وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

الانتخابات وثقة الناس بقدرتها على التغيير

نشر بتاريخ: 07/03/2021 ( آخر تحديث: 07/03/2021 الساعة: 12:09 )
الانتخابات وثقة الناس بقدرتها على التغيير

منذ الإعلان عن المرسوم الرئاسي بإجراء الانتخابات، وتحديداً بعد لقاء المحاصصة في القاهرة، نهضت قوى وحراكات شبابية واجتماعية بصورة غير مسبوقة عن كل سنوات الانقسام بعد أن كانت في ركود، سيما بعد القمع الذي تعرضت له هذه الحراكات، بالإضافة إلى ما فرضته الجائحة من قيود، فالحديث عن الانتخابات أخرج الناس، وخاصة الشباب عن صمتهم الذي فُرض بسياسات تكميم الأفواه الإقصاء والتهميش.

كان من الطبيعي أن يكون مركز هذا النهوض في المناطق المهمشة، سيما تلك التي تعرضت لعدة حروب وحصار ممتد على مدى سنوات طويلة، بالإضافة لظلم ذوي القربى "فظلم ذوي القربى أشد مضاضة" خصوصاً في قطاع غزة المُحاصر. هذا ما يفسر الاندفاع حد الفوضوية الناجم عن انعدام ثقة الناس بمدى إحساس سلطة حماس بالمسؤولية تجاه معاناتهم.

ولم يتوقف الأمر عند تجاهل السلطة الشرعية، كما تقدم نفسها، لواجباتها ومسؤولياتها تجاه المواطنين في القطاع، بل انتقلت في مرحلة لاحقة إلى فرض ما سُمي "بعقوبات إدارية ومالية"، لم تؤدِّي سوى لمزيد من الإفقار والإحباط واليأس وقوداً للحركات الأصولية التي تعتمد على الغيبيات السماوية في إيجاد الحلول، وليس على سياسات الإدارة الحكيمة لمعالجة الكوارث.

لقد أدّى ضعف دور السلطة إلى شعور غالبية المواطنين أنهم يعيشون في مصائد الاحتلال، حيثُ لا يمكنهم بناء حالة وطنية تمثلهم وتستنهض الطاقات وتعيد الأمل والقدرة على التغيير. معادلة الانقسام تمددت كتساقط قطع الدومينو وصفة للتشظي وصولاً للبحث عن خَلاصات بؤرية غير فاعلة إلا كصوتٍ للشكوى والاحتجاج، أو البحث عن خَلاصات فردية بما فيها الهجرة بديلاً عن دور الجماعة الذي يتفكك دون بلورة لبديل يوقف الانهيار أو يعيد البناء.

هناك عشرات القضايا التي تبدو كالجبال أمام الناس، والاجتهادات الرائجة حول بعض حلولها لا يعكس فقط انهيار الثقة بالمنظومة الحاكمة، بل بعضها يعكس فقدان الثقة بالنفس كشعب، وبقدرته على بلورة خيارات شعبية مؤثرة تخرجه من عنق الزجاجة، فيظهر بقلة الحيلة. بل وبدأت بعض الأصوات تنادي باستدعاء الحل الخارجي أي ترسيم كارثة التذويب.

الأغلبية الشعبية يتعاظم قلقها على حياتها من خطر الوباء "كوڤيد 19" ومن طفراته المتحورة الأوسع انتشاراً والأكثر فتكاً، ويتعاظم قلقها أيضاً على مصادر رزقها دون أن يظهر في الأفق أي خطة حكومية لمعالجة الأمر، وقد انفجر غياب هذه الخطة بصورة أطاحت بمقومات الثقة بين الناس والمهيمنين على نظام الحكم، بسبب فضيحة الفساد والمحسوبية التي تصل حد الشعور بالإساءة الفادحة لأمانة المسؤولية إزاء أرواح آلاف المرضى من كبار السن، وأولئك الذين يعانون من نقص المناعة.

