|
دحلان ولغة الخطاب السياسي: الواقعية.. التجاهل.. الثقة
نشر بتاريخ: 23/03/2021 ( آخر تحديث: 23/03/2021 الساعة: 21:57 )
الكاتب : د. أحمد يوسف لكل شخصية مفاتيح تُمكِّنك من قراءتها وتقييمها، بعيداً عن التحامل والشنآن، الذي اعتادت عليه ألسنة الناس والخصوم والأقران. ففي حالة الشخصيات الاعتبارية مثل "محمد دحلان" تعلو مع الخلاف - عادة - لغة الاتهام والتحريض والتشويه بصورة لا أخلاقية يغيب عنها الإنصاف والأمانة أحياناً، وقد تُحرجك تفسيراتها -فيما بعد- حين تسمح لعبة المصالح للتعامل معها، وأخذ الصور التذكارية إلى جانبها، ورسم ابتسامة عريضة تعبيراً عن صداقتها!! دحلان.. فكرة كتاب في العام الماضي، كنت أود استكشاف شخصية النائب محمد دحلان، وتناول كل ما طالها من اتهامات وادعاءات وشبهات ومبالغات عن حالة القدرة الأسطورية والعلاقات!! ولكنَّ أكثر من صديق مقرب نصحني بالتريث، والابتعاد عن حقل الألغام، خشية الوقوع في "الحِمَى"؛ أي المحظور. فكرت مليِّاً واستخرت، ثم رجعتُ لنفسي فاتَّهمتُ حَصاتي، وإن كانت الفكرة ما تزال تراودني من حين لآخر، فالرجل فرض نفسه على المشهد السياسي والإنساني والإعلامي، ولا أستبعد أن يكون مرشحاً رئاسياً يوماً ما. مرَّ عامٌ على آخر لقاء جمعني به، حيث ما زلت أتابع مشهد عطاءات الرجل وحراكات جماعته في التيار الإصلاحي الديمقراطي، إذ لم يتوقف تواصله ومحاولات تقاربه مع "الكلّ الفلسطيني" من خلال جماعته، والتي توسعت علاقتها أكثر فأكثر مع حركة حماس، حتى قال قائلهم: هل سنكون شركاء في الانتخابات القادمة؟! قلت في نفسي، وأنا أراجع تطورات العلاقة بينهما خلال السنوات التسع الماضية: إن لم تكن الانتخابات القادمة فربما التي تليها، فالسياسة هي ملعب يتنافس فيه الخصوم، وليس ساحة للرماية وإطلاق الرصاص، وقد يأتي الوقت للتحالف بين الطرفين إذا اقتضت حالة الكسب والحفاظ على الوجود. اليوم نحن مقبلون على انتخابات تشريعية في مايو القادم، والحديث عن القوائم والتحالفات مسألة مألوفة في عالم السياسة، ولذلك سأتجرأ - ولو في مقالة- للكتابة عن شخص دحلان؛ باعتباره والتيار الذي يمثله هما أحد مكونات الخريطة الانتخابية، والتي ستشهد رئاسياتها -إن جرت- أكثر من منافس للرئيس عباس، وقد يكون دحلان واحداً من بينهم؟ بادئ ذي بدء، أُقرُّ واعترف بمدى حساسية الحديث عن شخصية دحلان؛ لأن ذلك سيضعك في دائرة الاتهام والتشكيك، إلا أن الظرف السياسي المتحرك أكثر من ذي قبل يفرض علينا الحضور والابتعاد عن حالة التجاهل والغياب. إن أمانة المسؤولية في عملية التنوير المطلوبة قبل الانتخابات، تفرض علينا ألا نكون غياباً في حضرة الشهود . بداية؛ أنا لا أَخفي أن لي علاقة صداقة مع دحلان تعود جذورها إلى ما قبل استشراء الخلافات السياسية والأمنية معه، حيث كنت التقيته أول مرة في واشنطن، خلال مرافقته للسيد محمود عباس عندما تمَّ تعيينه كأول رئيس للوزراء عام 2003، ثم تواصلت تلك العلاقة بيننا بعد عودتي إلى أرض الوطن عام 2006، حيث كانت تجمعنا بعض لقاءات العمل الحكومي من حين لآخر. ولقد سبق لي أن قلت رأيي في المواجهات التي استعرت بين فتح وحماس في يونيو 2007، والتي أتهم فيها دحلان، وأدَّت إلى قطيعة واستقطابات حادة في الشارع الفلسطيني، وتسببت في الاطاحة بوحدة الوطن وتشظي مكوناته النضالية، وما يعنيه كل ذلك من تمزيق لنسيجه الاجتماعي، والإساءة لهيبتنا ومكانتنا الوطنية. بعد تلك الأحداث المأساوية الدامية، والشرخ الطولي والأفقي الذي طال حالتنا السياسية، وتصدَّعت معه كل مرتكزات الأمن والاستقرار، حيث استل الجميع سيفه، ودخلنا في معارك إعلامية حمي وطيسها، بادعاء الكل في المشهد الوطني أنه "ابن جلا وطلاع الثنايا"!! حاولت حماس