نشر بتاريخ: 16/08/2020 ( آخر تحديث: 16/08/2020 الساعة: 19:15 )
د. جهاد حمد: استاذ علم الاجتماع السياسي، جامعة وسترن اونتاريو، الاستشاري، رئيس المعهد الكندي لدراسات الشرق الاوسط، كندا
لا يستغرب الانسان مما يحصل في المشهد العربي بخصوص القضية الفلسطينية، قضية الصراع ببن الحق والباطل، قضية اهل البلاد الاصليون، أصحاب الارض منذ آالاف السنين، القضية العادلة، الأقدم في عصرنا الحديث.
في هذا العجالة السريعة اردت ان اتطرق لجملة من القضايا فيما يخص المشهد الفلسطيني وما آلت اليه الامور في العلاقات الدولية مع النظام العربي والفلسطينين وهذا من اجل وضع الامور في نصابها وتسميتها باسمائها.
وبدايةً أريد ان أقولها وبكل صراحة بان كل التجارب أظهرت للفلسطينيين، "آنه من الصعب لغير الفلسطيني أن يكون فلسطينياً أكثر من الفلسطيني نفسه".
دعنا نعود قليلاً الى الوراء لنتذكر ولنؤكد للقاصي والداني: إن الفلسطينين هم أهل البلاد الأصليين وأصحاب الأرض وهذا منذ آلاف السنين ومهما تغيرت الاحوال في السياسة والاقتصاد والاجتماع، فهذه حقيقة لا تقبل الجدل.
ومع ذلك اريد ان اوضح قضية مهمة وهي انه ومنذ بداية القرن العشرين نجحت الحركة الصهيونية بدعم من النظام الدولي في فرض فكرة إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين.
الا ان العالم العربي منذ البديات وهو منقسم على ذاته كما في الكثير من القضايا وهذا لاسباب عديدة، منها طبيعة تطور شخصية النظام العربي وتاثيراته على شعوبه، والتي سادها التخلف والتبعية والرجعية والخيانة والتآمر الداخلي والخارجي بين الاشقاء ومع الجيران، فهذا هو حقيقة النظام العربي الذي هو ايضا نتاج لطبيعة تطور مجتمعاته التي يسيطر عليها بالمال والسلاح والقمع والترهيب والتخويف.
وبالجانب الاخر ، مدى تفاعل و تاثير هذه التطورات الحاصلة بالنظام العربي ومجتمعاته المغلوب على امرها على الحركة الوطنية الفلسطينية والتي ايضا انقسمت على نفسها لتؤسس مرحلة جديدة بداياتها كانت تسودها تحييد وتجنب لهذه التناقضات الداخلية من اجل التركيز على التناقض الرئيسي مع العدو والمستعمر، و بالتالي الاستمرار في النضال نحو الحرية والاستقلال. وقد استمر هذا الى فترات حتى نهاية التسعينات، الا انه بعد التسعينات بدات تظهر مرحلة جديدة سادتها المصالح الحزبية والفئوية ومن ثم حدوث حالة الانقسام والتشتت وعدم وجود رؤية جماعية مشتركة لحل القضية الفلسطينية، وبقي الصراع والتجاذب والتنافر على المصالح هو سيد الموقف، فتارة تجد من يقف ويساند ويدعم ويحرض ويؤثر ويتفاعل ويحتضن القضية الفلسطينية، وتارة اخرى ينقلب عليها ويصبح في الطرف الاخر من المعادلة...هذا هو الحال منذ اكثر من قرنين والعرب والفلسطينون منقسمون على حالهم.
بدايةً، انه منذ فكرة تقسيم فلسطين إلى دولتين مع اتحاد اقتصادي بينهما وبنظام دولي خاص بالقدس. ومرورا بقبول النظام الدولي الرسمي بإعلان قيام "إسرائيل" على أساس قرار التقسيم، واحتلال ما تبقى من فلسطين التاريخية في ٦٧ وضم الاراضي الفلسطينية، ووصولا للدخول في نفق الحل السياسي السلمي، متوجة ذلك بالاتفاقية الفاشلة، معاهدة "أوسلو للسلام"، التي شرعت الاحتلال واعطته الذرائع في تدمير الكيان الفلسطيني، واقتلاعه من أراضيه وبيوته، ومجتمعاته المحلية، وحرمانه من حقه في تقرير مصيره و استقلاله الوطني في دولته الطبيعية.
