|
حارس القدس" المطران كبوجي؛ أيقونة المقاومة بين تمثالين
نشر بتاريخ: 05/05/2020 ( آخر تحديث: 05/05/2020 الساعة: 21:27 )
الكاتب: المتوكل طه
أسعدنا المخرج باسل الخطيب بمسلسل "حارس القدس" الذي يتناول حياة المناضل المطران إيلاريون كبوجي، وسط هذا الغثاء التافه من المسلسلات والأعمال الدرامية الساقطة، ليكون هذا المسلسل شفاعةً للفن العربي الملتزم الذي ما زال يقظاً نافذاً وذا جدوى ويعوّل عليه. كبوجي؛ النجمة التي غمرت فلسطين ببريقها؛ رَبِحَ معركته حياً وميتاً. لم يكن قلبه حديقةً فارغةً ولم يعرض أحلامه للبيع، بل تعرّف إليها فأصبحت أيامه حافلةً بالحياة. أغلق عينيه.. لكنّ الكرة المائية ما فتئت تشهد على أخاديد الموت ودفن الحياة. رحل المطران بعد أن أثبت أن المسيح عليه السلام كان يخفق في داخله، لهذا كان ممَن اختارتهم الحرية ليدافعوا عنها. جعل عتمة السجن فحماً قرمزياً، مثلما أحال طقس القيود إلى غضب. كانت بوابات المعتقل خانقةً وثقيلةً لكنه ألهبها وجعل للفولاذ نشوة المنتصر. حطّ على أرض الكبرياء وهتف لسيدتنا الحرية! لقد كانت ومضةً إلهيةً بداخله. أطلق من قبضته النسور الغاضبة وكانت أصابعه خضراء، وظل زهرةً في منتصف الأشواك. وعلم أن سلعة الاحتلال شريرةٌ وكلمته تقود إلى جهنم.. لهذا لم يكن المطران صيداً جاهزاً، كما لم يكن رأسه مشوشاً، كان يعلم أن صندوق دولة الاحتلال مكسور. لقد شكّل كبوجي غنائيةً جامحةً في السجن وأراد للأرض أن تستعدّ للزفاف لا للنحيب، من هنا رأينا أن الغيوم كانت بحوره المعلّقة وصوته الشغب الأنيق الذي عكّر دم المعتقلين بالبرق. قاوم رياح الخراب.. ومجده بلا نهاية. كانت عيون النصر في الزنازين تشخص نحوه، وكان يسمع البحر ونداءات الأحرار ومن ارتوت حياتهم بالدماء. تحية نبويّة للمطران الرسولي الدمث كبوجي، الذي أفرغ رؤوسنا من العقارب وجعل أجيالاً كاملةً مثل الجياد تنفث النار حتى لا تتوه في الظلام. كانت خطوات كبوجي واسعةً كالرياح، وكانت الأرض تُقَبِّل قدميه، والقمر يبعث ظلّه على أردان ثوبه. وما زلنا نعيش هذه النغمة المُبَشِّرة التي جعلتنا ندرك أن فلسطين هي المكان الأخير الذي نهرب اليه. شكراً يا أبانا الذي كسر الجلجلة المزخرفة لموتنا، وشكراً لمَن حطّم أبواب الليل فصارت النجوم تتراقص تحت نعليه. إن مسلسل "حارس القدس" وبما تضمنه من حوارٍ عميقٍ جزلٍ وحاسمٍ ومنْتَمٍ يشكّل خطاباً يعيد الأمور إلى مربعها الأول، ويُوَضِّح النص السياسي الواجب اتّباعه حتى لا نضيع في لهو المفاوضات العبثية والسلام الجنائزي. إن سيرة المطران كبوجي هي مقطعٌ مُشْرِقٌ من المظلمة الفلسطينية التي لم تنكسر أمام استراتيجيات الاحتلال، بل قاومته. يقول المحامي الصديق علي رافع ابن حيفا الذي كان واحداً من المحامين الذين دافعوا عن كبوجي أثناء اعتقاله: "كان سيادة المطران يشكو من سوء المعاملة وأساليب التعذيب الساديّة.. وكيف كان يقيم