|
جدلية العلاقة بين المقاومة الجماهيرية والمقاومة المسلحة في تاريخ النضال الإنساني
نشر بتاريخ: 21/08/2020 ( آخر تحديث: 21/08/2020 الساعة: 18:48 )
إن الخوض في جدلية خيارات النضال الجماهيري اللاعنفي والمقاومة المسلحة وعلاقتهما بتاريخ النضال الإنساني يدخلنا في دائرة غير متناهية من الآراء والأفكار التي قد تتفق أحيانا وتتعارض أحيانا أخرى، ويمكن القول أن هذين النوعين من النضال قد لعبا دورا بارزا في تشكيل الحدود الجغرافية والأنظمة السياسية والاجتماعية في هذا العالم، وبالتالي فان القول بأن السيف وحده هو الذي يصنع التاريخ خطأ في الرأي وهو شبيه بالرأي الذي يرى بأن اللاعنف هو الأسلوب الوحيد القادر على تغيير الواقع الإنساني. إن اللجوء إلى خيار العمل المسلح أو خيار العمل الجماهيري كان وسيبقى عملية ديناميكية ترتبط في جوهرها بالظروف الموضوعية المحيطة بالصراع، وكذلك بطبيعة موازين القوى القائم بين طرفي الصراع، مما يشير إلى أن العوامل التي تقود حركة تحرر أو تغيير اجتماعي إلى اللجوء إلى اللاعنف أو العمل المسلح لتحقيق أهدافها مسألة لا تخضع لرغبات قادة هذه الحركات والتنظيمات وإنما ضرورة وطنية تنطلق من تحليل عميق لنقاط القوة والضعف عند طرفي الصراع. وهنا يجب التأكيد على ان الثابت الوحيد هو المقاومة اما اشكالها فهي متغيرة وقد تشهد حالات مد وجزر تمليها طبيعة التحالفات والمتغيرات السياسية والميدانية. فبالرغم من تبني الكثير من حركات التحرر الوطني أسلوب الكفاح المسلح إلا أن خيار المقاومة اللاعنفية استمر قائما كما حدث في الثورة الجزائرية والثورة الفلسطينية، وبالمقابل فإن تبني أسلوب المقاومة اللاعنفية في الهند لم يجعل خيار اللجوء إلى العنف مغيبا كليا عن رؤية المقاومة الهندية، وقد أشار غاندي إلى إمكانية هذا الخيار بقوله " إن اللاعنف هو عقيدتي ولم يكن الأمر كذلك بالنسبة لحزب المؤتمر، فبالنسبة للمؤتمر كان اللاعنف سياسة، والسياسة تؤخذ بالعقيدة طالما هي مستمرة لا أكثر وللمؤتمر الحق في تغييرها إذا ما رأى ذلك ضروريا، أما العقيدة فلا يمكن أن تقبل بتغيير ". وهذا ما يؤكده عدد من الكتاب الذين يروا ان الدمج الخلاق بين اللاعنف والعمل المسلح قاد العديد من حركات التحرر الى تحقيق أهدافها في التغيير، فحركة نضال السود في أمريكا كما يراها خالد القشطيني كانت نتاج لعملية مزج بين هذين الشكلين من النضال قادت في نهايتها إلى تحرير الزنوج من القيود المفروضة عليهم. بمعنى أن الأشكال العسكرية لا يجب أن توضع في تناقض مع الأشكال غير العسكرية من العمل النضالي كالإضرابات والمظاهرات الجماهيرية. على النقيض من ذلك نجد أن محاولة إيجاد صيغة من المزاوجة بين المقاومة المسلحة العنيفة وبين المقاومة الجماهيرية اللاعنفية قد أثارت الكثير من النقد والرفض من قبل العديد من دعاة اللاعنف، فمثلا يرى جين شارب أن أكبر تحدي وخطر يمكن أن يواجه المقاومة اللاعنفية هو استخدام وسائل عنيفه، حيث