***
وأخيراً ، حصل صديقي وأستاذي الدكتور إبراهيم السعافين على" تصريح زيارة " إلى "مناطق" السلطة الوطنية . فرح حتى اختلطت مشاعره، وحضرت قصص أبية وأُمّه عن الفالوجة و"مقام سيدي أحمد" و" الضبع الأسود" و" سوق الخميس" و"أمّ النعاج" .. وأمضى ليلة سفره إلى فلسطين قلقاً ، استعصى عليه النوم ، وجاءت اليقظة كاملة ناشطة . لعله غضّ الطرف عن "لغة" التصريح التي كانت بالعبرية الفصحى ، غير أن التواريخ كانت بالعربية البائدة ، أو بالإنجليزية الحديثة الرشيدة !
وصل إلى الجسر ، ودخل رام الله !! تجمّدت أحاسيسة كالتمثال الهش أو عرائس الجليد . وفي نهاية السهرة الأولى ، عادت إليه حرارة الوعي ، فبكى حتى رأيته وكأنه طفل ضاع من يد والده .. وتاه.
في بهو فندق رام الله الصغير ، وجدته صباح اليوم التالي في كامل زينته وأناقته ، وبادرني بالقول : إلى أين سنذهب .. طبعاً إلى الفالوجة ، ها؟! قلت : اليوم الجمعة ، وسنذهب إلى حيفا وعكا والرامة لزيارة سميح القاسم ، فقد اتفقت معه ليلة أمس على ذلك ، فثمة دعوة على الغداء على شاطئ عكا .
ركبنا السيارة، وخلال ثلاث ساعات طوال الطريق كان "مجمّداً "، وحاداً في كلماته القليلة التي تنطلق من فمه كالشهب الصغيرة الحارقة ، لم يكن مصدّقاً لما يرى ، ولم يستوعب ما سمع وما لمس وشاهد !
وصلنا إلى حيفا ، من " وادي النسناس " الذي تتوِّجه " قبّةُ البهائيين " ودرجها الأخضر المعجز إلى " الحلّيصة " "فالميناء " ، وقصدنا عكا مروراً ب " كريات آتا " و "موتسكين " و " كريات بيالك ".
- هل تعرف من هو بيالك ؟
- لم يجب .. كان شارداً .
- قلت: بيالك شاعر صهيوني كبير ، أطلقوا اسمه على أكبر شوارع مدنهم الجديدة ، وهاهم يقيمون مدينة تخليداً له ! فردد فوراً : وشعراؤنا يموتون في المنفى !
.. في عكا، دخلنا جامع الجزار ، وبعد صلاة الجمعة ، ذهبنا بصحبة بعض الأصدقاء لتناول السمك قبالة الأسوار .. التي قهرت نابليون ذات يوم .
وليتنا لم نذهب ، لقد حول الساعتين ، ولحظات الجلسة الخرافية الرائعة إلى مناحة كربلائية .. على عكا وأهل عكا .
وأخيراً ، وصلنا إلى الرامة التي تحمل في يمينها البحر الأبيض ، وفي يسارها بحيرة طبرية ، التي لها بطن الغزال ..لنجد في بيت سميح الشاعر الكبير محمود درويش وعددا من مبدعي فلسطين 1948.. ولتجتمع دهشة محمود درويش الذي لم يزر رامة سميح القاسم منذ أربعين عاماً ، مع دهشة إبراهيم السعافين الذي يدخل الرامة وشمال فلسطين للمرة الأولى .. فالتغيّرات و"الهضم الجغرافي " هائل ولا يمكن تخيّله .
وفي بيت سميح القاسم ، هناك على تلة "جبل حيدر" الذي يشرف على البحر والجليل والبحيرة ، قال القاسم : تعالوا معي ، أريكم الغرفة التي بنيتها لمحمود منذ ثلاثين عاماً ليقيم فيها ، وأسميتها شقّة محمود، وأضاف مشيراً إلى محمود : انتظرتك طويلاً هذه الغرفة يا صديقي !
كان المشهد مشحوناً ومحتقناً بالمشاعر والعاطفة التي لا توصف عندما أشار سميح القاسم من نافذة بيته الغربية إلى تلة قريبة مزدحمة بالخضرة ، عالية ومشرفة ، ثم قال : هناك سأدفن ، هناك سيكون قبري .. وسأظل مشرفاً على البحر من جهة اليمين ، والبحيرة من جهة اليسار .
في اليوم الثالث ، ذهبنا إلى الخليل في طريقنا إلى الفالوجة ، كان يريد أن يرى مسقط رأسه ، بعد واحدة وخمسين سنة من الغياب والهجر ، وكنت أدعو الله تعالى أن نمرّ دون أن يوقفنا جنودُ الحاجز ويسألون عن أوراقنا ! ، لأن تصريح إبراهيم السعافين لا يمكنه من الوصول إلى الفالوجة ، فتصريحة يسمح له فقط بدخول "مناطق" السلطة الفلسطينية وليس دخول "أرض إسرائيل" ! وهكذا واجهنا ، للأسف ، حاجز إسرائيلي أوقفنا ودقّق في وثائقنا .. ومنعنا من رؤية الفالوجة .. لتظلّ حتى هذه اللحظة مكاناً متخيّلاً ، يكبر ويصغر ، يبتعد ويختفي ويظهر ، حسب أحوال الروح .
