|
حاتم علي: المشهد الأخير
نشر بتاريخ: 09/01/2021 ( آخر تحديث: 09/01/2021 الساعة: 18:38 )
الكاتب: ملك شواهنة "لا تسل عن سلامته روحه فوق راحته" هذا الترتيل المقدّس لكل فلسطيني كأنه سلامٌ وطنيٌ من نوعٍ خاص، والذي كان شارةً لمسلسل التأريخ الأعظم للقضية الفلسطينية، هو ذاته الترتيل الذي شُيّع على أشجانه جثمان حاتم علي الذي شكل رحيله انتهاء حقبة ذهبية في تاريخ الدراما السورية والعربية. "حاتم علي في ذمّة الله" هكذا جاء الخبر المفجع لكل من عرفوه عن قرب وبعد، والملايين الذين تابعوا أعماله، وبطريقةٍ كلاسيكية قدّمت وسائل الإعلام تعازيها وغطّت الموكب الجنائزي الذي يشبه مشهدا سرياليا ارتجاليّا إبداعيّا. حتى في وفاته أصرّ حاتم علي أن يكون المشهد الأخير مبهراً كما عوّدنا في مسلسلاته، وهو يودّع في طرقاتِ دمشق أسراب غير مرئية تزاحم اكتظاظ الشارع بالناس الذين يثبتون حضورهم في هذا اليوم كأنه فرضُ عين على كلّ سوري، ولم تكن هذه الأسراب سوى شخوص مسلسلاته التي طغت بهالةٍ كبيرة على الحضور، ويستطيع المشاهد لفيديوهات الجنازة أن يلمح أبو صالح يودّع من خلّد شخصيته في ذاكرة كلّ عربيٍ يحمل القضية الفلسطينية في قلبه، وخاصّة عند تشغيل شارة التغريبة الفلسطينية في توديعه، كأننا أيضا نرى رشدي بِصَمْته المتوعّد حينما اختتم المسلسل وهو يحملُ البارودة، يودّع الوطن والقضيّة بعدما وثّق بالدراما ما يؤرّخها لأجيالٍ وأجيالٍ، حاتم علي صاحب البصمة الفريدة والعين الثالثة التي كانت تستنبط المَشاهد من الأساطير والدين والجاهلية والمجتمع، فتبرع في خلقِ حالةٍ غير مكررة ولم تطلها أيادي الملل أو يغطّيها صدأ الابتذال. منذ أن قرر وضعَ قدمه في المعهد العالي للفنون والمسرح لدراسة التمثيل كان اسمه المشوّش كصاحب دورٍ ثانوي، يزداد وضوحاً كلّ يوم حتى تحوّلت الإشارات الى حروفٍ ذهبية تذيّل باسمه أهم الأعمال الدرامية "حاتم علي المخرج الكبير"، الذي ظلّ يحافظ على الطفل القابع بأعماقه حتّى في أهم اعماله التأريخية مثل التغريبة الفلسطينية حيث وضّح التباسه مع شخصيات المسلسل وعن مزج الحقيقة بالمشاهد المصوّرة، وأن ذاكرته أعادت مشهدا له في حرب الجولان حيث حُمِل على أكتاف أخواله أثناء النزوح مثلما حدث مع "صالح" أحد أبطال التغريبة، فهو يُقر بأن القضية قضيتنا جميعا، وهذا ما جعله ينجح في توثيقها بهذا الشكل الإبداعي، ولم يقتصر دور الحاتم على القضية فقط، فقد كان يبرع في اقتناص القضايا التي تواجهنا بشكلٍ يومي ولا تلفتُ أحدا غيره، كأنه يراقب من خلفِ كاميراته الخاصة ما يمرّ به الشارع العربي فهو الأقرب الى الطبقات الكادحة وابنٌ للحي الشعبي الذي قرأ أفكاره وعايشه ولامس همومه وجراحه فنجح في تطوير هذه المشاهد العشوائية الدافئة الى أعمال تحتضن بيئة شاميّة عربية في كل مسلسلاته مثل الفصول الأربعة، ومسلسل "عصي الدمع" الذي نبشَ فيه أيضا عن الجدال المتأصّل بين الذكورية والنسوية وأغرق المشاهد بنشوة الأحاديث الفكرية التي كانت تدور على لسان جمال سليمان وسلاف فواخرجي حول المرأة والرجول والحقوق، فهو بحق كان ينظّف عقل المُشاهِد ويُطربه بأحاديث أبطاله عن الوطن والفقر والقضية والبطالة والفن والموسيقى. حاتم علي بحق، أفرغ من حقائبه قبل رحيله المبكّر أرثاً تاريخيّا متمايزاً، تمشي روحه في طريق المجد الذي صنعه، تراقبُ ثأر المهلهل، ثم تنتقلُ إلى عداله عمر الفاروق، وتسافر عبر الزمن إلى نكبتنا الدامية، ثم تتعمّق في مشاكل المجتمع السوري والعربي بشكل عام، أحياناً بالسخرية وأحيانا بالتراجيديا وأحياناً بعرض المشكلة وحلّها في قالبٍ درامي مبهِر، أذاب فيه قضايا مجتمعيّة غابت عن الكثيرين، بعيدا عن سطحية الأدوار وسذاجتها بهدف جذب المشاهد. بذبحةٍ قلبية انتهت المسيرة ولم ينتهِ الأثر، الممتد من الزمن الجاهلي إلى العصر الحديث، وبإبداعٍ لم يخفت بريقه في انسيابيّة التنقّل بين المواضيع المتناقضة، ظلّ اسم حاتم علي علامة فارقة تكفي ليتحتّم النجاح على العمل الذي يتبنّاه، والذي سيظلّ حاضراً متعديّا شاشة التلفاز الصغيرة في كل بيت إلى وجدان كل من أدرك القيمة الفنيّة التي يقدّمها. |