وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

مذيعة "العربية" ميسون عزام تلامس حجم سرقة كبيرة وقعت قبل 60 عاما.. فذهبت لامتحان حطين وعادت أكثر حنينا

نشر بتاريخ: 28/05/2008 ( آخر تحديث: 28/05/2008 الساعة: 13:40 )
بيت لحم- معا- كتب محمد اللحام- منذ تبلور الوعي الفطري لدى ميسون، وجموع المنضوين تحت عباءة اللجوء، كان هناك حلم يكبر ولا يهرم، يفيض ولا ينضب، يتوجع ولا يهزم، إنه حلم العودة بالجسد أو بالطيف، لتلك الأم، تلك الأرض المشتعلة بالحرب والحب، فهي بوصلة القلب حيثما وليت وجهك، فهي كعبة ميسون، وقبلتها الأولى بالعشق المكتنز والمختزن بالأصالة عن نفسها وغيرها ممن يشاركها الهم والهمة.

فكل دروب العودة مغلقة والطرق الالتفافية لا تؤهل للوصول للوطن، وما زالت ميسون تحيك الحيلة بالعقل والعاطفة لزيارة فلسطين يوما، وعندما عرض على ميسون عزام القدوم لفلسطين بغرض قيادة عرافة حفل إفتتاح مؤتمر الإستثمار في مدينة بيت لحم بكت فرحا بالحلم الذي اصبح على بعد تذكرة طائرة ليتحقق ..ترددت، وقد تكون تحيرت، والثابت أنها فكرت، بل فكرت كثيراً، بالرغم من أن الثابت أصلا رغبة جامحة وعادت وقررت، ولكنها تراجعت، والأرجح أنها تاهت ما بين الإقدام والإحجام، ما بين العودة لنبش الذكريات في الركام، وما بين دمعة ما كان وفرحة المكان، ومن المؤكد أيضا أنها عانت من صعوبة اتخاذ القرار، ومارست محاولات الفرار في الأفكار ومن الإدخار في القلب وإغلاق الملف وحفظه بالإبقاء على ما فيه من (دمامل)، ساكنة بفعل الوجع المحبب وراثياً والمحصن عاطفياً فكانت كمن انتظر الحبيب دهرا بأمل بعيد المنال وفجاءة حان اللقاء.

وجدت نفسها أمام الإمتحان الذاتي، والجندي الإسرائيلي يسألها: من أين أنت؟ ولماذا قدمت؟ وما هو أصلك؟ فقررت الإجابة على أسئلة الإمتحان الذاتي، لا على أسئلة الجندي، فرفعت جبينها وكأنها على جبهة حرب، لتحدق في عيني الجندي دافعة به لزاوية الخجل، أنه هنا وهي هناك!!.

شكرا بريطانيا فجواز سفرك الذي يحمل صورتي لن يعيدني الا عابرة سبيل فوعد بلفورك أعاد القهر وانبت الشتات قالت ذلك في سرها وهي تستذكر تجربتها في قناة A.N.N وفي الجزيرة الاقتصادية من لندن لتسقر بها الأحوال في قناة العربية وتحصل على شهادة الماجيستير بعد إعاقات لوجستية بسبب الحمل مرتين إلى أن وصلت لشهادة العلاقات الدولية.

رن جرس الهاتف في الفندق المقدسي، وما أن رفعت السماعة حتى قفز لثنايا خلجات قلبها ما كانت متوجسة منه، وهو الامتحان الثاني (كيف حالك؟ أنا ابن عمك يوسف)... أنا يوسف يا أبي... تذكرت سريعاً قصيدة محمود درويش وقالت: "يوسف كيف حالك؟ أنا خجلانه منك كيف أشوفك؟" اتفقا على اللقاء الذي إمتد إلى أبعد من إبن العم، ويوصل الى كل خطوط الدم والنسب والقرابة، ويوصل للامتحان الثالث وهو الأصعب والأخطر، انه امتحان وقد يكون معركة في حطين! وهي تدرك أنها ليست بصلاح الدين.

تجمع الأهل والأقارب هناك في حطين وفي ما تبقى من قرية (اسمرية) التي شج قلبها وسلخ جلدها شارع استيطاني ، وأفسح التجمع الطريق لأبي جمال الذي يشرف على المسجد والبيوت القديمة والمقبرة، ونظر لها وقال (بتشبهي ستك بس على إفرنجي)، ومسك يدها، وتقدم بها والجمع ساكن في المكان يرقب ما سيقوم به أبو جمال إلى أن وصل بها للتلة، وأشار بيده للمكان المحاط بالأسلاك وقال: "هذه أرضكم أرض ستك تحديداً"، قالها بشموخ و بثقة عالية وكأنه قاضٍ كان ينتظر المظلوم الصادر بحقه حكم غيابي بالبراءة ليبلغه القرار ويرتاح ضميره، وأكمل حديثه (نعم هذه أرض ستك صالحة) .. بتقدري تسترديها بس يا بنتي صوره في قلبك في خيالك... حتى (بكمرتك) ممكن ممنوع تسترديها.

