغةٍ أُخرى، إن قيمتك الاجتماعية تتأتّى مما تقوم به للصالح العام.
ويبدو لي أنّ فيلم "الممرّ"، وبما قدّمة من تكاملٍ وفنيّةٍ ومضامين ساطعة، يدفعنا للقول إن مصر تستطيع أن تُواصل، بألقٍ ونضوج وعمق، صناعة السينما والدراما بهذا المستوى الرفيع، ما يثير الدهشة عندما نرى أعداداً هائلة من الأفلام التجارية الهابطة، التي تسيء، مضموناً وإبداعاً، لصورة مصر والعرب، وتفتّ في اقتصادها ومداركها. بلغةٍ أُخرى، إذا كان باستطاعة مصر أن تنتج أفلاماً هكذا "مثل الممرّ"، فلماذا لا تكون مسطرة إنتاجها الفني مشابهةً ومماثلةً لهذا الإبداع العالي والأنيق والمنتمي المسؤول؟
إن فيلم "الممرّ" قد أرجعني إلى تلك الأجواء التي تستمطر دموع انتمائنا ووحدتنا وبطولتنا الكامنة، وتقدّم نماذج خالصةً لأجيالنا الطالعة، وتُحمّلنا نحو سماء المجد الذي افتقدناه منذ عقود.
غير أنني وأنا أمسح دموعي الساخنة المنفعلة المتفاعلة مع الفيلم، لحظةً بلحظة، استرعى انتباهي أنّ ضابط الاحتلال كان يتحدّث بلهجةٍ مُغايرة، وهذا طبيعي، لتمييزه عن باقي الأبطال! لكنّ لهجة الضابط الإسرائيلي كانت لهجة فلسطينية! فلماذا؟
أعتقد أنّ مخرج الفيلم أراد أن يقول: إن كلّ مَنْ هبط وجاء، غازياً أو مُسالماً، إلى أرض فلسطين، فإنّ فلسطين ستهضمه، وستفرض عليه لغتها.. ومن هنا أصبح ذلك الضابط مُجبراً لأن يتحدّث اللهجة الفلسطينية التي انسربَت إليه رغماً عنه، لقوّتها وحضورها.
ولا يطيب لي أن أميل إلى النظرة السلبية أو الفَهْم المكارثي الذي أشار إلى أن لهجة الضابط الإسرائيلي، الفلسطينية، أساءت للفلسطينيين، فلماذا لم يتحدّث بعربيةٍ مُكسّرةٍ بعيدةٍ عن كل اللهجات العربية المصرية والفلسطينية؟ فهل لغة الإرهاب والقتل فلسطينية؟ يتساءل البعض!
وأقول إن ضباط جيش الاحتلال، في الواقع، يتحدّثون العبرية، وإذا تحدّثوا العربية، فإن كلاً منهم يتحدّث بلهجة أجداده، فإن كان من أصلٍ مغاربيٍّ فإنه يتحدث بلهجة مغاربية، وإن كان من أُصولٍ عراقيّة.. يتحدث بالعراقيّ.. وهكذا. وربما تجد الكثير من ضباط الاحتلال يتحدّثون لأسبابٍ أمنيّة، اللهجةَ الفلسطينية، وهي لهجات لا حصر لها، ولهذا فإنهم لا يُتقنون أيّاً من اللهجات، لأنهم دخيلون عليها وغريبون عنها.
أما "المبالغة" التي يعيبُها البعض على الفيلم، فإنها لصالحه! لأن الفن أصلاً مبالغة، في أهمّ تجلّياته، وهي مبالغة للقوّة الجوّانية البطولية المصرية، وليست مبالغةً في تعظيم الواقع أو تنظيفه أو تحريفه، برغم استدعاء الشكل التقليدي لأبطال (الأكشن) في هوليوود أحياناً، من "رامبو" إلى غيره.
وربما نلحظ غير خطأ موضوعي في بعض ما قدّمه الفيلم، من خلال هذه الشخصية أو تلك، خاصةً شخصية الضابط الإسرائيلي، التي لم تكن هيئته ولغته الجسدية وملامحه وشكل شَعره.. مطابقةً تماماً لنموذج الواقع، بصرف النظر عن التفاوت في قدرة الممثّلين الذين كان معظمهم مُقنعاً ومتمكّناً بصورةٍ مشرقة، خاصةً أحمد عزّ وأحمد رزق وفلوكس ومحمد فرّاج وجمعة والشرنوبي ورجائي وصلاح وأمير وضيوف الشرف.
