|
فلسطين ودعت شاعر ثورتها في مشهد عظيم
نشر بتاريخ: 13/08/2008 ( آخر تحديث: 13/08/2008 الساعة: 12:32 )
بيت لحم- معا- شيع عشرات الآلاف في رام الله اليوم جثمان الشاعر الكبير محمود درويش الى مثواه الاخير, ووري الجثمان الثرى في تلة مطلة على القدس بجوار قصر الثقافة في رام الله.
وجرت مراسم تأبين في مقر المقاطعة برام الله, بمشاركة الرئيس محمود عباس وكبار المسؤولين في السلطة الوطنية، وأصدقاء الراحل وأحبته. القيت خلالها الكلمات التي أشادت بمناقب الفقيد الكبير وبصماته التي سيحفظها التاريخ الحديث. ومن ثم سار الجثمان على الاكتاف سائراً بين الاف المواطنين المصطفين من مقر المقاطعة حتى قصر الثقافة, حتى ووري الثرى. وكانت مروحية أردنية خاصة نقلت جثمان درويش من عمان الى رام الله, ورافق الجثمان على متن الطائرة عدد من الشخصيات الفلسطينية هم: سلام فياض وياسر عبد ربه واحمد الطيبي ورفيق الحسيني واكرم هنية. وكان جثمان الشاعر الفقيد وصل صباح اليوم الى عمان قادماً من هيوستن في الولايات المتحدة، حيث توفي اثر عملية جراحية في القلب هناك. وكان الرئيس محمود عباس قد ارسل وفداً رئاسياً على رأسه د. رفيق الحسيني رئيس ديوان الرئاسة الى الولايات المتحدة، لنقل جثمان الشاعر الراحل محمود درويش الى عمان. وقد وصلت مدينة رام الله منذ ساعات الصباح مئات الحافلات القادمة من كافة محافظات الوطن لتقل مشييعي الشاعر الكبير. وفيما يلي نص كلمة الرئيس محمود عباس التي ألقاها في وداع الشاعر الكبير محمود درويش: بسم الله الرحمن الرحيم 'يا أيتها النفس المطمئنة،ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي' صدق الله العظيم الحمد لله رب العالمين وبعد، أبناء شعبنا الفلسطيني وأمتِنا العربية والإسلامية جمعاء أحباء الحرية والعدل والسلام في العالم جميعنا اليوم نودع نجماً أحببناه إلى درجة العشق، بعد ما كان التاسع من آب يوما فارقاً بتاريخ الثقافة الفلسطينية والإنسانية، عندما ترجل ذاك الفارس العنيد عن صهوة الشعر والأدب، ليترك فينا شمساً لا تغيب، ونهراً لا ينضب، من عطاء الخير والبشائر والأمل، فيضعنا أمام امتحان الصبر والقدرة على استمرار العطاء والإبداع، وإدامةِ تألق المشهد الثقافِي والإجابةِ على إشكالياته وتساؤلاته، وليبقى المقرر في صياغة المستقبل، وتحديدِ مضامينهِ، وتبليغِ رسائلهِ، المعمدةِ بالحريةِ والعدالةِ، العابقةِ بالجمالِ والمحبةِ، البانيةِ للهويةِ والشخصيةِ الوطنيةِ المستقلةِ، المؤسسةِ للحلُم والأماني، المنبعثةِ من الأمل الواثق بتجسيدها دولة الشعب الفلسطيني، حاضنة هويته وحريته وتطلعاته، ذات السيادة، والمستقلة، المساوية بين جميع أبنائها، ولجميعهم على شتى عقائدهم وانتماءاتهم، دولة القانون والمؤسسات والحكم الرشيد، الذي نذر محمود درويش نفسه يحلُم بها ويغني لها، ويمجّد نشيدها ويناضل لتجسيدها... انطلاقاً من موقعه الذي اعتلاه باقتدار وجدارة، قائداً ريادياً، مُعلَّماً ومَعلماً، حصنا منيعاً عاليا بجبهة الثقافة والإبداع، الجبهة الأساسية في سيرةِ شعبنا النضالية، بطلاً، ملتزماً متفانياً مضحياً وقائداً في سائر جبهات الصمود والكفاح الأسطوري لشعبه، على امتداد زمن الثورة الممتد عبر