|
لمناسبة "العنف ضد النساء"- الشاعرة نموذج لمواجهة القمع والتدمير "فدوى" التي حطّمت القمقم
نشر بتاريخ: 29/11/2020 ( آخر تحديث: 29/11/2020 الساعة: 13:39 )
المتوكل طه
الشِعرُ الكبير يصدر عن مأساة ما، لها ما يشبه الأحداث الأسطورية، أو أن هذه الاحداث تتعمّق وتتلوّن لتصبح أسطورية تدعم مأساتها، وهكذا يصبح الشِعر كبيراً بالحدث الكبير، ويتحوّل الحدث إلى كبير بالشِعر الكبير . ويبدو أن ذلك صحيحاً دائماً، أو في معظم الاحيان، وكأني بالشِعر لا يقبل هذه العادية ولا هذا المألوف حتى في التفاصيل التي تعصف بنا جميعاً . ويمكن أن يُصاغ الكلام السابق بلغة أخرى، ذلك أن الشاعر الكبير يَنْقَضُّ على واقعه ويَنْقُضُهُ، ويحيل ركامه الرمادي المهشم والمهدم الى بنيان مدهش لا يمتّ الى الواقع الأول بصلة، وكأن ميلاد الشاعر ايذانٌ بالتحوّل، وكأنه الحَجر المتيقّظ يُقذف وسط بركة راكدة، فنكتشف الأمرين معاً، الحَجر الذهبي والبِرْكة الآسنة، هكذا هم الشعراء الكبار دائماً، يضيئون ما حولهم، يكشفون ويدمرون، ويرمّمون، ثم يمضون.. إن الجروح التي يفتحونها وتلك التي يداوونها تشكل فتحاً آخر من فتوح الروح على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي كذلك . ما الذي يفعله الشاعر الكبير بنا؟! ما الذي يضيفه الى معارفنا؟! ما الذي يهزّه في وجداننا؟! ما الذي يعمقه داخل انفعالاتنا؟! ببساطة، إنه يُجمّع حكاياتنا الصغيرة ليؤلّف منها الحكاية الكبيرة التي تجمعنا معاً، وهو يكتشف فينا المشترك والعام والأصيل والحقيقي والجميل ، بكلمة أخرى، إنه يكتشف الجماعة فينا، ويكتشف أجمل ما في تلك الجماعة من خصائص، وهو بحفره عميقاً في تجربته إنما يقوم عملياً بعملية حفر معرفية وجمالية ونفسية في أعماق أعماق جماعته، وهو بهذا إنما يقوم بعملية من أمتع الرحلات وأكثر المهمات تعباً وجمالاً، لأنه يعيد جماعته إلى نفسها، ويضيء حاضرَها بماضيها، ويزاوج بين أرواح أسلافها وأحفادها، ويؤلّف بين تاريخها ومكانها، ويصوغ العلاقة الأبدية ما بين الجماعة ورؤاها واجتهاداتها الروحية والعقلية داخل شرطها الزماني والمكاني . والشاعر يفعل ذلك من منطلق الانتماء لجماعته ولا أقول الحب بمعناه العاطفي أو الاخلافي . الانتماء شعور لا علاقة له بالحب او الكره او الأخلاق أصلاً . الانتماء مجموع قوة الاسلاف وقوة المكان وقوة الإرادة معاً، وأكاد أقول إن الانتماء تخلقه اللغة وما فيها من دلالات جمالية وروحية ترافقنا منذ وعينا الأول الذي يبقى فينا الى الممات . باختصار، الشاعر الكبير يعيد إلينا ما نسيناه عن أنفسنا، وما تصورنا أننا لم نعد نحمله أو نتميز به أو نعتد به، وينبهنا الى ما يمكن أن نصير إليه أو نحققه، إنه يكتشف المهمل فينا، المهمل الذي لا نريد رؤيته، والمهمل الذي لا نستعمله، المهمل الكريه، والمهمل الجيد، وبهذا يتحوّل الشاعر إلى دليل اثبات للجيد ودليل إدانة للكريه في الوقت ذاته. بهذا المفهوم فإن أقوى مفاتيح النقد للشعر هي تلك المفاتيح التي ترى الإطار العام الذي تخفق فيه القصيدة؛ أقصد ذلك المفتاح الذي يرى المسافة بين القصيدة / الذات والقصيدة / الجماعة، بين القصيدة الممكنة والأخرى المتوقعة، بين ما يقال عنا وبين ما نتوقعه عن أنفسنا، اقول ذلك لأن الشِعر لا يخرج عن لغته، واللغة لا تخرج عن مكانها ولا عن دلالاتها، وبهذا المعنى فإن الشعراء يختلفون كما هو شِعرهم، ولا ينقص هذا من الشعور الإنساني، بل على العكس، فإنه يعمّق المفهوم ويزيد من تراثه، ويعني هذاأ الشِعر ابن جماعته التي يصدر عنها ويعبّر