ونشير إلى أنّ "الصلاة" التي قام بها الضابط الاسرائيلي، وهو يضع شال طقس العبادة، لم تكن لقطةً عابرةً بقدر ما تُدلل على عمق فكرة "الحيرِم" في الوعي الديني اليهودي.
والحيرم بمعناه البسيط والمباشر هو السعي للتقرّب إلى الرّبّ، وبالقدْر الذي تستبيح فيه "الغوييم" الأغيار، غير اليهود، بقدر ما تصل إلى رضا الرّب. وتكون الاستباحة بكل الطرائق الغوليّة الفاشية الممكنة، مثل: حرق البيوت والمزروعات وبَقْر البطون وقتل الأطفال والعاجزين واستحياء الأعراض وتسميم الآبار وقلع الأشجار.. إلخ، ما جعل "القاتل" اليهودي يستند إلى مرافعةٍ وذرائع دينية تدفعه إلى هذا السلوك الإجرامي وتُبرّره، وهو ما يُفسّر قيام الضابط الإسرائيلي بإطلاق النار بسهولةٍ على الأسرى المصريين العُزّل، بدمٍ باردٍ وبلا أيّ انفعال!
إن حرب الاستنزاف التي هيّأت لعبور قناة السويس وانتصار أُكتوبر المجيد، تستحق أن يُؤصّلها العديد من الأعمال الدرامية المعمّقة، التي لا تذهب لتحقيق "الارتكاس"، أي استرجاع البطولات في زمنٍ لا بطولة فيه. والارتكاس واحدٌ من آليات تعويض النقص الفرويدي، أي تعبئة الخواء الحالي بأحداثٍ سابقة. وإني أعتقد جازماً أن الدولة المصرية العميقة ما فتئت قادرة على صيانة مصر والمحافظة على مصالحها القومية، وأنَّ يقظَتَها عالية وتدعو إلى الاطمئنان.
ويجب أن يكون هدف الفيلم بعث تلك الروح الجّبارة المخُتزَنة في مصر العزيزة وإنهاضها، وإحياء كل الكوابح التي تتصدّى للتعاطي والتعايش المجانيّ مع الاحتلال والتطبيع المشبوه معه. لهذا، فإن الأعمال الفنية "الزيبق" و"الخليّة" و"العميل 1001" و"الصفعة"، ومن قبلها "الطريق إلى إيلات" و"الرصاصة لا تزال في جيبي" و"ناصر56" و"مهمة في تل أبيب" و"فتاة من إسرائيل" و"الصعود إلى الهاوية" و"الكافير" و"إعدام ميت" و"بئر الخيانة" و"الوفاء العظيم" و"رافت الهجّان" كعملٍ مؤَسِّس.. هي أعمالٌ واجبة الوجود، تتغيّا تثبيت الأرض الراسخة القادرة على حملنا وتكريسها لمواصلة مشوار التحرر والاستقلال ونيل الحقوق.
إن فيلم "الممرّ" بحكايته الحاسمة والواقعية يُشكّل ردّاً على عددٍ من الأعمال الإبداعية وتصريحات روائيين وفنانين عرب ظهرت مؤخراً، سعت إلى ترويج إسرائيل وتطبيعها مع المحيط العربي، وبشكلٍ فجٍّ وناتئٍ ومشبوه.
وإن بعضاً آخر من الأعمال الفنيّة قد أساءت من حيث أرادت الحُسنى، إمّا لطريقة تناولها المغلوطة أو لسذاجة طرحها أو لاعترافها المُسبق بالعدوّ، وإن حاولت العكس، مثل فيلم "أولاد العمّ" ومسلسل "حارة اليهود"، فقد قيل إن نفي الأمر هو أحد أشكال تصوّره والاعتراف به.
لكن هذه الحمولة المعنوية الطافحة بالصدق والعاطفة المطهمة الساخنة التي قدّمها "الممرّ" تؤسّس لوعيٍ جمْعيٍّ يستطيع أن يردّ اليأس والقنوط على أعقابهما، ويسترجع الأزمنة البديعة الموّارة بالأمل الممكن.
وتحية كبيرة للعبقري شريف عرفة ولأمير طعيمة وعمر خيرت وأبو المكارم.. وكل الاحترام للبدلة الكاكي المُمَوَّهة التي ما زالت تُخيف القَتَلَة.