إدارة الأوضاع السياسية والأمنية والمعيشية في قطاع غزة، ولكن في ظل الخصومات والصراعات الداخلية كان من المستحيل أن نبني وطناً، وأن نتمكن من رصِّ الصفوف، حيث كان معسكر الخصوم يعمل على إفشال كلِّ مسعىً للنجاح والخروج من نفق الأزمات، التي أحاطت بقطاع غزة، واستحكمت حلقاتها من كل جانب. ولسنوات عشرٍ عجاف أو أكثر، تعاتبنا كثيراً كتيارات سياسية بأيدولوجيات وطنية متشاكسة، وأطلقنا العنان للاتهامات والمناكفات، ولم نتمكن –للأسف- من جسر هوَّة الخلاف الواسعة التي استشرت مع استمراء الملاعنات وتبادل نعوت الخيانة والعمالة والظلامية والتبعية ونحو ذلك!! نعم؛ كانت هناك محاولات تجري في الخفاء لرأب الصدع، ولكنَّ غياب الثقة وحجم الشكوك كان كبيراً، مما حال دون التوصل لأي مصالحة، وإن حصل شيء من الانفراج وتحققت بعض التفاهمات. لا شك أن فرص المصالحة كانت متاحة، ولكنَّ المكر السيء وقلة الخبرة في مجال العمل السياسي حالت دون ذلك، وقد تعقدت الأمور أكثر حين دخلت العلاقة مع بعض الدول على خط التقارب واجتماع الشمل، فحالت حساباتها دون ذلك. نفقٌ في نهاية الضوء!! كنا نُدرك يوماً بعد يوم صعوبة استمرار العلاقة على هذا الشكل من الكيد والتوتر.. ومع الحروب العدوانية الثلاث التي تعرَّضت لها غزة، وحالة الصمود الأسطوري في مواجهة جيش الاحتلال، بدأ الكل يدرك بأن الحل للخروج من نفق الانقسام والتشظي بأيدينا كفلسطينيين، ولن يتأتى الخلاص من الخارج، وأن على كل طرف أن يتراجع خطوة أو خطوتين ليحقق قفزة طويلة إلى الأمام. كانت البداية هي محاولة فك الاشتباك مع معسكر الرئيس عباس، وقد قدَّمت قيادة حماس الكثير من التنازلات، وأبدت رغبتها في رفع قبضتها عن قطاع غزة، ولكنها كانت تتطلع لضمانات تحمي سلاح المقاومة ومستقبل آلاف الموظفين من كوادرها. للأسف، لم تتلقف قيادة فتح في السلطة تلك الرسائل، واعتبرتها استسلاماً جراء حالة من الضعف والوهن التي وصلت إليها حماس، وأن سياسة الحصار وتجفيف الينابيع التي تبنتها بالتنسيق مع دولة الاحتلال والجوار قد آتت أُكلها، فقامت بمضاعفة إجراءاتها العقابية على القطاع، حتى لامست أكثر من شريان حيوي فيه، مما أفقد قيادة حماس الثقة أو حتى محاولة بنائها مع الرئيس عباس والملأ من حوله. دحلان.. سيف ذو حدين يقولون: في السياسة، لا عداء دائم ولا صداقة دائمة بل مصلحة دائمة. أدركت حماس أن خروجها من القمقم يتطلب بعض السحر والدهاء واللعب بالبيضة والحجر، ولكنَّ مساحة الحراك المتاحة قد لا تكون كبيرة بالقدر الكافي، وهي مغامرة محفوفة بالمخاطر، ولكن المجازفة لا بدَّ منها حتى تُوهب للمغامرين الحياة. كان دحلان وجماعة التيارالإصلاحي يراقبون المشهد في صمت، ويحاولون إظهار تعاطفهم مع الأحوال المعيشية في قطاع غزة، من خلال مَدِّهم ليد العون للطلاب الجامعيين والأسر الفقيرة والعائلات المحتاجة عبر جمعية التكافل الاجتماعي، وكانوا - بذكاء وحكمة- يقومون بتوصيل رسائل لحركة حماس تعبر عن رغبتهم في فتح صفحة جديدة في العلاقة بينهما. ومع سياسة التجويع وسَدِّ االنوافذ والأبواب التي اعتمدتها السلطة والرئيس عباس، لم يعد هناك من مخرج إإلا "ابتلاع المنجل"، والتقارب مع دحلان وجماعته في قطاع غزة. وعليه؛ كانت بعض اللقاءات تجري من حين لآخر بين جماعة التيار الإصلاحي وشخصيات من حماس، وهي التي مهَّدت الطريق لجلسات وحوارات أوسع اعتمدت "دبلوماسية الموائد" في المناسبات الاجتماعية والندوات الفكرية، حتى لا تُثير الشبهات واللغط داخل الساحة الفلسطينية وبين كوادر حركة حماس. بالطبع، كانت خلاصة تلك اللقاءات تأخذ طريقها إلى قيادات الصف الأول في الطرفين، وقد لعبت المساعدات التي كانت تقدمها جمعية التكافل الاجتماعي، والتي وصل