|
الموسيقى عاريةٌ.. لا أعرِفُها
نشر بتاريخ: 19/09/2020 ( آخر تحديث: 19/09/2020 الساعة: 18:23 )
الكاتب: المتوكل طه سأغادرُ هذي الغابةَ للنَّهرِ الأوّلِ ، حيثُ الفَرَسُ تخوضُ لِتَخْرجَ نحوَ التلِّ ، وتصهلُ بالفِضَّةِ ، أو تنشرُ ما ظَلَّ من البَرْقِ على الأحياء . غبارٌ هذي الغابةُ أو غَبَشٌ أسودُ .. وأرى أنَّ سَبيكَتَها انكسرتْ ، أخَذَتها السّاحرةُ إلى بئرِ مغارتِها السوداء . سأغادرُ هذي المُتَصابِيةَ الرَّخْوةَ .. مَنْ تَضَعُ قِناعاً تلوَ قِناعٍ وتُراقِصُ أشْباحَ الرأسِ المقطوعِ وتخفي سِحْنَتَها العجفاءَ .. سأتْرُكُ سُوقَ نِفاقِ الأخوةِ ؛ مَن كانوا في الخندقِ أو في البَيْرقِ أو خلفَ القُضبانِ .. وراحوا للسوقِ ، اندفعوا مثلَ الثيرانِ الوحشيّةِ لمذاوِدِ ربِّ القُطْعانِ السائبةِ ، أُطْعمَهُم وَهْمَاً ، وتّزَيّا فوقَ رِقابِ الخَلْقِ وكانَ الآكِلَ والطاعِمَ والكاسيَ والسّادرَ في السِّيركِ الوطنيِ المُغْلَقِ مِن كلِّ الأنحاءِ .. كلابٌ تنهشُ في لحمِ غزالتِنا ، اجتمعتْ لترى ما في القَصْعةِ من مَرَقٍ خَثّرهُ الجَمْرُ، لتملأَ جَوْفَ جنَّهمَ ، وتنامَ على رِيشِ نعامَتِنا الخرقاءِ. وأَمْعَنَ سيّدُهُم بالسَّلْخِ وبالطَّبْخِ ، تَلَمَّظّ ، وامتلأَ البطْنُ ، وأيْقَنَ أنَّ القُطْعانَ الموسومةَ تأتيهِ بلا تَعَبٍ ، فَلْيَذْبَحْ ما شاءَ من الصُّوفِ ، عدا الكبشِ المكحولِ .. فهذا مَن باعَ حظيرَتَه للذّئبِ ، وصالَحَ غِربانَ البيداء . سأترُكُ هذا الطَقسَ الوثنيَّ وأزلامَ المَعْبدِ وعُكاظَ الخُطَبِ المكرورةِ وقوافلَ داحِسَ والغبراء . لقد كذبوا ! مِن أوَّلِهِم حتى آخرَ مَن تاجرَ بالنّارِ وبالأوجاعِ وبالنسْوَةِ حينَ رَقَصْنَ بمنديلِ الأعراسِ المُذْهلةِ .. وكَذَّبَ ثانيةً .. فَالكافِرُ مَن رَفَعَ البُهتانَ وصدَّقَ ما قالَ مُسيلمةُ الكذّابُ ، وعادَ مع الصَّنَمِ المهدومِ .. لأرضِ الرّومِ .. سأتْرُكُ مملكةَ الخَوفِ أو الزّيفِ وأَهْجرُ هذي المنهوكةَ والمذبوحةَ بسيوفِ أشقائي الأعداء . وأتْرُكُ هذي الكُثبانَ القاحِلةَ المَذْرورَةَ ، مَن يختَبئُ بها الثعبانُ أو العقربُ والغولُ أو المَمْسوخُ .. سأترُكُ هذا التصفيقَ الفجَّ ، وصوتَ العتمةِ والجدرانَ المثقوبةَ ، لفضاءِ السِّجنِ ومقصلةِ الطّاغوتِ وقُبَّةِ صخرتِنا الشقراء. سأترُكُ هذي