الأسرى والكورونا والنسيان السياسي
نشر بتاريخ: 17/01/2021 ( آخر تحديث: 17/01/2021 الساعة: 10:57 )
لم يعد يكفي دولة الاحتلال الاسرائيلي أنها تزج بالآلاف من أبناء وبنات الشعب الفلسطيني في سجونها ومعسكراتها، وانما تنقل الى الأسرى الوباء والأمراض المختلفة ليزداد سُمك جدار السجن وتلافيف عتمته القاسية، تحاصر أرواح الأسرى بين الأمراض الفتاكة ومنظومة القمع الوحشية التي تجري على حياتهم على مدار الساعة.
دولة الاحتلال الاسرائيلي التي زرعت جائحة الكورونا في صفوف الأسرى الفلسطينيين حيث بات الوضع مخيفاً وكارثياً بتفشي المرض وإصابة المئات من الأسرى، هي دولة مريضة وحاملة لكل أمراض الاستعمار القديم والحديث، ضاربة بعرض الحائط كل القوانين الدولية والانسانية والمواثيق الطبية، لم تستمع الى مطالبات الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية ومؤسسات حقوق الانسان والتي حذرت من انتشار فايروس الكورونا داخل السجون وضرورة اتخاذ اجراءات السلامة والوقاية للاسرى والافراج عن المرضى وكبار السن والأطفال.
اسرائيل كسلطة محتلة تلاحق الاسرى بشكل شمولي لتصفيتهم جسدياً ووطنياً وانسانياً، فهي الدولة الوحيدة في العالم التي تفتخر بفاشيتها وعنصريتها وعدائها لحقوق الانسان، شرعت قوانين تعسفية ترفض بموجبها تمويل علاج المعتقلين المرضى ولا تسمح لاطباء محليين او دوليين بمعاينتهم والاطلاع على ظروفهم الصحية، ولكنها سمحت لجائحة كورونا ان تغزو غرف السجون وينقل سجانوها وضباطها وشرطتها وقضاتها وجنودها هذا المرض الى اجساد المعتقلين المحشورين في غرف ضيقة ومكتظة لتصبح المأساة جماعية وذات ابعاد شديدة الخطورة.
حكومة اسرائيل هي دولة وسخة وغير نظيفة سياسياً وقانونياً وفكرياً، دولة همجية بربرية سلاحها غير طاهر ونظامها مغمس بدماء وعذابات الفلسطينيين، ديمقراطيتها المزعومة هي ديمقراطية الحديد والنار والتطرف القومي والديني، ديمقراطية المعسكرات والرصاص والكلبشات والاسلاك الشائكة وكراهية الاخرين، امراضها الاحتلالية أصابت كل من حولها حتى المفاهيم الاخلاقية والقيمية داخل المجتمع الاسرائيلي.
ترفض هذه الدولة الوسخة تقديم اللقاحات والعلاجات واجراءات الوقاية والفحوصات الدورية للأسرى القابعين في السجون، تنتظر ان يستفحل المرض في اجسادهم وان يحصد ارواح كبار السن والمئات من الأسرى المصابين بالسرطان والامراض المزمنة، لقد نزعت دولة اسرائيل كمامات السلامة عن وجوه الأسرى وخنقت انفاسهم وتركتهم مكشوفين للاصابات والعدوى، السجن بالنسبة لها هو قبر واسع لكل من قاوم الاحتلال البغيض، والاسير الفلسطيني وفق ايدلوجيتها العنصرية يستحق الموت ألف مرة، وعليه ان يتعذب حتى يطويه النسيان.
جائحة كورونا تتوسع وتستوحش في السجون، وعندما تلتقي هذه الجائحة مع سياسة الاهمال الطبي المتعمدة وتفاقم الامراض في أجسام الاسرى وعدم تقديم العلاجات اللازمة لهم من قبل اطباء السجون، وعندما يلتقي كل ذلك مع سياسة النسيان السياسي فإن فجيعة انسانية موشكة قد تحدث في صفوف الاسرى، بل مجزرة حقيقية هي الأولى في التاريخ الانساني ترتكب بحق اسرى عزل أصبحوا تحت رحمة دولة الاحتلال الاسرائيلي.
لم تكتف دولة الاحتلال بملاحقة الاسرى في اعاناتهم المعيشية والاجتماعية وقيامها بقرصنة اموال الشعب الفلسطيني بسبب رعاية السلطة الوطنية لعوائل الاسرى المنكوبين، فنزعاتها الاحتلالية المريضة تستهدف تجريد الاسرى من مكانتهم القانونية وقيمتهم الانسانية والوطنية وتجريم مقاومتهم للاحتلال، وتسخير كل الاسباب الكفيلة بتدميرهم سواء بالقمع والمضايقات أو بنشر الهواء الاصفر السام لجائحة كورونا الذي تحول الى هواء احمر يهدد حياة الأسرى ومصيرهم.