العقود إلى إبرامِ عَقدنا الاجتماعي الجمعي، بتأسيس الدولة التي نَظَمَ وصاغ بنبض قلبه وروحه دستورَها، وثيقةً الشرف والعهد التي ارتضيناها أمانة تطوق أعناقنا، للشهداء، للأسرى، للأجيال، للمرأة حارسة نارنا المقدسة، والأطفال يكبرون بهدي مبادئها إلى المجد الذي أسس قواعدَه والأملَ الذي حدد عناصره. إنها أسطورةُ الشعب المجبولةُ بأسطورة محمود. بتبادليةٍ جدلية، هي الأكمل والأجمل يَنقُش بمهارةِ المبدعِ الخلاقِ، ليس فقط ملامح هويتنا بل جدارُ وعينا، ليكون فينا ومنا ولنا، ويكونَ لكلٍ منا فيه حصة أو نصيب كما هي مع شعبه وقضيته مع أمته وإنسانيته ليصبح ذلك الخيط الحريري المميز في قوس نصرنا ومنارة عزنا في صُلب نسيجنا الاجتماعي ووحدتنا الوطنية وفي صلب صورتنا الإنسانية النضالية، يعلن جدارتنا وحقنا بالحرية والاستقلال....... لقد أوفى عطاءً بسخاء، زاد فينا طموحاً بالمزيد، لهذا لا نصدق أنه رحل، وعندما نوقن بالقَدَر ونستسلم للقضاء الذي لا بد منه وليس لنا فيه من مفر تزدادُ فاجعتنا ألماً وأسى وحسرة. ومهما نحاول استجداءَ اللغة تَفِّرُّ المفردات مذعورة كالعصافير، مع روحه المسافرة إلى بارئها وتتلاشى عند حدود الشفاه ويجفُ مِدادُ القلم فما أصعبَ الرِثاء، فكيف إذا كان لعزيز كمحمود، وكبير كمثله، بقامته وظله، يورفُ على فلسطين من أقصى الحدود إلى غاية الحدود. إذا كان سيدُ الكلـمة والحكـمة بذاك الرمز المعبر عن حسّنا الوطني، دستورَِنا الإنسـاني،إعلان استقلالنا، فمن يوفـيه جزءاً من حقه عليـنا بالـرِثاء؟ ومن يمـلك القـدرة فرداً أن يفعل؟....... إنها أنشودةُ المناجاةِ والفجيعةِ، صامتةُ أبلغُ من القول، ولكنها أيضاً مسؤوليةُ جميعنا وجموعنا، تهب موحَّدة في تشييعه، والتفجعِ على رحيله، ولكنها بإرادة العزم والأمل الذي غرسه فيها ينمو ويكبر ويزهر. وهي إذ تعبر عن حبها وشكرها واعترافها بمكانة محمود، ودور محمود، أنما تجدد لروحه الطاهرة، لتراثه المجيد ومسيرته المباركة، مسيرتَها وتضحياتِها ومعاناتِها، مسيرةَ كفاحها المستمر والمتواصل إلى ذروة النصر. ذلك العهد المكين الذي نجدده اليوم لروح درويش، لكل شهداء شعبنا العظام، لأسرانا وجرحانا البواسل، أن تبقى وصيتُه أمانةً، أن تبقى الراية التي رفعها محمود بشعره وقامته وروحه عالياً خفاقةً، لتعلو كمآذن القدس وكنائسها، وأسوارها العالية، العاصمة الأبدية لدولتنا الفلسطينية الآتية قطعاً. إنه حلم محمود ورؤياه التي نُقْسم على تحقيقها لتكون مثواه ومثوى شيخ شهدائنا، قائدِ مسيرةِ شعبنا ورمزِ قضيتهِ وكفاحهِ ياسر عرفات. ومع جلال الحزن فان جمال الوفاء أقوى وأحق بهمة الرجال وعمق المسؤولية تجاه محمود وريثِ الأمجاد وحاملِ لواء الأجداد المجدد المبدع المعبر الموحد شعراً ثقافة وشعبا وهوية. وليكن رحيله مدخلاً لتجنيد كل طاقات المبدعين أفراداً وهيئات، بكل المستويات الأهلية والرسمية، ليس فقط لسد المنافذ أمام فراغٍ كبيرٍ نشأ برحيله، وإنما بالارتكاز إلى تراثه ومدرسته وإبداعه العظيم، ليكون موتُه الموجعُ إِحياءً تجديدياً لجبهة الثقافة، وإغناءً للمشهد الثقافي تأصيلاً وحضوراً وفعالية في قرار الوطن ومصيره وفي صورة الوطن وهويته، بل في عمقنا العربي والإسلامي مَلاذنِا