في ممرٍ داخل السجن، وإن باب الممر فُتِحَ عليه وأُغْلِقَ في يومٍ واحدٍ 600 مرة". وتضيف ابنته الصديقة الإعلامية نضال رافع التي تجمع يوميّات والدها: "كان المطران يقف بشجاعةٍ ورباطة جأش أمام قضاة محكمة الاحتلال، وعبّر في مرافعته في المحكمة عن قناعته بما فعله من واجبٍ كرجل دين ومسؤول وأحد شخصيات القدس، إذ عليه أن يقاوم الاحتلال والظلم الواقع على الشعب الفلسطيني.. وكان المطران قد تأثَّرَ يوم رأى تفجير فندق الملك داهود في القدس عام 1946، حيث قامت عصابة شتيرن بقيادة المجرم شامير بتفجيره.. كان المطران قريباً من هذا الحدث الذي راح ضحيته أكثر من 90 شهيداً، وربما كان سيكون الشهيد 91 لولا رعاية الله. وكان المطران شاهداً على احتلال واستباحة مدينة القدس عام 1967 ورأى الشهداء مبعثرين بالعشرات في الشوارع". إن هذه المسيرة الحافلة لسيادة المطران ستنتج بالضرورة مناضلاً صلباً ينافح عن المعنى الأعمق للقضية الفلسطينية وهو الخلاص من الاحتلال وعودة اللاجئين وإقامة الدولة بعاصمتها القدس كلها. لهذا كان من الطبيعي أن يُجري الكاتب المميز حسن م يوسف على لسان المطران كل ما يؤصّل ويعمِّق انتماءنا لثوابتنا وحقوقنا غير القابلة للتصرف، ولهذا كان مشروعاً أن يرث أبونا كبوجي مفتاحَ بيت أم عطا مثلما كان مسوغاً وصحيحاً قوله لأم عطا: "إن دفاعك عن بيتك في القدس هو دفاع عن بيتي في حلب، فإن ضاعت فلسطين ضاعت كل العواصم العربية". إن هذا المسلسل يكشف الأساسات ويُعزّز قوتها.. تلك التي يجب أن نبني عليها ونقيم مشروعنا الوطنيّ التحرريّ، دون أن نتنازل عن ذرةٍ واحدةٍ من حقوقنا ومهما كانت الذرائع والمبررات. وبالمقابل ثمة مسلسلات أنتجتها أنظمة الشرّ الداهي بغريزتها العمياء، فكانت أعمالاً تأمرها أرواحٌ معتوهةٌ، وجنونٌ فَقَد صوابه، تسعى لإشاعة التفاهة والاستسلام والعدميّة القومية فينا، وتنشر ثقافة المسخ مكان ثقافة البقاء والمقاومة والمحافظة على كلّ ثابت. هذه المسلسلات التي تشبه الدُّمى الكاذبة تهتف للموت وتمجّد القاتل المُعاق وتغسل يديه من دمنا الطازج. إنها أعمالٌ تحفل بالديماغوجيا والبروبوغندا والدعاية الصهيونية التي تريد أن تحقق غير أمرٍ، أهمها: تريد أن تُظْهِر أن لليهود حقوقاً وتعويضاتٍ تماماً كما للاجئين الفلسطينيين حقوقٌ أساسها العودة والتعويض. كما تريد أن تحافظ على صورة الضحية التي يحتكرها اليهودي حتى تنفي اعتبار الفلسطيني ضحيةً للاحتلال.. والأخطر أن هذه المسلسلات التطبيعية المشبوهة تريد استبدال "إسرائيل" بعدوٍّ جديد، بمعنى تريد أن تجعل إسرائيل دولةً طبيعيةً في المنطقة وفي نفس الوقت تخلق عدواً جديداً من العرب والمسلمين للعرب والمسلمين. وباعتقادي فإن كبوجي ليس وحيداً، فثمة خنجرٌ في حزامِهِ، ومفتاح بيتٍ مقدسيٍّ في جيبه.. والبطّةُ لا تخاف من الماء. *** وأقول؛ ليس غريباً على أخي باسل الخطيب أن يجترح هذا العمل المميز، كيف لا وهو الذي قدّم العديد من الأعمال الإبداعية المقاوِمة والنوعية من مسلسل "أنا القدس وأيام الغضب وذي قار وهولاكو ورسائل الحب وأدهم الشرقاوي..