الهاويةَ الفاغرةَ الأنيابِ ، الشائخةَ الرّيحِ ، العاجزةَ ببيتِ الضّبْعِ ، وتبدو الضائعةَ الدَرْداء . سأترُكُ أنفاسَ المَوْتِ ورَملَ الوَقْتِ ولمْعةَ نيِشانِ الجنرالِ المهزومِ ، سأترُكُ هذه الُلعبةَ ؛ مَنْ أرْبَكَتِ الأطفالَ وبدَّلَتِ الأحوالَ وقالتْ ما قالَ القاتلُ .. وأغادرُ هذا السِّحرَ الأسودَ والترقيصَ على الأحْبالِ ، وعِطرَ الغانيةِ المأجورةِ ، ورقابةَ أجهزةِ التسجيلِ ، وخنجرَ أصحابِ التأويلِ ، وخيطَ عناكِبنا المسمومةِ .. سأغادِرُها .. لدَمٍ يتفجّرُ في أوردةِ الحقلِ المنسيِّ وفي الزَّهرِ الشتويِّ ، وأُترُكُ هذي المعركةَ الخاسرةَ إلى قلبِ فلسطينَ ؛ لأوَّلِ ما خلقَ اللهُ وآخرُ ما يبقى في الأرضِ من الحِنّاء. سأترُكُ هذا المرْقصَ فالإيقاعُ غريبٌ والليلُ بهيمٌ والموسيقى عاريةٌ لا أعرفها ، لا تعرفني ، غرباءٌ نحنُ بهذا المحْفلِ.. ما عاد لنا ما نطرحُه بِمَزادِ السيّدةِ العمياء . سأترُكُ هذا الكأسَ ، فيكفي ما فعلتْهُ الخمرُ الفوّاحةُ في الرّوحِ ، ولا ينقُصها الدَّنَّ النازفَ مِن أعصابِ الكَرْمَةِ ، إذْ سَرقَوا العنقودَ كما سرقَوا الكأسَ وأضواءَ المشْرَبِ والثلجَ السائحَ في طَيَّاتِ الأضواءِ الحمراء . انطلقوا مثلَ جَرادٍ جاءَ على الحقلِ ، وغادرَ بعدَ الجَدْبِ لأطْلالِ البُومِ وجُحْرِ الحَيَّاتِ الرّقطاء .. سأترُكُ هذا التسْطيحَ الساذجَ والنوْءَ الهائجَ والقُبْحَ الرائجَ والتّيهَ الفالجَ والصدأَ الخارجَ مِن فُولاذِ الحَجَرِ إلى الأجراسِ ، ونأتي دونَ حَمامٍ يَزْجلُ برسائلَ مَن ظلّوا فوقَ التَلِّ على أُحُدٍ ، وتساوى مَن ماتَ بِمَن جَمعَ غنائمَ معركةِ الثأرِ .. سواءً بسواء ! سأترُكُ هذا البحرَ المسجورَ ، أنا لستُ بموسى كي أَملكَ منْسَأةً أضربُها في الموجِ فيَنْشقُّ الماءُ ، ولستُ بِيوشَعَ كي أقبضَ بالكَفِّ على الشمسِ ، ولستُ بِمَن يجترحَ المُعْجزةَ إذا جاءَ السّاحرُ ، أو أبعثَ مَن راحَ إلى الغَيْبِ .. أنا الكَهْلُ المصلوبُ وموسى المطرودُ ويوسفُ إذ أَلْقُوهُ إلى الجُبِّ .. فَيَا ربِّي ارحَمْني من إخوتيَ المفضوحينَ بهذا الليلِ المُشْرعِ للأنواء . سأترُكُ هذا المأتمَ دونَ رثاءٍ للرّاحلِ، فالثورةُ في قلبِ التابوتِ ! وهل غادَرْتُ لأحملَ باقةَ دمعٍ للأيتامِ ؟ هنالكَ سادَ الصمتُ وغابت ألسنةُ الشُّعراء ! |