رد الفعل على هكذا فعل لا تعالج باستدعاء التدخل الأجنبي الذي انبرى بالدعوة له بخفة بعض النشطاء الذين بالجوهر لا يثقون بقدرة الناس في الدفاع عن حقوقهم، بل ربما، وهذا يمكن بحثه كأحد الخيارات، بضرورة تبنّي موقف وطني ودولي يلزم اسرائيل بمسؤولياتها القانونية كدولة احتلال، كما سبق وأعلنت عدد من مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية والدولية، بما يستدعي فضح سياسة "الابارتايد" الإسرائيلية. وليس باستمرار صمت المتنفذين عن هذه السياسة مقابل ما بدا وكأنها "رشوة" قدمت بمئات أو آلاف الطعومات لمراكز القوى والمتحلقين حولهم من خلف ظهر الناس، بعيداً عن معايير الأولويات التي أعلنتها منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة الفلسطينية نفسها.

هذا الواقع يطرح سؤالًا حول ماهية السلطة بوضعها الراهن، والذي لا يمكن معالجته بدعوة المجتمع الدولي لتوفير الطعومات للبلديات ولا بتكليف المهمة للأونروا للقيام بهذه المهمة لما لذلك من مخاطر كبرى، رغم أهمية الحصول على اللقاح وضمان العدالة والشفافية في توزيعه، بل بتحشيد القوى والحركات الاجتماعية ضد هذا الفساد والتسيّب الذي ترافق مع إهمال وتقصير واضح في مسألة التعاقد مع شركات إنتاج اللقاح المختلفة، والتي تشي بإهمالٍ يمكن وصف حده الأدنى بالرهان على تبرعات لن تأتي، واستمرار "المكابرة" في عدم تحميل إسرائيل مسؤولياتها كدولة احتلال وفق القانون الدولي ومسؤوليتها لمواجهة الوباء وتطعيم كل الناس.

في ظل غياب الشفافية وتفاقم تبعات هذه الفضيحة يصبح مطلوباً من المجتمع ومؤسسات القطاع الصحي الخاص والعام وشخصيات وطنية كفؤة ومشهود لها بالنزاهة لتشكيل هيئة صحية شعبية تضم وزارة الصحة مع هذه الجهات لضمان متابعة تنفيذ كل ما تتطلبه عملية شراء وتقديم اللقاح وفق الأولويات المعلنة، وبما يضمن النزاهة والشفافية، ذلك دون التغاضي عن محاسبة شفافة وعلنية أمام محكمة تشكل خصيصاً من قضاة نُزهاء لمحاكمة من يقف وراء هذه الجريمة التي تصل حد تهديد السلم الأهلي ومكانة السلطة ذاتها.

هذه الفضيحة في دول تحترم حق الإنسان في الحياة تستدعي فوراً استقالة الحكومة، واستنهاض صيغ فعالة للرقابة الشعبية ومحاكمة الفاسدين وليس استدعاء الأجنبي. فنحن شعب يناضل من أجل الحرية والكرامة والعدالة في تقديم الخدمات. ومن واجه الاحتلال من أجل حريته من حقه، بل من واجبه، أن يعلّي الصوت بشجاعة ضد الفساد، خاصة ما يتعلق بحياة أبنائه.

ذات الأمر وبذات المضمون كان وما زال من المفترض التعامل به مع الأزمة الاقتصادية الناجمة عن حالة الوباء، وتداعياتها الاجتماعية بما في ذلك اهتزاز وحدة النسيج المجتمعي، وما يمكن أن يولده من تبعات خطيرة على الصعيد الاجتماعي.

