|
عزلتي وشُبهة الكورونا- الوقاية بين المسؤولية الفردية والعامة
نشر بتاريخ: 15/03/2020 ( آخر تحديث: 15/03/2020 الساعة: 10:15 )
الكاتب: جمال زقوت
عدت للبلاد من لندن فجر يوم الثلاثاء الثالث من آذار أي قبل حوالي أسبوعين من اليوم ، عند نقطة الحدود سألني ضابط الجوازات؛ هل كنت في إيطاليا، أجبت باقتضاب : لا أنا قادم من لندن، فتابع هل كنت في الصين ، بذات الاقتضاب أجبت :لا.، فاستطرد انتبه إن الأمر خطير و أعاد لي جواز السفر و بطاقة المرور . للحظة كنت سأطلب المساعدة بأنني أشعر بارتفاع درجة الحرارة ، و ربما ما منعني هو رغبة جامحة للعودة للبيت، و الثاني ألَّا أبدو كمن يطلب من مستعمره مساعدة طبية أو وقائية و لم أكن متأكداً كيف ستكون ردة فعله ، فهذه مسؤولية الصحة الفلسطينية عني كمواطن فلسطيني ، و بعد قليل سأكون تحت مسؤوليتها ، سيما أنني لست متأكداً من طبيعة جدية الاجراءات ،فلم يتم فحص درجة حرارة المسافرين كما قرأت و شاهدت ڤيديوهات في مطارات أخري بما فيها دول عربية كدبي على سبيل المثال، و اكتفوا بمن يطلب المساعدة، كما أعلن طاقم طائرة البريتيش إيرويز ، ذلك كله كان أيضاً بفعل تردد ناجم عن أن الحرارة و الإرهاق و الرشح الذي يتصاعد معي ربنا ناجم عن نزلة برد أصبت بها قبل يومين من سفري و يبدو أنها كانت صعبة و تفاقمت في الطائرة رغم نومي طول ساعات الرحلة . وصلت البيت و قررت عزل نفسي طوعاً في غرفة منفردة بانتظار تشخيص أكثر دقة ، في العاشرة صباحاً اتصلت بطبيبي الصديق و الرفيق العزيز د. زيد أبو شاويش ، و الذي هو بمثابة طبيب خاص أستشيره بثقة و بكل شئ و بانفتاح لا أجرؤ عليه مع أي طبيب أو انسان آخر، فاستجوبني بكل ما يخطر على البال من أسئلة ، و وجهني بعدد من الإرشادات و بعض الأدوية الخافضة للحرارة و المحسنة للمناعة ، دقائق بعدها اتصل شقيقي د. بهاء، و فوراً أحضر ما هو مطلوب من الأدوية المدعمة للمناعة و خاصة ڤيتامين سي و الزنك و ڤيتامين D بجرعات الحد الأقصى المسموح ، كما كانت زوجتي قد أحضرت بعض الأدوية بما في ذلك مضاد حيوي بناء على طلب طبيبة أخصائية قريبة لنا عندما تبين أن احتقان الحلق ربما ناجم عن إلتهاب . و أبقيت نفسي في العزل الطوعي .في اليوم التالي تلقيت اتصالاً من مدير الطب الوقائي في رام الله الذي كرر سؤال ضابط الحدود هل أنت عائد من إيطاليا ؟ أنا : كنت في لندن و عدت قبل يومين، و لكنني أعاني من أعراض درجة الحرارة و تصل الى 38.5 و تنخفض فقط بالباراسيتامول ثم تعود و ترتفع ، و أوضحت له الاعراض الأخرى الصداع و الاحتقان و الضعف العام .و أبلغته أنني عازل نفسي بشكل صارم و سألت : هل يمكن اجراء الفحص و أين فأجابني : نحن نتصل الآن فقط بخصوص العزل و ليس الفحص و إذا تقرر اجراء الفحص سنحضر لك إلى المنزل، و نبه بأن لا أذهب لأي مكان ، و أكد بأنه و دائرة الطب الوقائي ستتواصل معي. مر يومين و أنا في حالة عزل طوعي و إجراءات ذاتية مشددة و علاجات مدعمة للمناعة ، و أخرى خافضة للحرارة و سوائل ساخنة عشبية " البابونج ، اليانسون ، القرفة ، الزنجبيل ، الليمون ، ماء الثوم و خل الثوم ، و الحمضيات بمختلف أنواعها "،،حتي يوم الجمعة لم