|
دير بالك يا سموطرش
نشر بتاريخ: 20/02/2020 ( آخر تحديث: 20/02/2020 الساعة: 19:25 )
الكاتب: د. أحمد رفيق عوض
يتورط سموطرش كثيراً وكثيراً جداً عندما ينفي الشعب الفلسطيني وينفي حقه في إقامة دولته. فهو بهذا يتقمص دور من يدعي أنهم ألقوه ونفوه وعذبوه آلاف السنين.
وإذا كان يدعي أن سنوات النفي قد أثمرت عن دولة ولدت في ظروف بالغة التعقيد والغموض، وفي لحظات تغير العالم، فإن حلم الشعب الفلسطيني بدولة له مشروعية كبيرة، إذ أن هناك تجربة ناجحة قبلاً. أكثر من ذلك. يتورط سموطرش أيضا عندما ينفي الشعب الفلسطيني وينفي وجوده، لأن الهويات العرقية والاثنية تلد عادة عندما يتم تحريضها أو محاصرتها او تمييزها، وما يقوم به سموطرش هو بالضبط ما يحدد ويبرز الهوية الفلسطينية. ولم ولن يتوقف الامر على ما تبجح به سموطرش، ذلك أن المشروع الصهيوني الذي ربط نفسه بمشروع أكبر منه، وعلى أكثر من مئة عام أن يجعل من الهوية الفلسطينية هوية واضحة ومحددة. فالهويات الجمعية وحتى الفردية انما تكون بفعل الاختلاف والصراعات، وهذا احدى استخلاصات التاريخ، ويبدو أن سموطرش لا يقرأ ولا يفهم إذا قرأ، رغم ما يشاع عن ذكائه، ورغم ملامح وجهه الحادة التي توحي بذلك. فلو قرأ تاريخ الجماعات اليهودية -كما قرأنها- لأدرك ان النصوص -المقدسة وغير المقدسة- تستطيع أن تخلق الجماعات والهويات، أدعي أنا شخصياً أنني ألفت كتاباً كبيراً حول هذه المسألة، وكان أطروحتي للدكتوراه ونشر تحت عنوان "دعامة عرش الرب" فكرة داخل نصوص أخرى، وقد كانت هذه النصوص من القوة بحيث جعلت من جماعات اليهود المختلفة والمتعددة عرقياً وثقافياً وزمانياً ومكانياً جماعات اثنية قادرة على البقاء ضمن أجواء معادية في معظم الأحيان. النصوص التي جمعت حولها جماعات اليهود في العالم، والعلاقات المرتبكة والمعقدة التي تم نسجها بين تلك الجماعات والبيئة المحيطة، خلق تجارب متعددة ومختلفة عاشتها تلك الجماعات، ولهذا ليس هناك تاريخ موحد للجماعات اليهودية، وليس هناك من ذاكرة واحدة، ولهذا ما تزال إسرائيل الحالية تدفع ثمن هذا التناقض وعدم الانسجام. وأعتقد -كما يعتقد كثيرون غيري- أن إسرائيل الدولة لم تستطع حتى الآن تقديم صيغة موحدة تجمع بين أجزاء هذا التاريخ وشظايا تلك الذاكرة الموزعة ما بين جبال اليمن وسهول بولندا. لماذا أقول ذلك؟؟ أقوله حتى أقارن ما بين تاريخ محتلي وما بين تاريخ شعبي، إذ أن الشعب الفلسطيني الذي سكن ومازال أرض فلسطين -وأقصد بها الأرض الواقعة غرب نهر الأردن وحتى المتوسط- هم أبناء منطقة عربية منذ آلاف السنين، لم تكن هناك حدود ثنائية أو سياسية تمنع تنقلاتهم أو تجاربهم أو لهجاتهم أو طعامهم أو طريقة أعراسهم. نحن أبناء منطقة واحدة من العراق حتى المغرب، متشابهون، أهل لسان واحد ومرجعيات متقاربة، حتى قبائل اليهود العربية، كانوا عرباً يدينون باليهودية كما أن هناك قبائل عربية كبيرة كانت تدين بالمسيحية. حتى التوراة هي كتاب رعاة ومزارعين، وقد يدهش القارئ عندما يقرأ التوراة، أن ما يذكر فيها من العلاقات الاجتماعية ما تزال في أرض فلسطين وما جاورها. يعني حتى التوراة هي إحدى نتاجات المنطقة العربية الثقافية. التوراة ليست أوروبية، وسموطرش يخطئ ويتورط كثيراً عندما يستعيد لغة عنصرية لا تعرفها منطقتنا ولا