أن استخدام العنف يعطي الفرصة للخصم من أجل استخدام القوة والقمع وهي وسائل يتمتعون بالتفوق فيها. وتبقى جدلية خيارات الكفاح المسلح وخيارات المقاومة الجماهيرية قائمة في كل الأزمان والمجتمعات كونهما أسلوبان نضاليان لكل منهما أساليبه ومناهجه. وفي إطار معالجته لجدلية هذه العلاقة يرى حنفي أن " الكفاح المسلح والمقاومة الجماهيرية يرتبطان معا بجدلية داخلية محددة: قانون التضاد، فإذا ازداد الأول انخفض الثاني والعكس صحيح ومن الواضخ أنهما سيظلان موجودين دائما وباستمرار وذلك لأنهما يمثلان الأطروحة والأطروحة المضادة ". ففي الوقت الذي يرى أنصار الكفاح المسلح أنه هو الأسلوب الأسرع والأكثر جدوى وقدرة على مواجهة الديكتاتوريات وأنظمة الحكم التي لا تؤمن بالقيم الإنسانية والديمقراطية ولا تعرف سوى لغة القتل والدماء والتخريب، نرى أن دعاة اللاعنف يرفضون استخدام الأساليب العنيفة في الصراع ويدعون إلى التمسك بخيار اللاعنف كوسيلة إستراتيجية في التغيير، حجتهم الرئيسية في ذلك هو أن العنف لا يحل المشكلات بل يزيدها تعقيدا كما أنه يستند إلى سياسة إقصاء الأخر وتحطيم إرادته وتصفيته معنويا وماديا. في حين أن اللاعنف يمتاز بقدرته على تجنيد نسبة كبيرة من طاقات الجماهير من مختلف الفئات والأعمار والاتجاهات ويعتمد على التقاء إرادة الأطراف نحو اكتشاف الحقيقة. نستنتج مما سبق أن اللاعنف والكفاح المسلح هما خياران واضحان لكل سماته ووسائله وأدواته، حيث تلعب الظروف الموضوعية دورا أساسيا في اختيار الأسلوب النضالي المناسب، ففي ظروف تاريخية يكون الكفاح المسلح العنيف هو الخيار الوحيد المتاح أمام قوى المقاومة والتغيير من أجل تحقيق أهدافها، وفي أحيان أخرى وظروف تاريخية مختلفة قد يكون خيار غير عقلاني، وبالتالي فان نجاح أي مقاومة يتمثل في قدرتها على امتلاك القرار في اختيار الأسلوب النضالي المناسب الذي يتلاءم مع الظرف التاريخي المحدد. يبدو من الصعب القول فيما إذا كان الكفاح المسلح العنيف أم النضال السلمي اللاعنفي هو الأهم أو الأفضل وبالتالي تقتضي الحكمة توسيع خيارات حركات التحرر والتغيير السياسي والاجتماعي الامر الذي يمنحها مزيدا من المرونة والفاعلية لاختيار الأسلوب الأكثر ملائمة للظروف التاريخية، وضمن هذا السياق يشير لينين إلى أهمية إبقاء الخيارات مفتوحة أمام حركات المقاومة بقوله يعتقد الثوريون غير المجربين عادة أن الطرق السلمية للنضال هي انتهازية وذلك لأن البرجوازيين عملوا باستمرار على خداع وتخدير العمال، بينما الطرق غير السلمية في النضال هي ثورية، إن ذلك خطأ على أي حال. في النهاية لا بد من التأكيد على أن تقييم نجاح أو فشل أي أسلوب نضالي يجب أن لا يتم الحكم عليه من خلال ما يمكن ان يحققه من مكتسبات آنية أو شعبية لهذا الحزب او ذاك ولا حتى بما يوقعه بالعدو من خسائر، بل من خلال مدى قربه أو بعده من تحقيق الأهداف الوطنية التي تشكل بوصلة العملية النضالية برمتها. |