خيرها لكوادرٍ من حماس، دوراً إيجابياً في تعزيز فرص اللقاء والحوار، وإفساح المجال للعمل المشترك بين الطرفين. كانت هناك بعض اللقاءات التي تتم في الخفاء، ويتحقق معها حراكات على الأرض. ولعل موقف دحلان في إقناع الجانب المصري بأهمية التفاهم والتواصل مع حركة حماس هو نقطة التحول والانفتاح الحقيقي في العلاقة، حيث سهَّلت لقاءات سمير المشهروي؛ الرجل الثاني في التيار الإصلاحي، بقيادات الصف الأول من حماس في مصر إلى تحقيق "اختراق حقيقي" بلقاء دحلان – السنوار بالقاهرة في يونيو 2017م. لم يمضِ لقاء دحلان -السنوار بدون توترات داخل حركة حماس، لكنَّ كلمات دحلان وتصريحاته الإيجابية المتكررة عن الحركة خففت من حجم الاحتقان،إذ بدأ التفهم والوعي يتزايد بأن السياسة لها متطلباتها، وان رفع الحصار عن قطاع غزة والتخفيف من أزماته الخانقة، التي بلغت لأوائها سقف الحلقوم، تحتاج إلى مزيد من الخطوات والتحركات السياسية، ولكن يتوجب توخي الحذر الشديد حتى لا تخسر حماس داعميها الآخرين في المحيط العربي والإسلامي. لذلك، كانت العلاقة مع دحلان والتيار الإصلاحي تتحرك ببطء وتأخذ طابع السرية، ولكنها -في الحقيقة- كانت تكبر وتتعاظم من حيث بناء الثقة وإمكانية الشراكة مستقبلاً. لقاء العربية.. الواقعية في لغة الخطاب تابعت كغيري لقاء قناة العربية الأخير مع دحلان، والذي تحدث فيه عن الانتخابات القادمة والفرص المتاحة للتحالفات والتغيير، وكنت أحاول بتجرد قراءة مفردات الرجل السياسية ونظرته الاستشرافية للمستقبل، والتملي في تعبيرات وجهه وحركة يديه، للخروج بتقييم منصف وعادلٍ للقاء، بعيداً عما نتفق أو نختلف فيه معه، وقد جاءت الخلاصة على الشكل التالي: أولاً) إن الرجل كان يتحدث بأريحية وبِنفسٍ وطني تجاه الكل الفلسطيني، حتى في تفسيره لخلافه مع الرئيس عباس والاتهامات التي وجهها إليه وأشاعها عنه. ثانياً) ثقته بأن المستقبل هو لخيارات الشعب، وفرص تغيير النظام السياسي بشكل يسمح للجميع بأخذ دوره، وفق مقتضيات التحرير والعودة. ثالثاً) الجميع أخطأ بحق الوطن، والكلُّ مطلوب منه الاعتذار والتنازل من أجل الوحدة الوطنية. رابعاً) لا اقصاء لأي فصيل أو مكون وطني، وحماس والجهاد هما جزء من الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية الحيَّة. خامساً) في ظل التوافق الوطني، فإن إمكانيات الحلول والخروج من المأزق الوطني تبدو قائمة. ختاماً.. دحلال والمكوِّن الجيني ذات يوم من شهر أغسطس 2020، التقيت د. أحمد؛ الأستاذ الأكاديمي بجامعة الأزهر، وهو أحد أقرباء دحلان، وسألته عن خَلفيِّة "أبو فادي" العائلية، فأجابني بالقول: إن شخصية محمد يوسف شاكر عبد النبي دحلان تبدو من الناحية الجينية أنها مركبة من ثلاثة مكونات أساسية شكلت مدونة سلوكياته: الأولى؛ الطيبة والتسامح وعدم الافراط في الخصومة، وهي طبيعة ورثها عن جد والده "عبد النبي"، الذي كان يتمتع بذلك. أما الصفة الثانية؛ وهى الصرامة والدهاء، فهي صفة موروثة من جدته، التي تنحدر من عائلة السرِّ، وهي إحدى عائلات ربع (الشوام)، أي شاميِّة الأصل، وكانوا هناك في قرية حمامة يقولون: "بصة نار ولا شوامية في الدار"، للدلالة على جبروت النساء الشواميات. أما الصفة الثالثة؛ الشطارة والفهلوة والذكاء السياسي، فكانت موروثة من والدته الحاجة سرية أبو سلطان، وهى من عائلة تنحدر إلى الأصول المصرية . وإذا أضفنا إلى ما سبق تأثيرات المخيم، وبصماته المشهودة في شخصية دحلان، فإن علينا أن نفهم جدلية الحب والبغض، وأن نمارسها بعقلية وحكمة "هَوناً ما"، والتي نحن بأمس الحاجة إليها في قادم الأيام، إذا ما أردنا التأسيس لحياة ديمقراطية لا تقصي أحداً، والكل فيها شريك وطني؛ له وعليه ما لنا وما علينا. |