من الممكن، بل وهناك ضرورة قصوى، لإشراك المجتمع في مواجهة هذه التداعيات، بإحياء ثقافة التكافل والتضامن الاجتماعي الممتدة في التاريخ والتراث الفلسطيني، وليس أهمها نظام العونة والعمل التطوعي، كذلك تجربة الانتفاضة الأولى في مواجهة سياسات القمع الاقتصادية والاجتماعية وحتى الأمنية، حيث انتشرت آلاف المبادرات التطوعية للتضامن مع المخيمات تحت منع التجول وتزويدهم بالمواد التموينية، ولجان التضامن مع أسر الشهداء والأسرى، وصولاً للتعليم الشعبي. ذلك بإشراك الشعب في المسؤولية واستنهاض الخير الذي لم ولن ينضب في الناس، عبر صندوق شعبي مستقل يضع آلية شفافة ودائمة جوهرها التكافل الأهلي وصولًا لبرنامج من أسرة لأسرة، وبالإمكان توظيف التكنولوجيا والبرمجة بالتنسيق مع الهيئات الحكومية وغير الحكومية لتنفيذ هذه العملية التي تقوم على الشفافية التشاركية، كي يتلقى المساعدة كل من يستحقها بكرامة ودون واسطة أو محسوبيات فئوية. وما لهذا الأمر من قيمة أخلاقية وإنسانية في تقوية النسيج الاجتماعي والتضامن الوطني كأساس للوحدة الشعبية.

لمواجهة تداعيات الوباء على أرزاق الناس بفعل الإغلاقات المحكمة في البداية والفوضوية دون جدوى فيما بعد، وصل بعض مستشاري الحكومة اقتراحات عملية لإشراك المجتمع، ولكنها وُضعت جانباً واستُبدلت بتكليف فئوي للجان سميت بلجان الطوارئ لتعين نفسها الوكيل الحصري للتبرعات الشعبية، وعندما ثبت فشلها استدعيت واجهة من القطاع الخاص ولم تتمكن من التطور أو الاستمرار لذات الأسباب المتصلة بالثقة في الجهات الرسمية.

وللأسف بدلًا من استخلاص العبر والدروس، تستمر سياسة التهميش للفاعلين في الحقل العام، وتستمر سياسة إحكام المزيد من السيطرة والتحكم بقوى المجتمع ومؤسساته الأهلية من خلال المرسوم الأخير الذي يقيّد الخناق على دور وحرية العمل العام.

من الواضح تماماً أن هذه السياسات الحكومية والقرارات بقوانين، بما فيها تعديل قانون السلطة القضائية، مسارها الجوهري هو الإمساك بحقوق الناس كأداة للسيطرة وليس أي شيء آخر، والمضي قدُمًا باحتكار السلطة وبندول ساعة الزمن والتيه في الصراع البيني على الإنفراد بها والتحكم بمواردها لأغراض فئوية عبر انقسام مستمر منذ خمسة عشر عامًا أو التسليم بالمحاصصة واقتسام هذه السلطة بين المهيمنين على نظام الانقسام السياسي.

إن لم يتمكن المجتمع وقوى التغيير المستقلة، من كتل انتخابية مستقلة أو حراكات شبابية واجتماعية، من تقديم حلول ملموسة لأزمات المجتمع، وبحيث تستطيع أن تتحول لقاطرة تغيير جوهرها المواطن ودوره كأساس لهذه الحلول العملية الملموسة لهذه القضايا الاجتماعية المتفجرة، والتي بمجموعها تُمكِّن المواطن من استعادة دوره والنهوض للدفاع عن حقوقه المدنية، والتي مع غيرها من حلولٍ لقضايا أخرى يقف على رأسها النظام الصحي برمته والمنظومة التربوية وقضايا المرأة وحقوقها الكاملة بالمساواة وقضايا الشباب والبطالة، تُشكل جوهر مهمات إعادة بناء الحركة الوطنية والنظام السياسي انطلاقاً من القاعدة للقمة، ومكانة المواطن في قلب هذه العملية.

هذا جوهر وظيفة الإنتخابات والحراكات التي يقفز في مقدمة أولوياتها وقف نزيف الإنكفاء والإحباط ليكون الناس قادرين على الثقة بحقوقهم في حياة محترمة يستحقونها وبقدرتهم على الصمود ومواجهة خطر تصفية حقوقهم.