شعوبنا. فكرة الشعب والأرض بالمعنى العضوي هي فكرة ألمانية غربية بالأساس قادت إلى ميلاد النازية والفاشية، نحن أبناء منطقة لا تعترف ولم تعترف بالحدود أصلاً. نحن نعرف أنفسنا بالملة، نحن نعترف بالأخوة الانسانية والدينية، ولهذا، فإن جماعات اليهود عاشت بين ظهرانينا معززة ومكرمة، في الوقت الذي كان فيه الحاخام الأكبر في مدن أوروبية معينة يجبر على ممارسات مهنية كل عام. في فلسطين بالذات، وعلى عكس ما يقول سموطرش، فإن الفلسطينيين -كشعب وثقافة- كانوا متواجدين في هذه الأرض منذ آلاف السنين، كانت هذه الأرض عامرة بأهلها وناسها، إلى درجة ان كل ملوك وأباطرة الأرض جاؤوا إلى هذه البلاد وبنوا فيها قصوراً ومعابد. منذ ازمنة سحيقة لا يعرف ما هيتها إلا الله، كان هناك إنسان ما عبد الله وبنى بيتاً وأقام أسرة، بإلهام رباني لأن الله بارك في هذه الأرض وعليها وحولها، وقد باركها للعالمين، أي للفلسطيني والعربي والمسلم والمسيحي واليهودي وكل الناس. الله بارك في هذه الأرض للعالمين، هكذا يقول القرآن. ليس هناك أجمل ولا أروع من هذا المفهوم الكبير والشامل والإنساني والديني. ولأن ذلك كذلك، فلم يجد صلاح الدين حرجاً في أن يسمح للرمبام موسى بن ميمون بالسكن في القدس كأحد رعايا دولة صلاح الدين، بالمناسبة، لم يشعر صلاح الدين بالحرج أو الخوف عندما قبل أن يكون موسى بن ميمون طبيبه الخاص. وهذا يدل يا سموطرش على أن شعوبنا، أن شعوب هذه المنطقة اعتبرت جماعات اليهود جزءاً من النسيج الاجتماعي، ولهذا كان من هؤلاء الوزراء والشعراء والتجار والمهنيين ولم يضطروا إلى اخفاء يهوديتهم أو التحايل عليها أو التبرؤ منها. وكل هذا الكلام معروف، ولا جديد فيه، ولكن الجديد الذي نقوله أن قولك بعدم وجود الفلسطينيين وبالتالي عدم وجود دولتهم إنما هو تعبير عن صهيونية متدينة تلغي وتنفي ليس فقط الشعب الفلسطيني وإنما تلغي الواقع أيضاً. وهنا المشكلة يا سموطرش، عندما يبدأ المحتل بعدم قراءة الواقع وعدم التواصل السليم مع العالم، فإنه يبدأ بالانهيار. كل العنصريين -في لحظة معينة- يبدؤون بفقد القدرة على المرونة والتفهم وقراءة التفاصيل. ويبدو أنك دخلت هذه المرحلة. فالشعب الفلسطيني شعب لا يتجزأ من الشعب العربي الذي عمر هذه الأرض منذ آلاف السنين، يتشابه في ثقافته وأطعمته وألوانه وأشكال فرحه وحزنه، يمتلك حكايات متشابهة، وله من تاريخ الآلام والجروح ما يجعل منه سبيكة ثقافية عصية على الكسر. الشعب الفلسطيني يحمل قصة يجتمع حولها الآلاف هي قصة نكبته وتشريده ومطاردته من قبل الحركة الصهيونية. كل فلسطيني يا سموطرش -في كل مكان من العالم- له قصة شخصية مع الحركة الصهيونية. الشعب الفلسطيني -حيثما تواجد- لديه حبكة واحدة، قصيدة واحدة، ذكريات واحدة، وجرح جمعي وشخصي واحد. لا يمكنك أن تمحوه أو تنفيه أو تلغيه أو تشطبه، لقد ولدت هوية صغرى للشعب العربي الفلسطيني ضمن هوية كبرى هي الهوية العربية، كنت أنت وحركتك الصهيونية العلمانية والمتدينة أحد أسباب اشتدادها ووضوحها. يا سموطرش، دير بالك، أن المسؤول عن تشريده وتهجيره، وأنت تعرف تماماً كيف هي ذاكرة المنفيين وما الذي يمكن لها أن تبدعه. دير بالك. وهذا ليس تهديداً، هذا تذكير لك أن تتواضع قليلاً وأن تتخلى عن بعض الذكاء الذي يشاع أنك تتمتع به. |