لقد قامت ومارست "إسرائيل" من خلال هذه الاتفاقيات السياسية عملية ممنهجة في استعمار الأرض فيما يمكن تسميته "الاستعمار الاستيطاني" مستخدمة نفس الأساليب والطرق والتكتيكات التي استخدمتها على أرض فلسطين منذ بدايات الصراع، مستخدمة استراتيجيات متنوعة وعلى رأسها "استراتيجية استغلال واستخدام الوقت" وبالتالي فرض حقائق جديدة على ارض الواقع لصالحها.
وبعد ذلك جاء مؤتمر مدريد للسلام الذي توج في اتفاق أوسلو بين م.ت.ف وحكومة إسرائيل والذي اعتمد أساسا فكرة الحكم الذاتي المؤقت والتفاوض على الحل النهائي بين الجانبين، وإن كانت اسرائيل ومنذ بداية الحل السياسي تحاول وحاولت ومازلت إيجاد حلول وفق رؤيتها وفهمها للصراع، تحت قاعدة حل "للسكان الفلسطينيين"على شكل كيان مبعثر، وفي تجمعات بدلا من مجتمع واحد متواصل، وكانت ترى انه كما يريد ويحب الفلسطينيين ان يسموه دولة، ولكن دوما وفق مبدا: "إذا قاموا بتنفيذ شروطها الاضافية التعجيزية".
وفي نفس الوقت تعمل على شرعنة المستعمرات الإسرائيلية وتقر بإمكانية ضم إسرائيل لنحو 30% من مساحة الضفة الغربية/الفلسطينية.
وهنا اقول بانه للاسف على "القيادة الفلسطينية" بكل اطيافها وتحديدا جماعة اوسلو ان تتحمل الجزء الاكبر عما يحدث الان، ويجب ان تكاشف نفسها اولا، وشعبها ثانيا،
لانه من أكبر أخطاء الحركة الوطنية الفلسطينية منذ اتفاقية اوسلو وما بعدها وخلال فترة وجود السلطة هو القبول بفكرة أن التسوية السياسية تحقق وتوصل الشعب الفلسطيني الى الدولة، وكأن المحتل والغاصب الذي يمنح الشعب الفلسطيني هذه الدولة. وفي نفس الوقت هذا النهج يناقض كل شيء: التاريخ والحقائق والقانون والموقف السياسي الصحيح. الا انه مازال هناك جزء من توجهات الرسميين الفلسطينيين الذي يرون ضرورة العمل من أجل إقامة الدولة الفلسطينية من خلال عملية التفاوض السياسي مع "إسرائيل".
ولكن، كما اتضح منذ الخطوات الاولى لاتفاقية السلام السياسية مع "إسرائيل" بان اوسلو ومن وقع عليها كانت تخدم مصالحها بكل النواحي، فأوسلو التي شرعت الاحتلال كدولة التي وُقِع معها كل اتفاقيات الهزيمة، و هي التي ألغت ميثاق منظمه التحرير، والتي اصبح يناديها الطرف الاخر بدل من الكيان الصهيوني المحتل الى "دولة اسرئيل"، وشرعيتها وحقها بالوجود، فقد استفادت اسرائيل من الاتفاقيات من اجل خدمة مصالحها، واستطاعت ان تستثمرها جيدا لصالح مشروعها الاستيطاني التوسعي.
الا انه يتبادل السؤال التالي: كيف لجماعة اوسلو ان تنتقد سلوكيات الاخرين وهي التي نفذت وشاركت في الاعتراف ومن ثم تشريع الاحتلال، فلن يكون الاخرين اي كانت ملتهم او عرقهم او ديانتهم او ثقافتهم: "فلسطينين اكثر من الفلسطينين انفسهم"، وهنا لا يحق لجماعة اوسلو انتقاد ورفض ما يقوم به الاخر من تنازل وتطبيع وهرولة بما قامت به جماعة اوسلو، لانه " فاقد الشيء لا يعطيه".الا ان هذه السلوكيات التطبيعية اسقطت القناع عن وجوه من كان يدعي انه يدعم الفلسطينيون وقضيتهم العادلة. نعم، لقد سقط القناع.
