|
وقفة على أطلال الصفصاف... بقلم: نضال حمد
نشر بتاريخ: 07/11/2005 ( آخر تحديث: 07/11/2005 الساعة: 15:15 )
معا- قبل اندلاع انتفاضة الأقصى بسنة كاملة كنت شددت الرحال إلى وطني فلسطين الذي لم أره قط لكني كافحت لأجله مثل نمر مجروح أو كنسر يحرس ملكه من خطر الأشرار في عالم الطيور المعدنية، طيور الموت الجماعي، التي تقتل بدل الضحية الواحدة العشرات أو المئات بغارة واحدة.
وكنت في طفولتي المخيمية شاهدت تلك الطيور القادمة من أعلى السماء، والهادرة كأنها الزلزلة، كانت تهبط و تنزل باتجاهنا بسرعة فائقة، كانت تتجه بحمولتها نحو مخيمنا الصغير. في مخيمنا كان يوجد الكثير من الأطفال الصغار والكثير أيضا من الرجال من الكبار ولم يكن لدينا سوى القليل من الملاجئ التي كنا نحتمي فيها من غضب الطيور اليهودية المعدنية، طيور الاله يهوه الذي شق البحر وجاءنا من الصحراء، يهوه القادم من حقد التاريخ وحاضر الرعب وماضي الجرائم والمذابح، المتجدد في يوسف عوفيديا وغولدشتاين وكاهانا وشارون. كان البعض ولازال منهم من يعتقد أنهم فعلا من المختارين أرضا وماء وسماء، لكنهم لم يتعدوا كونهم من المحتارين برا وجوا وبحرا سلاحهم ما حل بهم في العالم الآخر من موت وما فعلوه بعالمنا البسيط بعد نجاتهم من عوالم الموت بالتقسيط. لأول مرة في وطني: كنت عند التقاطي فكرة السفر إلى الوطن كغريب بجنسية غريبة وأوراق ثبوتية أجنبية وجواز سفر أوروبي،أعرف بأنني ذاهب في رحلة لا تعترف بالنسيان وبعقلية تحيط بها خبايا الذاكرة، وتتغلغل في ثنايا دموعها دماء القداسة المفترسة على صخرة الغضب والعنف وألا براءة. وكنت كمن يسافر نحو المجهول اذهب في الغرابة والعذاب كأنني غريب على أرض والديّ وكنت مسافرا كي ابحث في بقايا الوطن عن قصص سمعتها ومآثر عرفتها وحكايات تعلمتها من الأهل، من ألأجداد الذي ماتوا في المخيمات وفي الشتات، أتذكرها من نظرات الذين كانوا يتحدثون عنها ويواجهون الحكايا بحقائق من دم ودمع وعرق وغربة وعذاب. منهم وحدهم، هؤلاء الذين عاشوا وعلمونا وعرفونا على الحقيقة في زمن الكذب وتزييف الحقائق. علمونا التمسك بحق العودة وحب الأرض والتضحية، فضحوا من أجلنا ثم ماتوا أما فلسطين فبقيت كالله حية في قلوبهم وضمائرهم في الأجيال الفلسطينية التي تحملها وتحمل همها جيلا بعد جيل. هذه فلسطين التي تعرضت للذبح والسبي بعد أن نفذت ذخائرها القليلة, هذه البلاد هي فلسطيننا التي صار القسم الأكبر منها يسمى الآن إسرائيل. كانت بالنسبة لي أكبر حلم وأغلى أمنية وأعز سفر بعدما قضيت العمر مسافرا بين العواصم والمدن، متنقلا من مكان إلى مكان إلا المكان الأكثر قربا لقلبي وحبي، مكاننا الذي طردونا من بيروت بقوة الارهاب لأجله، وعقب رحيلنا عن بيروت عاصمة لبنان و ست المدن صارت البلاد التي كانت بلادنا ولازالت، الحلم الجاثم على حقيقتي وحقيقة أنها سرقت وسلبت واغتصبت ولم يعد ظاهرها كما كان في زمن جدي وطفولة أمي وأبي،لقد غيروا معالم الأرض لكنهم لم يبدلوا الجذور فيها فهناك مع الزيتون والبرتقال والتين والصبار تحيا ذكريات الفلاحين من أبناء الأرض. لأنها الأرض التي هي أرض فلسطين، والتي حدثني عنها آبائي وأجدادي، لقد تغيرت البلاد وتبدل