|
قبلة على جبين حسن ووردة على خده
نشر بتاريخ: 29/11/2020 ( آخر تحديث: 29/11/2020 الساعة: 17:17 )
الكاتب: أ. حسام أبو النصر وأنا أسافر في كتاب دمعة ووردة على خد رام الله الصادر عن الكلية العصرية الجامعية، أبحر في تفاصيل الأمكان والمسافات، وبين ذاكرة المكان، أبحث عن من أعرفهم ولا أعرفهم، وفي كل كتاب أقرأه، يكون سؤالي ما الإضافة الجديدة، فأبدا بالبحث، إلا أن هذا الكتاب منذ اللحظة الأولى تشعر بالجديد في ظل اجتياح الجائحة التي ضربت العالم، وأرخت بظلال عواقبها على المدينة الهادئة والحيوية في الوقت ذاته، ليأخذنا الصديق حسن عبد الله إلى مفارقات ما قبل وما بعد الوباء، لقد فك لي لغز قديم لدي، حين كنت أراه في مقهى رام الله على دوار الساعة، قبل أن تتوطد علاقتنا، وكان يلفت انتباهي ذلك الشخص السارح وسط صخب المقهى، يدون ما يدون، ويبني بناءه الأدبي الرصين بعيداً عن المحيط، وسؤال جهاد الذي جاء في الكتاب كان في محله، حول سرحانه وشروده، واتضح أنه كان يلملم الأفكار ويصيغ جدليته في النهاية ليبدأ بداية أخرى، وحقيقة هذا التسلسل الجميل في أبواب الكتاب جاء ممتعاً رصيناً بلغة أدبية، عالية، راقية، أحسده عليها كوني مؤرخاً أكثر من كوني أديباً، وقد عايشت الكاتب خلال رئاسة تحريره مجلة "الكلمة" الصادرة عن الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، وكيف كان يراجع ويدقق مرات ومرات وبجهد كبير منه، يدل على مدى حرصه أن تخرج بأبهى صورها، بل ويتقبل أي تعديل يأتيه من أية جهة، فيما يخلو الكتاب من الحشو بل تدرك أن كل كلمة وكل حرف في مكانهما، ويحملان هدفاً ورسالة، وهذا ما يجعل الكتاب ذا قيمة، وقد شدتني قصة جهاد وهو صديق عرفته في اتحاد الكتاب وطريقة السرد التي كشفت تفاصيل مهمة في حياته من خلال هذا الكتاب، تظهر فيها بوضوع ملامح تأثر الكاتب حسن عبد الله وهو يسردها ولكن بموضوعية عالية، وكأنه يتحدث عن أخ له ولداً سويةً لأم واحدة ولأحداث واحدة، وقد استشهد بوصايا الصديق ابراهيم جوهر الكاتب المقدسي في ظل الجائحة، كما لم ينس ذكر عدد من الأصدقاء منهم الصديق الحبيب د.سمير شحادة وكأنها جولة نلتقي بهم من خلال سرده، والجميل أيضاً حين يعرج الكاتب بوصف دقيق على حياة المدينة، والطريق إلى رافات، قريته الصغيرة على حدود رام الله، والإعتناء بحديقته، ووصف أزهار بستانه في القرية، في غزل جميل مع الطبيعة الأخاذة، انتصاراً لتجذر الإنسان في المكان، وتجده في حالة حوار دائمة مع النفس في محاولة تفسير الظواهر وحل أجوبة الأسئلة التي تلاحقه في مرحلة الإكتشاف الدائمة التي يعيشها، وكيف حول الحجر الصحي إلى حالة إيجابية، أدبية، حافلة بالأفكار الغنية، الموسومة بالذاكرة العميقة وكأنها رحلة مع الزمن في وقت توقف فيه الزمن، يستذكر فيها الطفولة، وأيضاً حياته الطلابية، ووجوه أصحابه، فيما سحرني وصف رحلته إلى القدس حتى عند مراجعة العيادة عند إبنته الطبيبة، وجهاد الذي لم ير المدينة منذ وقت، ثم يسافر بنا إلى بيت لحم ويصف بيوتها العتيقة وأزقتها مصحوباً بترانيم العصافير، وصليب مهدها، وصولاً إلى عمان خلال زيارته لرابطة الكتاب الأردنين في إطار توقيع إتفاقية مع اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين، فوصف عمان ورام الله (بمدينتين تتعايش فيهما الحداثة والأصالة)، ثم ذهب بنا إلى أبعد من ذلك، إلى وجدة المغربية التي فاضت كلماته عن تاريخها وعراقتها، وجبالها الممتدة إلى الجزائر، ثم يقارن بين نابلس ودمشق، حيث أطلق الرحالة على هذه المدينة الفلسطينية "دمشق الصغيرة لشدة الشبه في الأسواق والحواري والبنايات ونمط الحياة بين المدينتين من قصيدة للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش بعنوان "طوق الحمامة الدمشقي"، لتدهش من الوصف وتجد نفسك أمام أدب الرحالة حسن عبد الله، ليجعل من ذاكرته رواية تسحرك بمفرداتها، التي تليق بالأماكن، وتليق بثقافتنا العربية، وأمام شخصية متذوقة لكل شيء، حتى للبطيخ مع الجبنة المالحة، وللموسيقى التي يحيي فيه تلك الذاكرة، بين أم كلثوم وعبد الحليم، وحنينه الدائم لدرويش الشاعر والإنسان، وكأنك في مقامٍ من المذكرات تفتقد فيها الأنا ليعلو حب الآخر، ولتكتشف أنك أمام شخصية صقلت بمعرفة الحضارات، كتشكلها منذ الصغر، لم تكبحه جراح الأسر نحو الحرية، ليحلق بنا في الفضاءات الواسعة كالطير المهاجر وما يلبث أن يعود إلى وطنه حاملاً كل هذه المعاني الجميلة، فعلاً إنه يستحق وردة على خده كما استحقتها رام الله التي أَسَرتْه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ *كاتب ومؤرخ، عضو الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين. |