يتصل الطبيب أو أحد من دائرة الطب الوقائي ، كما ذكر لي ، و أنا في وضع يزداد صعوبة و على ذات الحال دون تحسن ، و بدأ يتسرب لي القلق بأن الأمر قد يبدو أنه أكثر من نزلة برد شديدة أنا معتاد عليها ، سيما أن الصداع لم يعد يطاق مترافقاً مع ارتفاع ملحوظ في درجة الحرارة ، و كنت اطلعت على مخاطر هذا الڤايروس للذين يعانون من أمراض مزمنة كالسكري و القلب ، سيما أنني و في التاسع و العشرين من شباط و أثناء ممارسة الرياضة الصباحية حيث كنت مقيم في لندن تعرضت لوعكة صحية أجبرتني على تمضية يوم كامل لاجراء فحوص شاملة و تخطيط عدة مرات للقلب و الشرايين و فحص كيمياء و أنزيمات الدم عندما يكون اشتباه بجلطة و أشعة الرئة ذلك كله في مستشفى St. Mary’s في لندن التابع ل Imperial college Healthcare. بادرت بعد عدة أيام بالاتصال بمدير الطب الوقائي و شرحت له وضعي ، و كررت سؤالي بأنني أشعر بذات الأعراض فهل من إمكانية لاجراء الفحص . تحدث بلطف شديد و أظهر بكلامه مسؤولية عالية و وعدني بأن يسأل المسؤولين و يعود لي ؛ نصائح شقيقي و صديقي الطبيب كانت بتكثيف الاجراءات و الالتزام بأدوية الوقاية الذاتية و مراقبة الحرارة .لم يعاود الطبيب المختص في دائرة الصحة بالاتصال كما وعدني ، و بدأت أسيطر على حالتي الصحية بنفسي متبعاً الاجراءات و التوجيهات . مساء السبت7-3 بدأت الحرارة تستقر بمعدلها الطبيعي37” 0.5 أو -0.5 درجة” . الأمر الذي ترافق مع اختفاء الصداع تدريجياً في الايام التالية ، و بدأ جسمي يستعيد حيويته . مع استمرار كل إجراءات العزل الطوعي،وإجراءات تغذية صارمة و أدوية مدعمة للمناعة . مرتين خرجت منفرداً في اليوم العاشر و الحادي عشر للمشي تحت شمس قوية مع أخذ الاحتياطات الواجبة للوقاية الذاتية سيما عدم الاحتكاك أو الاختلاط أو الاقتراب من أحد . اليوم هو الرابع عشر لحجزي الذاتي و الالتزام بالرعاية الطبية و الغذائية الصارمة . تجاوزت مرحلة الأعراض التي تؤشر لحالة الخطر ،و أظنني تعافيت تماماً أو إلى حد كبير ، ولكن دون الإجابة على سؤال هل ما مريت به كان إصابة بڤايروس الكورونا أم أنها إنفلونزا موسمية و نزلة برد شديدة و لكنها عابرة ، و هل انتهى الخطر أم لا ؟ حاولت بالامس الاتصال بمدير الطب الوقائي و رد علي رقم الهاتف المسجل لدي زملاؤه و شرحت لهم ما هو معلوم لمديرهم ، و أكدوا لي أنهم سيعلموه بما أخبرتهم عن تطور الحالة ، لم يعد لي بعد ، اتصلت مرة ثانية ، و سأتصل مرة أخرى موضحاً و مستفسراً و ليس معاتباً ،لأنني ادرك صعوبة إمكانيات النظام الصحي الفلسطيني و و ضغط اللحظة بفعل حجم الأعباء المتزايدة عليه يومياً . فجوهر الوقاية هي مسؤولية فردية مع أن للمواطنين المشتبه بإصابتهم حق أن تجرى لهم الفحوصات المخبرية ، و أيضاً أن يجري التأكد من مدى سلامة إجراءات الوقاية الذاتية التي يتبعونها . الأمر الذي لا يقل أهمية عن ممارسة العزل و الوقاية الذاتية و الاهتمام الدقيق بكل وسائل النظافة هو دور الأسرة ،؟