عنها، مهما ادّعى البعض أن الشِعر إنساني يخرج عن طور خصوصيات المعرفية والمكانية والتاريخية، إن ما يفرق بين ابن حمديس الصقلي ووردز وورث - وكلاهما هام بالطبيعة وتجلياتها - مرجعياتهما الروحية والجمالية اللتان صيغتا من خلال لغة مختلفة حملت تاريخاً ودلالات مختلفة . لا يمكن للشِعر أن يتحوّل إلى رموز رياضية مكتفية بذاتها. الشِعر أولاً وأخيراً دلالات وإحالات، والدلالة كما الإحالة تحتاج الى تاريخ روحي ومزاج صاغه المكان والجهد . والشِعر يفشل عندما يفقد البوصلة، ويقطع الصلة بالتاريخ والتجارب المتراكمة والرموز المثقلة، وبما أنجزته روح الجماعة على مدى كينونتها . والشِعر يفشل عندما يتمثل بتجربة أخرى، ويستحضر رموزاً بعيدة. ببساطة، الجماعة تُسقِط من حسابها مَن لا يأخذها بحسبانه، وتلغي مَن يلغيها، وتشطب مَن يشطبها، هذا قانون، ولو لم يكن هذا القانون صحيحاً لكان هوميروس أحد شعراء العربية، ولأصبح المتنبي أحد شعراء الأُمّة الانكليزية . وأعود إلى أدوات النقد المهمة للشِعر الكبير فأقول إن من أقوى المفاتيح أيضاً لفكّ مغاليق النص، ذلك المفتاح الذي يرى في الشعر أجمل وأنقى وأصفى جماليات الجماعة التي تقدّسها وراكمتها خلال القرون.. الشِعر الكبير يصنّف أسس الجَمال بأشكاله المختلفة؛ اللغوية المعمارية، البصرية والسمعية، المعنوية والمادية . إن مثل هذا الشِعر يعيد تخليق أشكال الجمال في كتل سمعية وبصرية، معتمداً على خيال نظيف غير مهشّم أو مدمّر ولا مُدّعى، خيال فسيح ممتد لا واهم ولا مريض، ومن خلال هذا الفضاء نرى ونلمس ونسمع كيف تبدو أولوياتنا الجمالية وهي تُبنى من جديد على يد شاعر كبير . *** قلت إن كل شاعر كبير هو دليل إثبات للجيد ودليل إدانة للكريه فينا، هكذا هو كل شاعر كبير، حتى أولئك الشعراء الذين تختلف معهم في مواقفهم الأيديولوجية أو السياسية أو الدينية، وقد قيل إن الإبداع هو رؤية ما لا يُرى، أو صياغة جديدة لما لم يتّضح بعد، أو إعادة تركيب لعلاقات تبدو بلا رابط، أو ربط ما ليس بين بعضه علاقة، وقيل إن المبدع دؤوب ومجتهد وذو معرفة هائلة وله قدرة استبطان عالية، وقيل، أيضاً، إن المبدع - أيا كان - يفضح بيئته. والفضيحة هنا لا تكتسب المفهوم الأخلاقي بقدر حملها لمفهوم حضاري . ومن هذا المنطلق نرى شاعرتنا الكبيرة فدوى طوقان، فقد شقّت طريقاً وعراً في جبل بازلتيّ صلد، تربعتْ على قمته بجهد خارق يستحق التأمل . نجاح الشاعرة جعل من حياتها وشخصيتها مؤشراً وحقلاً للدراسة، ليس على المستوى الإبداعي فقط وإنما على المستوى التاريخي والاجتماعي أيضاً، وها نحن نتلمس تلك القوى والأضواء التي صاغت روحاً شاعرة، لَخَّصتْ الجميلَ فينا ولنا . *** القسوة البالغة والقمع الكامل يؤديان إلى نتيجتين متعاكستين تماماً: إمّا التشويه والتدمير وإما فعل يفوقهما قوة وجرأة. - بالمناسبة فإن عقلية الغازي أو المحتل أو الدكتاتور غالباً ما تتبنّى القسوة البالغة للتشويه والتدمير، ولهذا تأتي لحظة غير متوقّعة عندما يرتد ذلك عملاً ثورياً مبدعاً يكسر المعادلة المغلوطة - . أما فدوى، فإنها تعترف بكل جرأة وصراحة أنها تعرّضت لمحاولات التدمير والتشويه والقمع لهفوة مارستها وتمارسها كل مراهقة في حياتها . كانت "غلطتها" غلطة عادية، وكان يمكن لهذه الغلطة أن تعالج بطريقة أخرى لو لم تكن فدوى في نابلس المحافظة وفي الثلاثينيات من القرن الماضي، ولو لم تكن تنتمي إلى عائلة أرستقراطية تنتمي سياسياً إلى وطنها وثقافياً الى خارجه - باعتراف فدوى نفسها- . كان يمكن لهذه الغلطة ان