|
"نور الدين الحرازين" الشاب الذي أوقف آهات أبيه .. فأصابه الجرح الذي لا يبرأ
نشر بتاريخ: 29/11/2020 ( آخر تحديث: 29/11/2020 الساعة: 14:15 )
غزة- معا- فادي منصور- حاول فتح عينيه هربًا من ذلك الكابوس الذي أخذ يراود عقله لساعات طويلة وحده الله الذي يعلم عددها؛ لكنه لم يفلح بسهولة فقد استغرق الأمر منه ما يقرب العشر دقائق، وبمجرد أن فتح عينيه بثقل لم يجد أمامه سوى اللون الأبيض، ولم يتدارك في البداية أنه لون السقف من فوقه؛ لذا ظل على هذه الحالة لبعض الوقت يحاول استجماع شتات عقله خائفًا من الالتفات إلى أحد جانبيه حتى لا يواجه ما قد يصدمه إلى أن تفاجئ بصوت أحدهم خالط في صداه زقزقات العصافير فأدرك أنه الصباح، ولم يكن صاحب هذا الصوت سوى الطبيب الذي طمأنه قائلًا: حمدًا لله على سلامتكَ يا بطل فقد نجحت عمليتنا، وقريبًا سيتعافى والدك تمامًا، لم يصدق حاله حينها، وعند هذه اللحظة تمالك قوته، والتفت من حوله بحثًا عن والده الذي لم يكن سوى مستلقيًّا على سرير آخر بجواره داخل الغرفة، فابتسم، وشكر الله على فضله.
بدأت معالم الرحلة الشاقة تظهر
"نور الدين جمال الحرازين " ذلك الشاب صاحب الثلاثة وعشرين عامًا ابن مدينة غزة، تبدلت حياته، وانقلبت رأسًا على عقب بعدما شُخِّص والده جمال الذي كان يعمل تاجرًا، وعانى أغلب عمره من ضمور إحدى كليتيه بقصور الكلى، وارتفاع في وظائفها عام 2017 إلى أن تدهور وضعه الصحي حتى أصيب بالفشل الكلوي في أيَّار 2019 مما دفع الطبيب المعالج بقسم الكلى بمستشفى الشفاء بغزة إلى تحديد عمليات الغسيل ثلاث مرات أسبوعيًا بمعدل أربع ساعات لكل جلسة .
رحلة العلاج استغرقت شهور قليلة تُعد على أصابع اليد الواحدة بالنسبة لأي شخص؛ لكنها بالنسبة" لنور الدين" آلاف الدقائق التي انتظر فيها والده داخل أروقة المستشفى بعدما يترك يده ليسير إلى داخل حجرة الغسيل بخطوات بطيئة شيَّبها المرض قبل الزمن، انتظر نور الدين في كل مرة لساعات طويلة لم تخلُ مطلقًا من آهات المرضى المتألمة، ورائحة الدم التي تقبع من حولهم منذرة إياهم بخطورة الوضع، وقرب النهاية، كما استمع فيها لصرخات من توفى مريضهم، فكان دائمًا يضع يده على قلبه خوفًا من سماع كلمة يرفضها عقله طيلة حياته تلك الكلمة التي تحرمه من والده، فكيف لا يخاف عليه، وهو الأقرب إلى قلبه كما كان نور الدين أيضًا أحب أبنائه إليه، فعلاقتهما يبعضهما البعض ليست كأي علاقة عادية تجمع بين الأب، وابنه، فعبر نور الدين عن شدة علاقتهما يبعضهما قائلًا: اختلفت علاقتي به منذ أن كنت صغيرًا عن باقي أشقائي، لم يحرمني يومًا من شأ، ولم يقصر معي إطلاقًا، أعلم أن ذلك الدور الطبيعي للأب تجاه ابنه؛ لكنني حقًّا كنت مميزًا لديه، كنت الأقرب، والأحب لكوني الابن الأصغر سنًا، و لم أتركه يومًا .
رفض وإصرار
وللحد من معاناة الأب قرر أبنائه " نور الدين"، وأشقائه إنقاذ حياته على عجل من خلال أن يتبرع له أحدهم بإحدى كليتيه، وهو ما رفضه الأب تمامًا، فكيف له أن يعرض حياة أحد أبنائه للخطر، وهو من أفنى سنوات شبابه كلها في رعايتهم، وحمايتهم؛ ولكن أمام كل هذا الرفض من الأب تولد إصرار كبير داخل نفوس أبنائه، فصاروا يتسابقون جميعًا من أجل إنقاذ أبيهم في أقرب وقت ممكن، وهو ما أدى إلى استسلام الأب أخيرًا أمام رغبة أولاده الشديدة في التبرع له.