فزوجتي و التي أخذت معي كل احتياطات العزل الذاتي الخاص بها ، و مع انها كانت تحاول ابعاد القلق من الڤايروس و رفع المعنويات ، إلا انها كانت عوناً بأخذ إجراءات عزل ذاتية موازية و بذات الصرامة و الحرص على تعقيم المنزل و الغرفتين المعزولتين اللتين نقيم بهما على انفراد و حماميهما المنفصلين ، فدرهم الوقاية هو السلاح الوحيد لحماية أنفسنا و هو خير من قنطار علاج ، و الذي للأسف هو غير متوفر عالمياً حتى الآن. أيام عصيبة مرت و ربما أصعب و أقسى منها لم تأتي بعد ؛ العزل البيتي يبدو قاسياً و لكنني أظنه فرصة إنسانية لتتأمل زوايا بيتك و تشعر بدفء كل مكوناته و ذكرياته الجميلة التي جمعتك فيه مع زوجتك و أبنائك و أصدقائك و ضيوف بيتك، افتقدت خلال هذه الأيام جدية إبني مجد و صرامته و حنان ابنتي رغد و بسمتها الصباحية، و ظلت ترافقني جدية إجراءات نائلة و عفويتها و أخذ الأمور ببساطة و دون قلق زائد أو تهويل غير مطلوب . افتقدت مكتبي كما افتقدت صحبة التريكس و الطرنيب التي كنا نقتل بهما سوياً الملل و الوقت في زمن احالة شعب و كفاءاته لقائمة و واقع انتظار الآتي المجهول، و لكنه معلوم تماماً، بحالة من الشلل في كل شئ و خاصة ما هو مطلوب من إجراءات طوارئ سياسية فالخطر الوطني وجودي ، و إن غطت عليه حالة وباء الكورونا. أعادتني أيام و ساعات العزلة للكتابة و القراءة و الاستمتاع بالموسيقى و مشاهدة أفلام الأوبئة و الجائحة البشرية و السلوك الانساني في تلك السنوات ، و كيف يجمع السلوك الانساني بين أنانيات غريزة الخلاص الفردي و أهمية وعي الانتماء للجماعة و الحرص على الانتصار الجمعي ؛ جيلنا لم يعش سنة الثلجة بعد النكبة و لا قبلها الانفلونزا الإسبانية و لا سنوات الكوليرا ، و ربما لم يشعر الكثيرون منا بإنفلونزا الخنازير أو الطيور أو الإيبولا. فوباء الكورونا سجل اهتماماً كونياً غير مسبوق ترافق مع صراعات اقتصادية و تكنولوجية في عالم تتناطحه التجاذبات التي تبدو أحياناً و كأنها عتبات حرب كونية أو نهاية عصر الحضارة كما عرفناها، و أظهر الڤيروس بقصد أو بواقع الحال عجز قوى عظمي ! و لكن بالحب و التضامن و المسوؤلية الفردية و العامة و القوة اللامتناهية للتضامن الجماعي الانساني و الخلّاق ستحقق البشرية ما عجزت عنه تلك القوى العظمى ، الأمر الذي يستدعي اعادة تعريف مفهوم القوى العظمى الانسانية التي تبدأ من وعي الانسان الفرد لقيمته الهائلة كواحد من الجماعة البشرية ، و التي ستنتصر على الكورونا و على كل قوى الظلم و العنصرية و الفاشية التي تمارس ضد الشعوب المضطهدة و الأغلبيات الفقيرة و المستغلة ، و في العلاقات الدولية و داخل كل مجتمع و حتى كل انسان! و ستروى حكايات و بطولات و ستخرج أفلام سينمائية ومسرحيات و بتقديري سيسجل التاريخ سيرة بطلة من فلسطين هي ماريانا العرجا و عشرات بل مئات و الاف الأمهات اللواتي يسهرن على حياة أطفالهن هنا في فلسطين و في كل أرجاء المعمورة التي ستنتصر حتماً ! تجربة هذه الوعكة لم تمنعني بل ربما حفزتني على التواصل مع أصدقاء و أقارب في العديد من دول العالم للإطمئنان على صحتهم سيما تلك التي انتشر فيها الوباء بسرعة و يذهب فيها يوميا ضحايا بالعشرات مثل إيطاليا التي لم يتأخرشعبها يوماً عن التضامن و الوقوف دوماً مع شعبنا و قضاياه العادلة و حقوقه في الحرية و الكرامة الانسانية دون شروط!
|