تُسوّى لو لم تكن الطبقة التي تنتمي إلى نفسها منقسمة على ذاتها، تعاني خللاً في توجهاتها وتحديد مرجعياتها، وتعلق فدوى على تلك الغلطة بقولها إنها لوعوملت بطريقة ليّنة آنذاك لما خرجت منها الشاعرة التي حطمت القمقم . ولكن ذلك لم يكن، فقد قُمعت الصبية الصغيرة، وأُخرجت من المدرسة، وفُرضت عليها الخدمة في المنزل الشبيه بالقلعة، وقُطعت علاقاتها بكل الخارج الذي كان يضج بأحداث جسام . وكان يمكن لهذه الصبية العليلة "الصفراء" أن تظل حبيسة الجدران وأن لا يسمع بها أحد حتى تموت، ولكن الصبية الصغيرة تمترست خلف الرفض السلبي و"الكراهية" الصامتة لما يجري والصمت المطبق إيماناً منها بعالمها الداخلي الفني، كانت تشعر بشكل ما أنها "مختلفة" . يعجبها طنين النّحل حول سدر الكنافة، وألوان زهر النارنج في باحة الدار، يخيفها الموت ويستوقفها، تكتشف الفروق في المعاملة بين البنات والأولاد، وتفتقد الحنان واللمسة اللطيفة، كانت تعتقد في قرارة نفسها أنها حقاً تستحق حياة أخرى، وتؤمن إيماناً مبهماً، ولكنه عميق وراسخ بأن حياتها تبحث عن محور تدور حوله، وفي قراءتنا لسير ذاتية لمبدعين آخرين نرى مثل هذا الإيمان المبهم المبكّر الذي يدعوهم إلى تغيير وجهة حياتهم أو اكتشاف مواهبهم والاصرار عليها . تقول فدوى إنها أخذت تقوم برحلات وعي داخلية وذلك بالنظر إلى ورقة شجرة ما والتركيز عليها بحيث تخرج من مكانها وزمانها، ثم تعود إلى واقعها عندما تُنادى لشأن ما. إن مثل هذه التدريبات الروحية ومحاولات كسر الشروط وقيود البيئة كانت الخميرة الأولى الابداعية لابتدار الشعر واجتراحه، وهو دليل حقيقي وحيّ على أن الموهبة الكبيرة تجد دائماً متنفّساً لها . وكان رد فعل فدوى مختلفاً، أيضاً، على محاولات القمع والتشويه والتدمير، لم تصرخ ولم تبك ولم تدافع ولم تبرر ، وإنما ردّت على ذلك بالصمت المطبق والتجاهل التام لمَن حولها . وبالإضافة الى هذا، كتاب نحوٍ أو أدب تقرأ فيه كلما أتيحت لها الفرصة - وبهذا فإنها تقدّم لنا قصة نموذجية عن إصرار المبدعين على حماية أرواحهم من الانهيار، وتسييج دواخلهم من الهجوم الخارجي عليهم، وهي في هذا مثل كل أولئك العظام الذين قرأنا عنهم وكيف صانوا أنفسهم من الدمار والتشويه - . إن هذه الرغبة العميقة في حماية روحها من الإلغاء والتشويه والإعدام والتقزيم والتهميش جعلها تتشبث بكل قوة بما يبرر لها كينونتها وسبب وجودها ومعنى حياتها، ووجدت كل ذلك في حفظ الشِعر أولاً ثم قوله، وبقول الشعر، شعرت فدوى أنها تستطيع كسر كل الأطواق المتراكمة حولها. ومن عجب أن فدوى ومن خلال سيرتها لم تصف لنا احتفالها بأول قصيدة أو بأول بيت قالته قدر وصفها للسعادة التي كانت تحققها قصيدتها، بمعنى أن فدوى لم تتحدث عمّا يصاحب القصيدة الأولى من انفعالات بقدر حديثها عن أثر قصيدتها عليها اجتماعياً، ومعنى هذا أن الشعر لدى فدوى كان ردّها العنيف والأقوى على القمع المتعدد المستويات الذي واجهته في صدر شبابها . وأكثر من هذا، فقد امتنعت فدوى عن كتابة الشعر الذي كان والدها يطالبها به وكأنها تريد معاقبته به، وكأن حال لسانها يقول: هذا ما كنت تحرمني منه . أو هذا ما حرمتني منه ! الشعر منح فدوى شرعية أخرى أو قل شرعية أولى، شرعية للعيش والوجود ومن ثم تبرير لهذا العيش وهذا الوجود، والشعر أيضاً منحها توكيداً لذاتها واحتراماً لها. كان الشعر اكتشافها الذي عرفته منذ البداية بشكل عصي على الفهم، حتى أضاءت لها العلاقة الفريدة المميزة مع شقيقها الشاعر الكبير المبدع ابراهيم، هذا الكنز بين جنبيها . |