رجفت جفون وخدود ميسون، وأحست أن قدميها مؤهلتان لخيانة جسدها النحيف أصلاً، والقابل للسقوط للخلف عن التلة التي لفها ظلام المساء... مدت بنظرها لداخل الأسلاك شعرت بوخز تلك الأسلاك المحيطة بالأرض وكأنها تلتف على خاصرتها ..تحاصر عينيها تسللت بنظرها لأقصى نقاط المكان دون أن يمنعها حتى الظلام من السباحة بسرعة في زوايا الرواية . عادت لتجمع قواها وتجيب على سؤال مهم في الامتحان، تقدمت خطوات ووصلت حد الباب الذي يحرسه الجندي، مدت جبينها وقالت له هذه أرض جدتي وأريد فقط أن ألقي نظرة والتقط صورة ، فنظر لها بإزدراء طالباً منها الابتعاد عن المكان، ولكن ما اعتراها من زلزال الصورة والإطار، وما كان وما سيكون قد يذهب بها أبعد من مكان الزمان أو زمان المكان، وهي لم تعد تقف على الارض بمقدار الفضاء المتسع دوما لها والذي ضاق عليها وبها هنا وخذلها حد شعورها بانعدام الأثير وحلول الأرشيف .. وفجاءة سقط المطر وانشطر القلب وغاب القمر ورجفت كتفاها من برد الموقف، حاولت ان تضبط إيقاع حركة كتفيها المرتجفان بلف كفيها المتعاكسين عليهما لتفاجئ بان القشعريرة تتسلل لكل أوصالها والتربة تحت قدميها أصبحت اكثر لزاجة بفعل المطر المفترض وان قدميها قابلتان للتزحلق والانغماس في الطين بفعل غياب اليقين.. ولكنها لم تفق من صراع وصداع السؤال إلا على يد زميلها زياد حلبي التي أمسكتها وبهدوء كمن يحاول أن يفيق طفلاً من منام في الصباح دون أن يخدش جمالية غشاء الندى، كانت عيونها مفتوحة ولكنها لا تشاهد حاضراً، بل كانت حيث والدها وجدتها، وما كان من شريط ذكريات لم تعتد على مراجعته بواقعية امتحانية صعبة، وهي المعتادة في برنامجها مشاهد وآراء أن تشاهد المادة الفيلمية وتناقشها مع الخبراء، واليوم هي ليست خبيرة ولا حتى غفيرة بالقوم القائم على أرض الحاجة صالحة.. وما زال الجو حار ولا وجود للمطر ولكنها تشعر بالبرد وقد يكون هو الخوف من تهتك وتفتت في القلب الذي تشظى بفعل الوجع.

لم تفق إلا عندما اصطدم نظرها بأبي جمال الذي بقي واقفاً يرقب المشهد، لتصحو قليلاً من التكلس الجسدي، لتعود بعد أن شعرت أنها تحنطت سنوات أمام هذا المشهد الذي دخلت عليه أم وجدي وهي قريبة لعائلة ميسون والتي عرفت على نفسها وراحت تقص لميسون حكايات جدتها صالحة وجيران العائلة حتى مأساة النكبة واللجوء.

في طريق العودة من حطين لرام الله ،كانت كلمات محمود درويش وغسان كنفاني وغادة السمان تدق وتنق على القلب والروح والعقل في سؤال ملح عن سر الدفء التلقائي من حراس المكان العتيق لأي رائحة كان لها امتداد في ثنايا المكان ولو في زمن عتيق ومرت من هنا في لحظة بريق كانت كافية لصفع وطرد كل الصور الذهنية المرسومة من الكلام ومن الأفلام التي تختلف عن الواقع كثيرا فاعظم مخرج في التاريخ لا يمكن ان يوصلك حد المشاهدة الحقيقية لمعانات ارض وشعب هجر وسلب منذ ستة عقود.

نضال حسن مدير العربية في فلسطين زاد قلقه بعد أن فقد الاتصال مع ميسون والطاقم ورسالة الجوال وحتى الخلوي الإسرائيلي لا يجيب، فالقلق اكثر على ميسون وموعد (العزومة) في التاسعة، والساعة الآن الحادية عشر، وما انفك ينظر للساعة مرة وللجوال مرة أخرى وللخاروف (المكتف) على طاولة السفرة مرة أخرى خوفا على أهليته في حالة أصابه البرد فقد عمل (العزومة) لوداع زميلته التي تزوره لأول مرة ... أخيراً ميسون والزملاء وصلوا لمنزل نضال في رام الله وقد إستعانوا (بالمناقيش) في الطريق الى حين الخاروف.

لم تعبر هي عن حقيقة مشاعرها من لقاء أثر وأثار وإرث جدتها صالحة ومسقط رأس والدها وأسرتها التي تشتت ما بين الأردن ولبنان والإمارات وتركت لكل الزملاء والأصدقاء الحضور حرية تقدير الموقف فمنهم من فرح لقرب وداع الخاروف الناطر ومنهم من عجز عن إخفاء الدمعة لمجرد سماع الرواية ووداع صاحبة المشهد الضبابي بفعل عدم وضوح الإضاءة على تل الحاجة صالحة والآراء المحتاجة ترجمة للبعض وموسوعة شاعرية مجتاحة للبعض الآخر.

نتائج الامتحانات يصعب التنبؤ بها، فهي تقدمت لها طوعاً مرة وقسراً مرة أخرى، ولكن الثابت أن ميسون بريطانية الجنسية، فلسطينية الهوى والأصل والعشق، وستعود يوما في مشهد كامل الإضاءة واضح الآراء.