إلخ" ولا أنسى يوم دعانا أنا والصديق يوسف المحمود في بيته بدمشق حيث أتحفتنا شريكة حياته الإعلامية والناقدة ورئيسة هيئة التلفزيون الفاضلة ديانا جبّور بمائدةٍ شاميّةٍ كريمةٍ، وكيف كان باسل يسأل ويبحث عن نصوصٍ تصلُحُ لأنْ تؤرِّخ أو تشحذ الأرواح، ولتكون رديفاً تتكامل معها مفاهيم المقاومة والرباط وحفظ الثوابت. إن باسل الخطيب الذي نشأ في بيت والدنا وكبيرنا ومعلمنا الشاعر يوسف الخطيب لقمين لأن تتخلّق على يديه هذه الأعمال التي ننحني لها عرفاناً وتقديراً، إذ إن الشاعر العروبي الجهوري يوسف الخطيب الذي أنشأ مؤسسة القدس الثقافية في دمشق هو الأرض الراسخة التي نهض عليها باسل وأخوته، وكيف أن هذا الشاعر كان يتلقّف كلَّ مَن يأتي من فلسطين إلى الشام.. حتى إنه كان يقول: أنتم أولادي. وأعترف هنا للشاعر الصديق مراد السوداني أمين عام الاتحاد العام للكُتّاب الفلسطينيين، بأنه كان وفياً كعادته لوالدنا يوسف الخطيب ولغيره من شعرائنا الكبار، الذين جمع أشعارهم وأعاد نشرها في فلسطين والخارج. وأشكر هنا فضائية الميادين التي تصدَّت بصدرها القوي الرحب وتبنّت هذا العمل الذي أنقذنا من الكآبة التي هبّت بسمومها من تلك الأعمال الدرامية المشبوهة والسخيفة. شكراً أبانا إيلاريون كبوجي يا كبش فلسطين الحيّ لأنك ما زلت النموذج الذي يتمثّله الجيل الطالع مثل السنابل في براري البلاد. وشكراً لمبدع المسلسل الكاتب الحصيف حسن يوسف. وكل العرفان لأخي باسل الخطيب الذي سننتظر منه الكثير.. الكثير. -2- مع المطران الغاضب في "جزيرة العار": كنتُ أتوقع أن القائد الفذّ ياسر عرفات، كعادته، يتحسّس الرموزَ الكبيرة، ويُشرِكها في أَمْر القضية، ويضعها على عَرْشِ التكريم والتقدير، لكنّي لم أحسب مدى حبّ هذا الزعيم وإجلاله اللامتناهي لسيادة المطران إيلاريون كبوجي. إذ كنا، في مطلع التسعينيات، وبعد مؤتمر مدريد، نحن كوادر الداخل الفلسطيني، وقد تم استدعاؤنا للتشاور في غير أمرٍ إلى تونس، حيث مقر رئيس منظمة التحرير الفلسطينية. وصدف أن عُقد اجتماعٌ في مبنى "يوغرتا" حيث مكتب أبي عمار، بحضور السيدة ريموندا الطويل المشرف العام على المكتب الفلسطيني (وكالة الانباء الفلسطينية في القدس)، والأخ إبراهيم قراعين، رئيس تحرير مجلة العودة المقدسية، حيث كنت أعمل فيهما منذ سنوات.. وخلال الاجتماع تلقّى أبو عمار مكالمةً، كان على الطرف الآخر سيادة المطران إيلاريون كبوجي، وقد تهلّل وجه الختيار، وهو يردد كلمات التوقير والمودة للمطران الاستثنائي، الذي أسهب في تعداد إنجازاته للقضية الفلسطينية ودوره في تغيير مواقف الغرب المسيحي وتأييد الفاتيكان لنا.. ووصفه ياسر عرفات بأيقونة القدس. وفور انتهاء الاجتماع كلّفنا أبو عمار بالسفر إلى السنغال، ضمن وفدٍ برئاسة المطران كبوجي، لوضع حَجر الأساس لـ"مدرسة القدس"، التي سيتم إقامتها في مدينة سانت لويس على نهر السنغال، بتمويل من م.