العاطفة التي قلبت موازين العقل
أجرى الأبناء تحليل تطابق الأنسجة الذي أعطى نتائج سلبية مع جميعهم عدا نور الدين الذي تطابقت أنسجته مع أنسجة والده بنسبة كبيرة، ولما ظن" نور الدين" أن شفاء والده أصبح في القريب العاجل، ظهرت أمامه عواقب جديدة تمثلت في معارضة بعض الأطباء لا سيما الطبيب البريطاني الذي قدم إلى غزة من اجل إنهاء معاناة مرضى الفشل الكلوي رفض إجراء عملية زرع الكلى لأب، وصفوها بالخطيرة، والمتهورة، نظرًا لتجاوز الوالد العمر المناسب لزرع الكلي، وأيضًا لأن هناك فيها شاب في مقتبل عمره يضحي بحياته من أجل إنقاذ كهل عجوز خالط الشيب رأسه، وبلغ الستين من عمره، كما حاول مرارًا، وتكرارًا إرجاع نور الدين عن قراره المصيري، وصده؛ لكنه لا هذا، ولا ذاك هو فقط ابن بار حظي بتربية رجل سوي عرف جيدًا ماهية الأبوة حتى كان له ابنًا كنور الدين على أتم الاستعداد للتضحية من أجل ألا يسمع آهاته؛ وليخفف عنه آلامه.
لا مكان هُنا لليأس أصر هذا الشاب اليافع على التبرع بإحدى كليتيه لوالده، ولم تغره الدنيا بملذاتها، ووعدها له بطول عمره فيها، ففي كل مرة خيره أحدهم بشبابه مقابل إنقاذ والده كانت الغلبة للاختيار الأخير؛ لذا صارع الزمن محاولًا باستماتة الحصول على موافقة الأطباء لإجراء عملية نقل الكلى لوالده حتى كأنه له ما أراد، وعليه تحدد ميعاد إجراء العملية بعد وصول الوفد الطبي الأردني، وأجريت العملية على يد جراح الأوعية الدموية وزراعة الكلى وليد مسعود، وتحت إشراف الطبيب غازي اليازجى بمجمع الشفاء بالتنسيق مع جمعية إغاثة أطفال فلسطين ضمن المشروع الوطني الذي جاء ليخدم كافة مرضى الفشل الكلوي البالغ عددهم 800 مريض في قطاع غزة وينهى معاناتهم من عمليات الغسيل الكلوي المرهقة على مدار سنوات .
حياة أجمل لقد نجحت العملية و انتصر الأب في معركتيه القاسية مع المرض التي كان ميدانيها غرف العمليات ومشرط الجراحة وأصبح بصحة جيدة لقد ظهر المعنى الحقيقي لتغير في حياة "نور الين" في أبهى وانصع تجلياته الأخلاقية ليس كما قد يظن البعض فقده لجزء من جسمه في سبيل إنقاذ حياة والده بل هو التمكن من إنهاء معاناته ليعش بطاقة وحيوية وسعادة بين أبنائه متناسيًّا صراعه معه إلى الأبد .
للقدر كلمة أخيرة
لكنها الحياة تتقلب بين فرح وحزن لا فرح يدوم ولا الحزن يبقى فبرغم تضحية" نور الدين" من أجل أن يطول عمر والده، وألا يرى فيه خسارة إلا أن القدر كان له رأى أخر بعد عامًا خالٍ من الأوجاع، ومليء بالسعادة والحب و الهدوء والطمأنينة أصيب الأب بعارض صحي نُقل إلى مستشفى الشفاء بغزة وبعد تقديم العلاج وضع تحت المراقبة الطبية على مدار أيام صحته سرعان ما تدهورت ثم ما لبث أن فارق الحياة مُخلّفا وراءه وجاعاً لا يوصف ارتسمت أخاديدها العميقة في وجوه من عايش تفاصيلها المباغتة
الموت يوجع الأحياء وقف نور الدين أمام قبر أبيه يتأمل تاريخ الوفاة الذي مهما بلغت مهارة نقشه فلن تضاهي نقش الوجع داخل قلبه، فبرغم وفاة والده منذ مدة قد يراه البعض طويلة إلا أن أمارات الحزن الممزوجة بالوجع والتسليم بالقدر لا تزال تعرف طريقها إلى قلبه للدرجة التي انعكست بها على ملامح وجهه، وأثارت دموع عينيه، فموت والده آخر ما كان يعطي له بالًا لا ، وقبل أن يرحل ابتسم بألم مودعًا قبر والده، ولسان حاله يقول : فقداني لجزء من جسمي لا يقارن بفقداني لروحي يا أبي، ولو عاد بي الزمن لفعلتها مرارًا، وتكرارًا، ولكنت طلبت في كل مرة من ربي أن يبقيكِ معي أبد الدهر؛ لكن سلواي أن روحكَ حولي في كل مكان، وأن لقاءنا قريب مهما طال بي الزمان.
|