وفي الاتجاه الاخر، ان هذه الخطوات المتسارعة جاءت في هذه المرحلة من اجل خدمة مصالح الرئيس الامريكي دونالد ترامب في معركته الانتخابية الرئاسية في الخريف القادم، كما انها ايضا من اجل خدمة بينيامين نتنياهو وتحسين أوراقه الائتلافية والانتخابية في حال قرر خوض غمار انتخاباتٍ برلمانية مبكرة. ومن هنا فقد أحسن الطرفان استخدام هذه الورقة التي يعرفان قدرها، في الساعات الأخيرة والحاسمة في مسيرتهما السياسية، إذ عندهما ما يربحانه، ولكن بالضرورة ليس عندهما ما يخسرانه، سواء كان بالوعود او النوايا.
رغم انه يجب علينا ان نفرق بين القيادة السياسية الفلسطينية والشعب الفلسطيني الاعزل الذي عانى ومازال يعاني الصعب. ولكن يجب ان لا نقلل أبداً من خطورة هذه الحراك الذي ادى الى هذه الاتفاقية، فهي انقلابٌ واضح على القضية الفلسطينية، وإضرارٌ خطير وبالغٌ بمصالح الشعب الفلسطيني، وتخلي بكل صراحة وجرإة سياسية رسمية صريحة عنه وعن نضاله الوطني، في الوقت الذي لا نقلل فيه من خطورة الاتفاقيات العربية السابقة، كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو، فهي كلها اتفاقياتٌ لا تخدم الفلسطينين وقضيتهم العادلة، بل هي خادمة للطرف الاسرائيلي ومصالح الولايات المتحدة الامريكية وحلفاؤهم بمنطقة الشرق الأوسط. وبالتالي فهي كما غيرها لا تخدم الشعب الفلسطيني ولا تصب في صالحه، ولا تحقق أهدافه ولا تجعلها قريبة أو ممكنة، حتى من الحلول السياسيةالتي كانت مطروحة في الاتفاقيات السياسيةالسلميةالسابقة، بل هي تخدم وبالاساس الكيان الصهيوني الغاصب وحلفاؤه بالمنطقة، وتساهم في تحقيق أحلامه وفرض أوهامه وتكريس أطماعه باسرائيل الكبرى من "نهر النيل الى نهر الفرات" .
ولعل الكيان الصهيوني الغاصب وحلفاؤه بالمنطقة، يدرك تماماً أكثر من غيره، أنه لا سلام إلا إذا أقر الفلسطينيون به ورضوا عنه، ولا استقرار أو هدوء إلا إذا استعاد الفلسطينيون حقوقهم في الحرية والاستقلال والدولة.
واخيرا اقولها بصراحة:
أيها الفلسطينيون في كل مكان احذروا تزوير التاريخ. أيها الفلسطينيون في كل مكان إياكم وتصديق كتبة الحاكم والسلطان. أيها الفلسطينيون في كل مكان احذروا أولئك الذين يخفون الحقائق، المضللين، المزورين. أيها الفلسطينيون، لن تجدي كل الاتفاقيات، ولن تحقق لا "أوسلو" ولا أمثالها ، ومن لف لفيفها والتف حولها او ما سياتي لاحقا من شيء سوى العار والمزيد من الخداع واستخدام الوقت للنهب والاستغلال والتراجع والكذب والتضليل وشرعنة الاستيطان وإطلاق عنان الاحتلال للمزيد في تنفيذ مشاريعه. أيها الفلسطينيون في كل مكان، إحذروا كتبة التاريخ الرسمي، فهم أخطر من الجهلة والحمقى. إنهم السارقون الحقيقيون، لن ترحمكم الأجيال، فهم قادمون، قادمون.
وللحديث بقية.