عدنا إلى مدينة الخليل لنصلّي في الحرم الإبراهيمي الشريف ، حيث ، إلى هناك ، حمله والده قبل ثمانية وخمسين عاماً ، ليسميّه باسم النبي العظيم إبراهيم أبي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
عدنا إلى مدينة الخليل لنصلّي في الحرم الابراهيمي ، شاهدنا عشرات المستوطنين ، بتلك القامات النحيلة ، والبنادق الثقيلة ، واللحى الطويلة ، والعيون الممتلئة حقداً وشراً وشراسة ، فمنعونا من الدخول للصلاة ، ناقشناهم قليلاً ، فإذا بفوهات البنادق تنتصب ، ولهجة الكلام تشتد .. ولم ندخل ولم نصلِّ، وعاد صديقي بخيبة أمل شعرتها على أطراف أصابعة .
في طريق العودة إلى رام الله ، كانت المستوطنات المزروعة على أكتاف الجبال والهضاب المحيطة بالطريق تترك أثراً عميقاً ومؤلماً في القلب .
لا شك أننا فكّرنا معاً، عبر صمتنا ذاك ، بغرفة محمود درويش في بيت سميح القاسم ! تلك الغرفة التي تبدو أكثر اتساعاً وعمقاً من كلّ هذا .
***
ويا صديقي سميح !
لماذا تحثّ الخُطى نحو قبرك؟
ما زلتَ في ريعان البراكين..
أقْصِرْ!
فإنّ الذي قد تجرّأ، في رامةِ اللهِ،
لم يتجرّأ، زماناً، عليكْ!
فكيف إذا غبتَ.. آتي سعيداً
وأمشي سريعاً إلى ساعديكْ؟
وكيف سأُنهي النقاشَ الأخيرَ
وكلُّ الشعوب التي هتكوها
أراها تُغنّي على شفتيكْ،
ونارُ الحريق المخيف المُدوّي
يحاول ماءً جرى في يديكْ؟
***
وماذا سأقرأ قبل السلامِ
على سيّدِ الحَرْفِ والعائلة؟
وماذا أقصُّ على إخوتي..
ما رأيتُ!
ولمّا تُعبِّرُ لي رؤيتي الذاهلة..
لقد تركوا لي متاعَ الكلامِ
وراحوا جميعاً إلى الحافلة!
وهذا الذي جاء يبكي عليكَ
تزوّج سِرّاً من القاتِلة،
يقولُ: لعكّا حملتُ الورودَ
وقبَّلتُ أسوارَها الماثلة!
نعم!
قَبّلَ السُورَ فيكَ يهوذا..
وباع النبيَّ إلى القافلة.
***
وكيف تلوم رحيليَ! أقْصِرْ
فقد وصلت أحرُفي الزّاجِلة،
وأتمَمْتُ ما بَلَّغَ الوحيُ فعلاً
وفَرْضَاً تكاملَ بالنافِلة..
وموتي مجازٌ وعمري اعتزازٌ
وما ارتجفتْ أضلعي الناحلة
***
أطلتُ البقاءَ.. وكان لهم
أن يُسكِتوا الطفل في القاطرة
وأن يذبحوا نوستراداموسَ حيّاً
ويرموا بأعظُمهِ الناخرة
وأن يفرموا برتقالي الحزينَ
بسكِّينةِ المذبحِ الفاجِرة
وأن يخلعوا الأرضَ من جذرها
ويلقوا بيافا إلى الهاجرة..
ولكنَّهم خسروا ما أرادوا
وظلَّت لنا القدسُ والناصرة
وغزةُ تصعدُ حدَّ البلوغِ
إلى كشْفِ سِدْرَتِها الساحرة!
وما احتشد القلبُ يوماً وناءَ
وثارت مراجِلهُ الساخرة
إلى أن رأيتُ الخرابَ العميمَ
ببغدادَ والشامِ والساهرة
وكيف شظايا الركامِ الدمارِ
هي الآنَ صورتُنا الخاسرة
***
غداً تلتقي صُحبةَ الشِّعر في
برزخ الرّحلةِ السابلة؛
معينَ ودرويشَ والناصريَّ
وأيامَ غرْفَتِكَ الآهِلة..
ويكفيك أنّكَ لم تتحوَل
ولم تتبدّل..
وأبقيتَ في بيتك الرّاحلة..
***
وما قتلوكَ وما صلبوكَ
وتبقى المواليد والقابلة..
***
وماذا يخبّئُ سقراطُ في الكأس؟
خمراً تعتّقَ أم بعضَ زيتٍ
أم السّمَّ للجُرعةِ العاجلة؟
سنكسرُ بلّورَ نابِ الهلاكِ
ونُعلي بِصحَّةِ شِعركَ راحاً
تحرِّقُ رَشْفَ فَمِ النادِلة..
***
تواضعتَ حتى أتتكَ الطيورُ
وحطّت طويلاً على كتفيكْ.
بسيطاً تجيءُ مع البسطاء
ونعلُ التشاوُفِ في قدميكْ.
وتبكي كطفلٍ أضاعَ الجهاتِ
إذا نَهْنَه الطفلُ في مسمعيكْ.
ونجلسُ في حضرة الليل جَمْعاً
فتحنو الأبوّةُ في راحتيكْ.
وتحكي فتمطر غاباتُ حيفا
دماً يستفيقُ على وجنتيكْ.
وتضحك فيكَ رعودُ الربيع
فيصحو الصباحُ.. ويأتي إليك
ويصحو الصباحُ
ويأتي إليكْ.
ويأتي إليكْ. ويأتي إليكْ. ويأتي إليكْ..