الحرب الجديدة التي تخوضها اسرائيل في السنوات الاخيرة على الاسرى والتي تحظى باجماع كافة احزابها اليمينية هي الحرب على الاسرى وحقوقهم وشطب وجودهم الرمزي والثقافي والانساني، وهي تعتقد انها استوفت مشروعها الاستعماري العسكري الاحلالي بإقامة ما يسمى اسرائيل الكبرى، واكملت مشروعها الاستيطاني وقضت على حلم اقامة دولة فلسطينية مستقلة، وبقي عليها الجزء الاهم والاستراتيجي وهو القضاء على الثقافة الوطنية وتحطيم الكرامة الفلسطينية، فالنصر بالنسبة لها لم يكتمل الا باستسلام الفلسطينيين وتدمير روايتهم وهويتهم الوطنية، ولان الاسرى يمثلون المعنى الجوهري لكل هذه المفاهيم الجامعة فإنها تشن هذه الحرب للسيطرة عليهم وتفريغهم من كل هذه الدلالات والمعاني.
الحرب الحديثة لدولة اسرائيل على المعتقلين الفلسطينين لم تعد فقط متمثلة بالاعتقالات الجماعية اليومية ولا بالاحكام الرادعة التي تصدرها محاكمها العسكرية ولا في سياسة المداهمات والاعتداءات داخل السجون وحرمانهم من حقوقهم الاساسية، وانما بفرض نظام تجزئة الاسرى وتفكيك روابطهم النضالية والاجتماعية وعزلهم في كنتونات داخل السجون، وتحوير اهتماماتهم من اهتمامات وطنية الى اهتمامات مطلبية ومادية وشخصانية، واستخدام ادوات ووسائل ونظريات التحكم والسيطرة لتفتيت الوحدة الجماعية للمعتقلين.
العدوان الاسرائيلي على الاسرى مستمر وبقوة وبتخطيط رسمي، مستغلة اسرائيل حالة الضعف الوطني الفلسطيني وانغلاق الافق السياسي والتهاء الناس بهمومهم الشخصية والمعيشية وبالقضايا الشكلية والرمزية، نظرية الالهاء التي يمارسها الاحتلال وكما وصفها المفكر نعوم تشومسكي تتمثل بتحويل انتباه الرأي العام عن المشاكل الهامة عبر وابل متواصل من الالهاءات والمعلومات التافهة، وهي استراتيجية استعمارية تقول: اجعل الشعب منشغلاً منشغلاً دون أن يكون له وقتٌ للتفكير بمسائل التحرر الوطني وحق تقرير المصير.
الدولة الاسرائيلية المريضة والمصابة بالغرور والتعالي وصل بها الامر الى ملاحقة روح الشهيد الاسير، فهي لا تسجن الاجساد الشهيدة فقط بل الارواح الشهيدة، لا تفرج عن جثامين الشهداء وانما تعتقلها في مقابرها السرية او ثلاجاتها الباردة، واكثر من ذلك فانها ترفض الافراج عن اسير في حالة احتضار ليموت بين ذويه كما جرى مع الاسرى الشهداء داود الخطيب وكمال ابو وعر وبسام السايح وسامي ابو دياك وفارس بارود وسعيد الغرابلي وغيرهم.
لم تشهد سجون الاحتلال حالة موت للاسرى بهذه الاعداد المتلاحقة كما حدث في العشر سنوات الاخيرة، فقد قررت اسرائيل ان تصبح السجون هي مدافن ابدية للاسرى، ومازالت مندهشة كيف استطاع الاسير كريم يونس ان يصل الى 39 عاما داخل السجن دون ان يموت، ربما هي مستغربة اكثر كيف يرضى الشعب الفلسطيني وفصائلة الوطنية ان يبقى اسرى داخل السجون طوال هذه المدة الزمنية الطويلة، يكتفي بالغناء لهم ورفع صورهم والكتابة عنهم ولكنه لا يقاتل على كل المستويات ليل نهار للافراج عنهم.
اذا كان البعض متفائلاً ببدء مرحلة سياسية جديدة بعد انتخاب الرئيس الأمريكي بايدن، فالأولى وقبل كل شيء ان يفرج عن الاسرى كخطوة اساسية لأية مفاوضات او تسويات سياسية، ولا ننسى ان هناك جرحاً غائراً في الوجدان الفلسطيني بعد ان رفضت اسرائيل الافراج عن الاسرى القدامى في الدفعة الرابعة، والجرح الاكثر ايلاماً هؤلاء المرضى والمعاقين والمشلولين والمصابين بالاورام الخبيثة يتساقطون واحداً واحدا وسنة وراء سنة، ولا ننسى الاسرى كبار السن كالاسير فؤاد الشوبكي والاسرى الذين اعيد اعتقالهم مرة اخرى يقضي بعضهم 40 عاما خلف القضبان كالاسير نائل البرغوثي، هؤلاء المعذبون لا يقبل اي عاقل في الدنيا ان يظلوا محشورين في تلك الأمكنة خارج الحياة في ظل هذا الضجيج المدوي عن السلام والاستقرار.
قال الشاعر محمود درويش:
في السجن لا تقول انتهى كل شيء، في السجن تقول إبتدأ كل شيء والبداية هي الحرية.