وجوهرِ انتمائنا وتفاعلنا، مصيرِنا ومستقبلنِا ومُشارِكِنا في صياغة الوجدان الإنساني. وضمن هذا السياق فإنني أدعو الجهات الحكومية والرسمية المعنية بجبهة الثقافة المعقل الأساسي الأهم لنضال شعبنا وحفظ بقائه وأمنه القومي وهويته الوطنية أن تولي هذه الجبهة ما تستحق من تركيز واهتمام ورعاية وتوفير الإمكانات والموارد اللازمة لتمضي قدماً نحو تعزيز دورها ومكانتها والعبور إلى عهد جديد من الأصالة والتجديد. فجبهة الثقافة والمبدعين هم ضمير الأمة ومحلُ رهانها ومحطُ أملها وعزِها وكلنا ثقة بأنهم أهل لهذه المسؤولية والمكانة. وإن كان مصابنا بمحمود مصاباً واحداً وعزاؤنا فيه واحداً فإن لعائلته الصغيرة والدتهِ إخوانهِ وأخواتهِ، ولأسرته الثقافية فلسطينيةِ وعربيةِ وعالميةِ حُسنَ العزاء. أما إليك أيها الحبيب محمود الذي رفضت في الماضي مني ما سأقول، لتواضعك وحيائك المشهودين، أقوله لك الآن: لقد وحَّدت فينا الفرح والأمل وكلَّ القيم النبيلة، كنت الإنسان فينا، وستظل في كل مولود لنا. يا أخي أحمد الزعتر لك كلُ المترادفات والأضداد، فأنت الحاضر الغائب، وأنت الغائب الحاضر فلم ترحل عنا إلا لنا ولن تتركنا لأنك فينا، فلم يسقط الحصان عن القصيدة وسيبقى الجموح والجمال في الحصان والقصيدة. يا أخي أحمد العربي كنت التحولَ وكنت التطورَ فأصبحت الرمز، كنت جميعنَا والقاسمَ المشترك، في كل الحِصارات لم تدخل بيوت أبي سفيان، كنت ابن ثابت لأنك كنت من البداية حتى النهاية. عاديت مسيلمة، ولم تتردد لأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة. على كل آلة موسيقية كنت النشيدَ والنغمَ، كنت النسمة والبسمة، كنت العطر والزنبق، كنت الندى، وكنت الضمير في كل منعطف، كنت الذاكرة والحاضر والرؤية. كنا نراك أجمل الناس لأننا نرى عمق البحر فيك وصفاء البئر في صحراء الظمأ. يا ابن خبزنا وزعترنا وأمنا والبرتقال لك الشموع تُضاء في يد أطفالنا الذين أشاروا لك بالبنان عندما رأوك واحتضنهم حنانُك عندما عانقوك، كبيرنا وصغيرنا علقوا صورتك في القلب قبل أن يروك، وحفروا محياك الجميل في الذاكرة بعد أن قابلوك. إن البسطاء حفظوا أبيات شِعرك بالتشكيل والعروض فكانت رؤيتُك فلسفتَهم. ستظل معنا يا محمود لأنك تركت لنا ما يجعلنا نقول لك إلى اللقاء وليس الوداع، لأنك أنت العشق والعاشق لنا، وأنت المعشوق فينا. لك الشموع تُضاء لأنك كنت الشمعدانَ فينا، لك دموع الوفاء، كيف لا؟ وفي كل مدينة وقرية ومخيم لك اسم ... الشوارع والمدارس ومراكز الثقافة وشهادات الميلاد، لك ملصقات الحائط، العَلَم، التقدم، فرقة الإنشاد، ومرسوم الحِداد. وكما قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا على فراقك يا محمود لمحزونون. أعذروني أيها الإخوة إن أطلت عليكم فإني أستبطئ رحيله إلى مثواه ويعز علينا فراقه فسلام على روحه حياً وشهيداً ومثواه الجنة، سلام عليكم وسلام لكم، وأحسن الله عزاءكم والشكر موصول لأمتينا العربية والإسلامية والأصدقاء في كل العالم الذين شاركونا مصابنا، وأخص بالذكر الشقيقة دولة الإمارات العربية التي بادرت إلى نقل الجثمان والشقيقة الأردن التي استقبلته وتفضلت بنقله في طريقه إلى أرض الوطن. وإنا لله وإنا إليه راجعون |