العزل هو المصل والوعي هو الكي
نشر بتاريخ: 05/04/2020 ( آخر تحديث: 05/04/2020 الساعة: 13:37 )
الكاتب: : د. حسين سليمان رداد
للتصدي ومنع انتشار وباء كورونا المستجد ( كوفيد 19) أوصت منظمة الصحة العالمية الحكومات والدول بضرورة التواصل المنظم والشفاف واطلاع الجمهور على احدث المستجدات والاشراك النشط للمجتمعات المحلية، ففي ظل حالة عدم اليقين ونقص المعلومة والثقة بمصدرها يتسلل الخوف الى الاوصال وتترعرع الهرطقات ويكثر التعاطي بالغيبيات والماورائيات والانغماس بالجدليات والايمان بفرضية المؤامرات، فتتزعزع الثقة بالذات وتتراجع المنعة والمناعات، وتصبح الاشاعة ام الروايات.
من الحكمة وعند مواجهة المشكلات والظواهر المفاجئة استدعاء خبرات وتجارب الاخرين؛ فكما كانت نصائح القائد العسكري الصيني صن تزو التي قدمها قبل ما يربو على الفي عام للملك الصيني عن فنون الحرب مصدر الهام وموجه في كسب المعارك، فأعطى فرصة كاملة للانتصار في الحروب لمن يمتلك المعرفة والادراك للقدرات الذاتية وقدرات الخصم، فكان المثال التطبيقي لهذه النصائح في تجربة الصين اثناء مقارعة هذا العدو الخفي، وأصبحت مثالا يحتذى به ونموذجا يدرس؛ فقد اعتمدت الاستراتيجية الصينية على فرضية: " ان كل شخص في الصين مصاب بهذا الفيروس، يجدر الحذر منه "، وتنفيذا لهذه الاستراتيجية فرضت الصين حجرا صحيا كاملا على اكثر من 56 مليون نسمة في مقاطعة هوبي بؤرة الوباء ، فنجاعة هذه الاجراءات دفعت منظمة الصحة العالمية الدعوة الى ضرورة استفادة كافة الدول من هذه التجربة، فالعزل كان كلمة السر في معرفة مكامن قوة الخصم.
احد اهم متطلبات إدارة معركة الوعي والتي تنبهت لها منظمة الصحة العالمية، كان الإجابة على ثلاثة أسئلة مهمة والتي كانت فيصلا في تحديد معالم هذا الوباء ( كوفيد 19 ): ادراك كيفية انتقاله ومدى شدة انتشاره وإجراءات السيطرة عليه؟ وهذه الإجابات هي التي صنعت الفارق بين الدول ، ففي الوقت الذي بدأت بعض الدول ذات التوجه الرأسمالي المصلحي - والتي تتبنى نظرية الفائض البشري- المفاضلة بين صحة وامن الانسان وبين الاقتصاد؛ فالجدل القائم على إحصاء عدد الضحايا المتوقعين وبين الخسائر المتوقعة والاثار والتداعيات الاقتصادية والسياسية التي سيخلفها هذا الفايروس حين يضع اوزاه الخطأ الاستراتيجي الذي وقع فيه بض الدول ، في حين اعتبرت دولا أخرى ان المعركة مع الفيروس هي حرب وجودية يمكن ان تأتي على كافة مقدراتها البشرية والمادية فرض عليها القاء كل ما لديها من إمكانيات في اتون هذه المعركة، فمقتضيات هذه الحرب تتطلب استشراف تلك الاثار إدراكا منها أن تكلفة التأهب هي اقل بكثير من تكلفة الاستجابة؛ ففي حالة ( كوفيد 19 ) قدرت منظمة الصحة العالمية أن تكلفة التأهب هي اقل من دولار للشخص الواحد سنويا وهو مبلغ اقل من 1% من التكاليف المقدرة للاستجابة.
