هو النهر لم يتغير ، ولكن المياه تتغير
نشر بتاريخ: 13/04/2020 ( آخر تحديث: 13/04/2020 الساعة: 17:00 )
الكاتب: عوني المشني
لم تنجلي الأزمة بعد ، ربما نحن في ذروتها او قبل الذروة بقليل ، ولكن تداعيات الأزمة وانعكاساتها بدأت في الظهور ، لا يستطيع احد الوصول لاستنتاجات نهائية ، فالعالم في مرحلة تأهب ما بين مرحلتين كما هي الطائرة في مرحلة الإقلاع ، لا هي استقرت في الجو ولا هي انفصلت عن الارض ، لم يتجاوز العالم القيم والمنظومة التي حكمته ما قبل الوباء ولكن تلك القيمة والمنظومة لم نعد بالضبط صالحة لما بعد كورونا ، " لا غموض ولا وضوح " على رأي شاعرنا محمود درويش ، هناك شيئ كان يتغير وهناك تداعيات تلوح في الأفق ، ربما التداعيات تأتي على شكل أسئلة اكثر من تقرير نتائج ، أسئلة تحمل في طياتها إيماءات تحدد ملامح ضبابية للمستقبل .
هل تغير مفهوم القوة والضعف ؟؟؟ ما معنى دولة قوية ؟؟ دولة تمتلك الغواصات وحاملات الطائرات المركبات الفضائية وتعجز على توفير الكمامات واجهزة التنفس والبدلات الواقية هل هي دولة قوية ؟؟ دولة لديها قذائف صاروخية اكثر من أسرة المستشفيات ، دولة لديها رصاص اكثر من جرعات العلاج !!!! هل سنشهد انقلابًا جذريًا في تحديد معنى القوة والضعف ؟؟؟
سؤال من نوع اخر هل يشكل الانكفاء القومي حلًا للتعاطي مع تحديات الطبيعة ؟؟ تحديات الطبيعة لا تعترف بحدود ولا تميز بين الجنسيات والأجناس والقوميات والأديان ، هل يمكن بالانكفاء للداخل القومي او الكياني او الديني ان يشكل نقطة قوة في الوقوف امام تلك التحديات ؟؟؟ هل الأكثر نجاعة تشكيل جبهة عالمية عالية التنسيق ومتناغمة الخطوات وموزعة الأدوار لمواجهة الوباء ؟؟؟ الأسئلة متعددة وتصل الى حد اعادة المس بمنظومة العلاقات الدولية التي حكمت العالم طيلة القرن الماضي .
وفي مجال اخر يعقل ان يكلف انتاج فيلم سينمائي اكثر من بناء مستشفى ؟ وهل هناك ضرورة لإعادة التقييم لدور الأفراد في المجتمع عمل الطبيب او الباحث العلمي اكثر جدوى من ممثل او لاعب كرة قدم وهذا لا يتناسب لا مع الأجر ولا مع الاحترام لكل منهما ؟؟؟ ما هو اكثر أهمية نادي قمار او مختبر طبي بحثي ؟؟؟؟ قد لا يغير الوباء النظرة العالمية للاحتياجات وقيمتها واهميتها بشكل جذري ولكنه سيشكل وقفة للتفكير في هذه القضايا من جديد . كيف يمكن فهم ان دولة تمتلك قدائف اكثر من الكمامات او طائرات اكثر من اجهزة تنفس ؟؟!!! بمعنى ان اعادة تقييم الأشياء ودور الأفراد وضرورة توافرها حسب الحاجة الانسانية . ربما تلك نظرة مثالية نوعًا ما وتختلف جذريًا مع نظرية الرأسمال التي تحدد قيمة الأشياء من منطلق العرض والطلب او النظرية الماركسية التي تحدد قيمة الأشياء حسب كمية العمل المبذول فيها . كورونا كشفت بجلاء ان قيمة الكمامة اكبر بكثير من قيمة القذيفة الصاروخية وان جهاز التنفس اهم طائرة الشبح وان الطبيب اهم من مهرجي الأفلام ، وان خبراء الوبائيات اهم من عارضات الازياء . فالحياة اهم من ترف الاستهلاك الغير ضروري .
أسئلة من نوع اخر قد تشرع ، المعايير التي تقيم على اساسها الحكومات والأنظمة ، هل ستبقى الديمقراطية هي المعيار الأهم للنظر الى الحكومات ؟؟؟ وما قيمة نظام ديمقراطي لا يوفر متطلبات مواجهة التحديات التي تواجه الشعوب ؟؟ النظام الصيني ليس ديمقراطيا ولكنه تصدى للوباء بافضل مما فعلت نظم ديمقراطية عريقة !!!! الوباء أعاد بقوة دور الدولة لتدخل بقوة في تفاصيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية . هل هذا الوضع سيستمر وان كان بشكل اقل نسبيًا فيما بعد انتهاء الوباء ؟؟؟ أما ما يتعلق بالنظام الدولي فلا احد يتخيل ان ينتهي الصراع على الاستحواذ على الثروة والهيمنة فهذا ربما صاحب النظام الدولي وفي كل المراحل ، ولكن بالتأكيد فان الوباء سيترك تأثيرا على القوى المرشحة لتتقدم العالم في القيادة والهيمنة ، ستدخل عناصر جديدة لها علاقة بطريقة تعاطي الدول مع الوباء ، هيبة دول تتآكل ، دور بعض الدول العالمي سيتقلص نظرا لانكفائها القومي في التعاطي مع الوباء ، دول أخرى ستضاف لها عناصر قوة ، ولكن السؤال هل الوباء يشكل متغير تاريخي ينهي مرحلة تاريخية ويمهد لمرحلة جديدة كما هو الحال مثلا بالحرب العالمية الثانية ؟؟؟؟ لربما ان الوباء مقدمة لمتغيرات دراماتيكية توصل لحرب تشكل متغيرا استراتيجيا مثلا ؟؟؟ لا اجابات قطعية لهذه الأسئلة ليس لاننا نعيش مرحلة رمادية غير واضحة نهايتها بل ولان النهايات مفتوحة على اكثر من احتمال أيضا ، ولكن المؤكد ان الوباء قد وضع الكون امام أسئلة كهذه وليس من الترف الفكري الوقوف أمامها ، فعجلة المستقبل لا يمكن ان تتواصل بدون الاخذ في الاعتبارات المسارات التي فتحتها هذه المرحلة الحرجة . وحتى لو أشاح البعض وجهه وقال " دع الخلق للخالق " فان ما يحدث لن يترك احد وشأنه وان لم نكن ضحايا للوباء يجب ان نفكر حتى لا نصبح ضحايا للتطورات التي ستتبعه . الشيئ المؤكد اننا امام جائحة عصفت بكثير من المفاهيم ، وغيرت من الاهتمامات ، واعادت جدولة الأشياء والقضايا بطريقة مختلفة ، صحيح ان النهر لم يتغير ولكن المياه التي تجري فيه تغيرت .