الناس بناس آخرين لا تجمعهم مع الأرض سوى علاقة الاستيطان والمصادرة فصار للصبار لون آخر وطعم غريب،وماتت الأشجار من دون أصحابها ومن دون الأنامل البلدية التي لا تعيش حياة عادية وطبيعية من دونهم. وصار لتلك الدولة التي أقيمت على أرضنا وفوق بيوتنا ودورنا ومقابرنا متاحف ومعارض، معظمها منهوب ومسلوب من تاريخنا وقد تم تزييفه وتبديله ليحكي عن تاريخ عبري مزور ارادوا ربطه بتلك الأرض التي احتلوها، ثم أقيمت عليها دولتهم فوق دورنا وأرضنا ومنازلنا ومقابرنا، وفوق عظامنا وجماجم اهلنا. بعد تفكير طويل وفحص وتدقيق في الفكرة وما قد ينتج عنها وبغض النظر عن الماضي القريب والآخر البعيد، حزمت أمتعتي وطرت من أوسلو التي تجاور آخر الدنيا إلى النمسا فبلادنا التي غيروا اسمها وبدلوا تاريخها وسلبوا أهلها الماضي والحاضر ولازالوا يلاحقونهم في المنافي والشتات ويحاربونهم في مستقبلهم. مطار فيينا الدولي: في مطار فيينا الدولي وبعد تحقيق طويل وممل أجرته معي أحدى العاملات في الخطوط الجوية النمساوية، وبعد عدة أسئلة غير اعتيادية وسخيفة جدا في بعض الأحيان، وبعد أن أجبت عليها كلها غير مخفيا انزعاجي، قالت لي بعد أن تأكدت من أجوبتي وخلو حقائبي وجيوبي من السلاحين الأبيض والناري ومن الآلات الإلكترونية والشبهات الارهابية، باستطاعتك الآن التوجه إلى الممر المذكور وقاعة الانتظار المرموزة حيث الطائرة المتوجهة إلى مطار بنغريون قرب تل أبيب. هذا المطار يقع على اطلال البلدة التي كان اسمها في الزمان المسلوب تل الربيع وتقع على مشارف مدينة يافا العربية المعروفة، الآن لم يعد من يافا سوى بقايا عربية، بينما أصبحت تل أبيبهم أكبر من مساحة الواقع والحلم معا، كبرت عاصمتهم وانقرضت مدينتنا ومحيطها، صار تل الربيع مع يافا تل ابيب، ولم يعد الحبيب الى الحبيب إلا شهيدا أو بجواز سفر اجنبي وكما الغريب. في القاعة المذكورة وجدت نفسي كشخص من عالم آخر، لا يوجد غيري أجنبي أو قل عربي بين حشد يهودي كبير فيه الكبير والصغير من المسافرين. جلست على مقعد في زاوية منعزلة من القاعة بحيث كنت أريد الانسجام مع نفسي والابتعاد عن الذين حولي، كنت أفكر بكيفية الاستقبال الذي سألاقيه في البلاد، وكانت الأفكار تتسارع في رأسي بشكل جعلني لا أسمع النداء الذي دعا الركاب التوجه إلى المدخل المؤدي الى طائرتنا. أنهيت المعاملات الأخيرة في مطار فيينا وسرت داخل الممر المؤدي إلى الطائرة وحيدا وسط مجموعة كبيرة من البشر يثرثرون بلغة كانت في الزمان القريب تثيرنا وتجعل الدماء تغلي في عروقنا، ولا أخفي عليكم بأنني كنت محتارا وفي قرارة نفسي تساءلت أن كنت لم اتسرع بقراري الذي اتخذته على عجل وهو السفر إلى فلسطين مهما كان الثمن، لكني الآن في الطائرة بين الأرض والسماء ومع السحاب ، وجهتي نحو تل الربيع، نحو الأرض التي لم تحرمنا المطر ولن تسلبنا السفر. غريب في بيتي: بدت لي بلادنا وكأنها أبعد من حدود العالم كله، كنت كلما تلفت حولي في الطائرة التي أقلتني إلى هناك أرى الذين سلبوا أهلي كل شيء، كانوا فرحانين وسعداء بعودتهم إلى بيتهم الجديد الذي هو بيتي القديم، هم يعودون إلى البيت وأنا أسافر إلى بيت أهلي زائرا، سائحاً أجنبيا تحميه الجنسية