استثارة واستدعاء الوعي هو الكي والخيار المتاح للدول ذات الاقتصاديات الضعيفة والهشة والسلاح الوقائي والريادي في معمعان المعركة ضد هذا الفيروس الخفي الذي يضرب بلا هوادة، فالسبق خطوة وشراء الزمن والسرعة في اكتشاف الحالات المصابة والمخالطة والتباعد الاجتماعي ( العزل ) هي عوامل محددة في هذه المعركة؛ وفي الجانب الاخر فانه وبسبب الاستكبار والاستهتار نجد ان الولايات المتحدة الامريكية تتصدر اليوم مشهد ضحايا هذا الوباء فقد قارب عدد المصابين ثلاث مائة الف وعدد الضحايا سبعة الاف، وبسبب التأخر في المعالجات فان عدد ضحايا المملكة المتحدة يربو عن ثلاثة الاف وست مائة ،وبسبب الإجراءات المتأخرة فان إيطاليا أصبحت بؤرة الوباء في القارة العجوز بأربعة عشر ة الف ضحية، وكأننا امام السيناريو الذي تنبأ به عالم الفيزياء ( مارتن ريس ) قبل اكثر من ثمانية عشرة عاما / عام 2003 حين تنبأ في كتابه ( ساعتنا الأخيرة ) ان نهاية العالم ستكون من القارة العجوز، وأن هناك خطأ بيولوجي ممكن ان يحدث عام 2020 بسبب تدخل بشري والذي من شأنه ان يقضي على أكثر من مليون شخص.
في فلسطين لم يتم الايغال كثيرا في جدلية التخليق المفتعل والخطأ البيولوجي؛ فقد سارعت الإدارة الواعية الى تبني نموذجا هجينا بين النموذج الصيني والنموذج الكوري الجنوبي، فقد اثنى مدير مكتب منظمة الصحة العالمية في فلسطين السيد (جيرالد روكنشوب) على سرعة الاستجابة لتوصيات منظمة الصحة العالمية وتبني الإجراءات الاستباقية والتي كان لها الأثر الكبير بابطاء انتشار هذا الوباء، وهذا يؤكد ان دور القيادة الحكيمة لم يقتصر على تحديد الاتجاه؛ بل ان توليفة الفريق المهني المكلف بإدارة الازمة بواجهتها الاعلام الحكومي الرسمي والذي اصبحت المصدر الأول والموثوق للمعلومة والطريقة اللبقة باستدعاء المصطلحات المناسبة والرموز الوطنية في مخاطبة الجماهير كانت مثار اعجاب وقبول شرائح واسعة في المجتمع الفلسطيني، فاصبح الايجاز اليومي الصباحي والمسائي هي الفقرة المفضلة والمنتظرة عند كثير من الناس، فأنصهر الكل الوطني في صورة جميلة عكست عراقة وثقافة شعب ضربت جذوره عميقا في التاريخ، فتوحدت الجهود الرسمية بالمجهودات الشعبية ، وتجيش كل الشعب ضد عدو لا يفرق بين الطبقات والجغرافيا والاجناس والحزبيات.
أصبحت نداءات الناطق الإعلامي باسم الحكومة الفلسطينية ( الدكتور إبراهيم ملحم ) حول العزل والوعي كلمات مفتاحية وشعارات متداولة بين المواطنين وخريطة طريق يهتدون بها في كافة التجمعات الفلسطينية، وسيسجل التاريخ كما سجل هزيمة نابليون عل اسوار عكا الفلسطينية ان الشعب الفلسطيني بكافة اطيافه رئيسا وحكومة وشعبا قد هزم وبائين تجيشا في ان واحد، وباء مستفحل ومستوطن في فلسطين منذ سبعة عقود جمع شتاته من كافة بقاع الأرض ( الاستعمار والاستيطان الصهيوني ) ووباء مهاجر من اقاصي الأرض ( كوفيد 19) ، وذلك بفضل استراتيجية الوعي والوحدة وسرعة الاستجابة.