|
خير الدين حسيب: سليل العروبة الثقافية
نشر بتاريخ: 20/03/2021 ( آخر تحديث: 20/03/2021 الساعة: 17:38 )
في أواسط السبعينات، كان المشرق العربي تحديدا، يعبر مرحلة تتشكل فيها عوامل انتكاس كثيرة، بعد ستينيات الوعد والرهانات في التحرر والكرامة والإنعتاق. غاب جمال عبد الناصر وهول حضوره في مطلع العقد ، وتجنح خليفته أنور السادات، وأخذ مصر وثقلها بعيدا عن مداراتها وعواطفها ومصالحها. كما اندلعت الحرب الأهلية في لبنان بأهدافها التي كانت ترمي لتدمير مكان اندلاعها كحيز عربي من نوع خاص قادر على إنتاج نموذج في السياسة والحرب والفن والتجارة.. وإشغال محيطه وإجهاضه. وبدأت تتفكك منظومة قيم وارتباطات وحس عام حكمت مواقف العرب على نحو أو أخرى من قضاياهم المختلفة، لصالح منظومة أخرى سلبية حلت مكانها، ذهبت بهم وسلمتهم "لأيادي سبأ". وبشكل عام فقد جرى خلال هذا العقد، تأسيس البنية التحتية لالتباسات العرب المضنية التي لعبت دورا بنيويا هاما في تشكيل أزماتهم المتنوعة على مدار العقود التالية. في هذا الخضم كان هناك رجل مؤهل، مهنيا وفكريا، يغادر ارض الرافدين وأهلها بما هم"أصحاب العواطف الكلية" على ما قال فيهم أبن خلدون يوما، ويتجه إلى لبنان المزدحم بكل الوقائع والاحتمالات الخطرة معا،حاملا نفسه ومسكونا بفكرة العروبة الثقافية حتى صار من كبار الدالين عليها،منتميا لحوزة الذين "ما بدلوا تبديلا". *** كان لبنان في السبعينيات حيزا للانشغالات الكبرى التي تهم العرب، منبرا وملاذا : للصحافة والحرية والسياسة والعروبة والفن وغير ذلك. وأصبح مستقرا للحالة الفلسطينية المقاومة الهائمة على وجهها، بما لها وما عليها. ثم صار مسرحا لحرب ضروس اختلط فيها الأهلي بالإقليمي بالدولي على نحو معقد. خير الدين حسيب ابن الموصل ذات الربيعين المقيمة منذ الأزل في أعالي العراق، أسس فكرته في مركز تحول لحالة وحركة فكرية، وصار بالاستحقاق من بين أهم ما أنجزه العرب في بقايا لحظة نهوض تلاها عصر انتكاس عميق، وقد تعقب فكرته في كل مدار ممكن .لقد كان مركز دراسات الوحدة العربية الذي ترأسه الراحل الكبير لأربعين عاما، حيز فعلي ومجازي للعروبة الثقافية، واحد أهم المكتسبات الباقية في العمل ألتشاركي العربي الأهلي الممتد من مشارق العرب إلى مغاربهم، معني بهندسة الوعي والوجدان والمصير اللائق والمصالح الحيوية للعرب وضرورات تحققهم المناسبة في التاريخ. مادت الأرض ومالت بلبنان وبالعرب معا، واختلط الحابل بالنابل في حياتهم، إلا أن مركز دراسات الوحدة العربية وخير الدين حسيب، بقيا واستمرا وظلا: موقفا وموقعا، صوتا و صدى،كعلامة ودليل يصوب الوعي نحو الأفق المناسب ويقدم إسهامه في رسم الدروب التي تليق بالعرب وبحضورهم في الزمن وشروط هذا الحضور. ورغم ما نال مركز دراسات الوحدة العربية من أحوال العرب المائلة في حقبة الانتكاس المديدة،إلا أنه بقي ملتحما بصبر حول هدفه وفكرته واستمراره. *** بادر خير الدين حسيب والمركز، وتابع ورعى واقتفى، كل نية أو جهد أو فكرة أو مشروع يرتبط بالعروبة الثقافية وخياراتها وحاجاتها ومتطلباتها، وتعامل بروحية شريك نزيه، واتسع صدره الفسيح بكرم أصيل، لكل محاولات الذين سعوا لقول شيء آو القيام بفعل يلاقي الضرورة والحاجة و المصائر والأقدار كما يتعين، ورمى ما استطاع من الحجارة في مياه العرب الحائرة. الجمعية العربية لعلم الاجتماع، والجمعية العربية للعلوم السياسية والمنظمة العربية لحقوق الإنسان، والمؤتمر القومي العربي، والمؤتمر القومي الإسلامي هي مؤسسات وهيئات وفضاءات وأنشطة كان فيها لخير الدين حسيب ومركز دراسات الوحدة العربية اليد الطولى، لقد كان مبادرا أو مشاركا في تظهيرها كمؤسسات، وكان راعيا دائما لها ولغيرها وهذا الأمر يتواصل عند من ورثوه . هذا إلى جانب أذرع المركز وأنشطته: مجلة "المستقبل العربي" والمنظمة العربية للترجمة، ومئات الندوات والمؤتمرات والملتقيات التي تناولت شتى شؤون الأمة، وآلاف الكتب والنشرات المطبوعة، وحركية فكرية وثقافية وسياسية عبرت عن نفسها في كل الاتجاهات، وتمكن من تحقيق حضور نقدي الطابع، مُقدر، مُعترف به ومرموق عند زعامات الحقبة: من جمال عبد الناصر إلى حافظ الأسد إلى صدام حسين إلى أحمد بن بله إلى ياسر عرفات إلى إميل لحود وسليم الحص. *** خير الدين حسيب صاحب القامة المتطلعة والمقام المشغول بقضايا زمنه، واحد علامات جيل العروبة الثقافية ومقاوماتها في مرحلة صعبة صار في ذمة الله، بعد أن وافته المنية قبل أيام في بيروت، المدينة التي ألفها وأحبها. فقيد ترك ورائه ميراثا وحضورا وأثرا يجعله حيا في الذاكرة، على نحو خليق بالتقدير جدير بالاحترام والاستذكار. *كاتب وأستاذ جامعي من فلسطين، أمين عام الجمعية العربية لعلم الاجتماع. |