النرويجية، يدخله جواز السفر الأجنبي أرض أجداده وآبائه ككل أجنبي. كانوا يتحادثون بالعبرية وكنت بينهم حالة غريبة وعجيبة، عربي فلسطيني وسط بحر من اليهود المتوجهين إلى بلدي التي يعتبرونها بلدهم، إلى حزني الذي أصبح فرحهم، وكنت منطلقا من تشردي الذي أعطاهم إقامتهم ومن منفاي وسجني وتشردي ولجوئي اللذين أعطوهم أقامتهم وحرياتهم وجعلوني لاجئاً في الشتات كي لا يغضب الرب يهوه ومعه الراب في العهد القديم وفي الزمن الحالي الجديد. هكذا إذن، كنت العائد كسائحٍ يعشق جمع الصور، وكانوا العائدين بقانون يمنحهم حق العودة إلى الأرض المقدسة بعد 2000 عام من الشتات ويمنعني من العودة كفلسطيني إلى بيتي بعد أقل من ستين عاما من التشتت واللجوء والتشرد والعذاب بسبب قانون عودة الشعب المختار إلى أرض اختارها زعماء الصهيونية العالمية لمشروعهم الاستيطاني ألاستئصالي وطنا لهم. وهل من حقهم اختيار وطني وطنا لهم، وهل من حقهم احتلال بيتي وتدمير كينونتي وسرقة حقلي وسلب ورودي وأزهاري وإشعال الحرائق في دياري ونهب محاصيل زرعي، وهل من حقهم تزييف التاريخ وتبديل الجغرافيا وتغيير الواقع حفاظا على سلامة الاختيار و من أجل نقاء عرق السكان؟؟؟؟ لا يحق لهم ما لا يحق لغيرهم وليس من حقهم تبديل الواقع وتزييف التاريخ وسرقة الماضي والاستيلاء على الحاضر والتخطيط لسرقة المستقبل، لأن التاريخ شاهد على العصر، والحاضر حاضر في الناس حتى الموت، والمستقبل للذين خرجوا من الحياة إلى الموت، بعكس أمواتهم وأحياءهم الذين خرجوا من معسكرات الموت وغيتووات التفرقة العنصرية إلى الحياة و الحرية، فكانت حياتهم على حساب موتنا وحريتهم على حساب سجننا ومنفانا. فلسطين كاملة الأوصاف: كان الوطن الذي لم اعرفه إلا من خلال التضحيات و الصور والقصائد والكتابة وعن بعيد أقرب من أي مكان بعيد في عالمنا الوحيد، كانت فلسطين الكاملة الأوصاف تقف أمامي في هذه اللحظات الغريبة، وكنت أراها ملقاة على خاصرتها تعض على الجرح وتحاول الصراخ من دون فائدة، تذكرت كلمات جدي عن بلدتنا في أعلى الجليل، على سفح جبل الجرمق، تذكرت أنني من أصحاب الأرض ومن الذين لم يروا من الأرض سوى صورها ولم يتذوقوا من ثمارها سوى بعضه الذي جلبه كل من أبي وأعمامي من البلادِ يوم زاروها بعد 25 سنة من النكبة الكبرى. لازلت اذكر كيف عاد أبي من زيارته مريضا ولم نكتشف مرضه الخطير ألا بعد مرور زمن ووقت طويل، فحصه الأطباء ولم يجدوا في جسده ما يثير الشك أو الفضول. لكنه اعترف فيما بعد أنه مريض من الداخل، قلبه مكسور ولا يجرؤ على البكاء أمامنا، قلبه ميت مذ ماتت أزهار داره في أعلى الجليل، على سفح جبل الجرمق، في الطريق إلى الجش والرأس الأحمر وطيطبة وعكبره وبيت جن والمغار وعين الزيتون وصفد، كان يقول أن قلبه الحي بقي هناك مع شجرة الجوز و طرابين الحبق و زهر الرمان والصفصاف والزيتون والتفاح والزنزلخت والسرو العالي كما جباه شهداء بلدتنا. كان قد قال لنا أبي أن شهداء الصفصاف الذين اعدموا يوم سقوطها رميا بالرصاص ثم دفنوا في البلدة، كانوا بالعشرات، ولازالت أسماءهم محفوظة ومحفورة في الذاكرة ولن تذهب مع الريح. * عضو اللجنة التحضيرية لتجمع الأدباء والكتاب الفلسطينيين |