ت.ف. وصلنا مطار دكّار ليلاً، ونزلنا في بيت ضيافة تابع للسيدة السنغالية الأولى، وهناك التقينا المطران لأول مرة. كان قد وصل قبلنا وتخفّف من ملابسه الرسمية، وفرد ذراعيه مُرَحِّباً بنا، كأنه يعرفنا منذ أعوام وقد اشتاق لنا! وجلسنا .. حيث راح يسأل بشغفٍ واهتمامٍ عن القدس وعن شوارعها وأزقتها وشرفاتها ومحلاتها وناسها وجدرانها وأسواقها وقناديلها وأعراسها وعن ليلة القدْر وعيد القيامة فيها .. وتدفّقَ الكلامُ حول زهرة الدنيا وأُمّ المدائن وأرض السماء، وكان يتلقّف الكلمات ويبني عليها أسئلةً توّاقةً لتلك المرابع التي قضى فيها أعوماً من شبابه وكهولته. وفي الصباح حملونا للقاء الرئيس عبدو ضيوف طويل القامة الهادئ المستمع الجيد الذي أبدى حفاوةً ملحوظةً بسيادة المطران. ولم نكد نجلس في مقر الرئاسة السنغالية حتى راح المطران بتقديم ردٍّ على كلمة الرئيس المختصرة، بلغةٍ فرنسيةٍ حذقةٍ، كان خلالها المطران يذكر فلسطين والقدس. ولم يُخْفِ الرئيس ضيوف إعجابَهُ بحديث المطران حيث بدا مأخوذاً ومستسلماً لكلمات المطران السلسة الدافئة.. وخصوصاً عندما فاجأه وراح كبوجي يقرأ قرآناً على مسامعه، مؤكّداً على وحدة المؤمنين وأخوّة المسلمين والنصارى (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ . صدق الله العظيم). واصطحبنا السيد مصطفى، ممثّل السنغال لدى منظمة التحرير، وهو مندوب الرئيس السنغالي، ومرافقنا في كل تنقلاتنا وزياراتنا.. وذهبنا بمعيّته الى غداءٍ رسميٍّ حضَرَهُ العديد من أركان الدولة ومُحِبّي فلسطين. وكان من الطبيعي أن يتصدر أبونا كبوجي الكلام ويأخذ بتلابيب المستمعين، واتضح أن هذا الإنسان معجونٌ من طين البلاد ويتنفّس بفلسطين التي تنبض في جنباته.. إذ أخذ كلّ شجون الكلام وساقه نحو القدس وأكنافها شارحاً لهم كل ما يدور فيها. كان قويّ الحجة ،عارفاً متابعاً ورائياً. وفي بيت الضيافة حيث نتحلّل من الرسميّات ونجلس قبالة سيادة المطران لنتلقّى غيثه العميم.. أذكر أنه سألني: هل تحفظ، أيها الشاعر قصيدةَ المتنبي في حلب؟ ورحت أقرأ : مَا لَنَا كُلُّنَا جَوٍ يا رَسُولُ أنَا أهْوَى وَقَلبُكَ المَتْبُولُ كُلّما عادَ مَن بَعَثْتُ إلَيْهَا غَارَ منّي وَخَانَ فِيمَا يَقُولُ أفْسَدَتْ بَيْنَنَا الأمَانَاتِ عَيْنَاهَا وَخَانَتْ قُلُوبَهُنّ العُقُولُ تَشتَكي ما اشتكَيتُ مِن ألمِ الشّوقِ إلَيها وَالشّوْقُ حَيثُ النُّحولُ وَإذا خامَرَ الهَوَى قلبَ صَبّ فَعَلَيْهِ لِكُلّ عَينٍ دَلِيلُ زَوِّدينَا من حُسنِ وَجْهِكِ ما دامَ فَحُسنُ الوُجوهِ حَالٌ تحُولُ وَصِلِينَا نَصِلْكِ في هَذِهِ الدّنيَا فإنّ المُقامَ فيها قليلُ صَحِبَتني على الفَلاةِ فَتَاةٌ عادَةُ اللّوْنِ عندَها التّبديلُ نَحنُ أدْرَى وَقد سألْنَا بِنَجْدٍ أطَوِيلٌ طَرِيقُنَا أمْ يَطُولُ وَكَثيرٌ مِنَ السّؤالِ اشتِيَاق وَكَثِيرٌ مِنْ رَدّهِ تَعْليلُ كان المطران قد ذهب مع القصيدة وحطّ في حلب وغاب عنّا.. كان كأنه يتمايل، ويردّد " الله.. الله" إعجاباً بأبيات المتنبي.. وقد خفّ كأنه منديلٌ في يد امرأةٍ ترقص أو تنوح! لا أقمنَا عَلى مَكانٍ وَإن طَابَ وَلا يُمكِنُ المكانَ الرّحيلُ ولمّا وصلت إلى قول المتنبي: كُلّمَا رَحّبَت بنا الرّوْضُ قلنَا حَلَب قصدُنَا وَأنْتِ السّبيلُ احمرَّ وجهه وكادت الدموع أن تطفر من عينيه اللامعتين، وطلب مني أن أعيد البيت ثلاث مرات، ثم أشار لأن أُكْمِل.. وعندما جئتُ إلى بيت: وَسِوى الرّومِ خَلفَ ظَهرِكَ رُومٌ فَعَلَى أيّ جَانِبَيْكَ تَمِيلُ وقف المطران، وقال؛ كأني بالمتنبي يشير بهذا البيت إلى أخي ياسر عرفات..! وفي اليوم التالي اصطحبنا السيد مصطفى، وهو رجلٌ يحفظ كتاب الله في صدره ويحمل رسالة الدكتوراه في الشريعة الإسلامية من جامعة الازهر الشريف ويتحدث العربية الفصحى بنكهةٍ مصريةٍ محبّبةٍ، اصطحبنا إلى غداءٍ على شاطئ المحيط، ودار حديثٌ عفويٌّ عرفنا من خلاله أن السيد مصطفى، على عادة كبراء الشيوخ في بلادهم، يقترن بأربع زوجات! فداعبه أبونا كبوجي، وسرعان ما تحوّل الحوار إلى نقاشٍ عميقٍ حول الزواج والرَهْبنَة في الإسلام والمسيحية، وانذهلنا من رحابة اطلاع أبونا كبوجي الذي كان يستظهر العديد من الآيات القرآنية التي حاجج بها محاوره، وقدّم مرافعةً صوفيةً لمعنى الرهبنة والزهد والذوبان في الخالق العظيم.. مثلما أبدى احترامه وإعجابه بموسوعية السيد مصطفى وشمولية موقفه. لقد أظهر الأب كبوجي معرفةً وثقافةً عاليةً، والأهم من ذلك أنه يجادل بقلبٍ مفتوحٍ وعقلٍ تحرّر من الكراهية والمواقف المسبقة، وضَرَب مثلاً لجوهر الانفتاح والتثاقف والقبول على قاعدة الاحترام الحاسم لكل عقيدةٍ ورأيٍ. ومع فجر اليوم التالي أخذونا إلى مدينة سانت لويس على نهر السنغال - تبعُدْ أكثر من ست ساعاتٍ بالمركبة عن العاصمة دكّار وتتميز بعمقها التاريخي وتنوعها الثقافي وتختلط فيها أصوات الموسيقى بأناشيد المتصوفين، حيث البيوت الحجرية البيضاء على ضفاف النهر كأنها حمائم أسطورية حطَّت لتنهل من هذا الياقوت الجاري، وكيف كانت السنغاليات بأياديهنّ اللامعة يغسلن على حوافي النهر ببساطةٍ وسلام - ثم أخذونا عصراً إلى الساحة التي وضع فيها أبونا كبوجي حَجر الأساس، وليعتلي بعدها المنصّة ليخطب في الجموع، لمناسبة إقامة هذه المدرسة، حيث ربط السنغال بفلسطين، وقدّم خطبةً عصماءَ استثارت المستمعين غير مرّةٍ بالتصفيق والتهليل! وعندما مررنا بقلب مدينة سانت لويس، شاهدنا تمثال الحاكم الفرنسي "فيدرب" المثبّت على قاعدةٍ من الرخام وينتصب وسط الساحة.. وكأني ما زلت أرى وجه أبينا كبوجي وقد أشاح نظَرَهُ عن تمثال الحاكم الفرنسي.. وكأنه يستنكر وجود أيَّ أثرٍ للاستعمار في هذه الأرض المعطاءة الساخنة. غير أنّي سألتُهُ عن سِرّ ذكرِهِ للشاعر سميح القاسم خلال خطبته باللغة الفرنسية ، ولم أتبيّن المعنى؟ فأوضح لي قائلاً: لقد جئنا لنقيم مدرسةً باسم القدس، فتذكّرتُ مَقطعاً للشاعر الجميل سميح القاسم يقول فيه: "سقراطُ هذا العصر يرفض كأسَه ويموتُ باسمٍ آخر في ساحةِ التعذيبِ، في المنفى، أو السجنِ الذي سيصيرُ يوماً مدرسة" ولا أنسى أنني حكيت لصديقي المرحوم الشاعر الكبير سميح القاسم تلك الحادثة، فابتهج واختلج وبكى في لحظةٍ واحدةٍ.. وقال لي: لا أريد بعد هذا شيئاً.. ولمّا أخذنا السيد مصطفى إلى جزيرة "غوري" أو "جزيرة العار" - وهي جزيرةٌ لا تبعد في المحيط كثيراً عن العاصمة دكّار وفيها كهفٌ حجريٌّ تهبط إليه بدرجاتٍ منحوتةٍ وثمة مقاعد حجرية فوقها حلقات سلاسل ما زالت صدئةً ومقطّعةً وعلى حالها، كان المستعمِر الأبيض يأتي بالأفارقة ويقيّدهم في هذه المغارة ثم ينقلهم بالسفن إلى الشمال الأوروبي، واسترعى انتباهنا نافذةٌ حجريةٌ كبيرةٌ تطل مباشرةً من الكهف على الأمواج - وكان المترجم يقول: "كان الأوروبيون يقذفون بالأسرى العبيد إلى تماسيح المحيط وأسماك القِرش، وخاصةً المرضى منهم أو مَن يُبدي اعتراضاً أو مقاومةً...". وقد شكَّلَت الجزيرة من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر أكبر محطةٍ لتجارة العبيد وشهِدَت أبشع عمليات التعذيب والاحتجاز. وقد كانت آخر نقطةٍ أفريقيةٍ قبل نقل عبيد غرب إفريقيا نحو أوروبا والأمريكيتين، وبمجرد الوصول إلى حي دار العبيد يستوقفك تمثالٌ يبدو أن نصْبَهُ لم يكن اعتباطياً فهو يحكي في صمتٍ للسياح القصة من البداية إلى النهاية. يجمع التمثال رجلاً وامرأةً أسوَدَين ليحيلك المشهد على أن تجارة الرِّقّ لم تُفَرِّق وقتها بين النساء والرجال، ويقف الرجل بيديه المرتفعتين وقد تمكّن من كسر قيوده في إشارةٍ إلى أن شدة الإهانة وقسوة التعذيب دفعت بالكثير من الأسرى إلى الانتفاض من أجل التحرر. لقد وقف المطران أمام التمثال وانحنى إكراماً لأولئك الذين يُحَطّمون السلاسل ويهتفون للحريّة. ولعل الجزيرة تعتبر مكاناً لحفظ الذاكرة قصد إطلاع الأجيال الحالية على المجازر التي ارتكبها البيض ضد سكان أفريقيا. وانتبهت إلى السيد كبوجي كيف كان يُغمغم بكلامٍ غاضبٍ، ويضرب بمنسأته الأرضَ، كأنه يوقظها، ويحتجّ ويستنكر هذه الفظاعات الساديّة التي طالت بني الإنسان، وظلّ أبونا سحابةً ذلك اليوم واجماً غاضباً حتى أنه لم يتناول طعامه تلك الليلة ولم ينبس ببنت شفة. وفي اليوم قبل الأخير من زيارتنا للسنغال استيقَظنا فلم نجد أبانا على طاولة الإفطار.. وفي المساء وجدناه وقد قدّم لكل واحدٍ منا هديةً هي أقرب إلى العَقد أو السّبحة بحجارتها الخضراء .. وقال بصوته الأليف العميق المُحِبّ: إن حبّات هذا العقد تشبه حبّات زيتون القدس. وأظن أن سيدةً مقدسيةً ما فتئت تتقلّد عقد المطران وتتحسس ألوانه ! |