وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

عنقود التكنولوجيا والإدارة العامة.. نحو اقتصاد رقمي فلسطيني

نشر بتاريخ: 28/03/2021 ( آخر تحديث: 28/03/2021 الساعة: 18:46 )
عنقود التكنولوجيا والإدارة العامة.. نحو اقتصاد رقمي فلسطيني

بقلم: د. أمجد غانم- الأمين العام لمجلس الوزراء

واجهت الحكومة الفلسطينية الثامنة عشرة، برئاسة الدكتور محمد اشتية، منذ بدء توليها لأعمالها في مطلع العام 2019، العديد من الأزمات المتتالية والمركّبة، التي حدّت من قدرتها على تنفيذ برامجها التنموية، وتمثلت بمواقف الإدارة الأمريكية السابقة المعادية لحقوقنا الوطنية وكذلك إجراءات الاحتلال بقضم أراضينا وقرصنة أموالنا، وأخيراً جائحة الكورونا التي ألقت بنتائجها السلبية على مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية. ومع ذلك، تمكنت الحكومة من تجاوز معظم هذه العراقيل التي اعترضتها رغم محدودية الموارد وزخم الإحتياجات، من خلال حلول مناسبة ضمن الإمكانات المتوفرة وبدعم وتعاون وتنسيق مستمر مع القيادة السياسية الفلسطينية.

جاءت خطة الحكومة الثامنة عشر مبنية على منهج التنمية بالعناقيد (Clustering) بما يمكن من الاستفادة من الميزات التنافسية لكل محافظة من محافظات الوطن، وتعظيم هذه الميزات من الناحية الاقتصادية. ومن ناحية أخرى تستند فكرة العناقيد إلى أن التنمية الفعالة إنما هي عمل جماعي للدوائر الحكومية وتتجاوز مسؤولية وزارة أو دائرة حكومية بعينها، كونها عملية متكاملة تقوم كل مؤسسة مشاركة فيها بدورها ضمن خطة العنقود ووفق سلسلة مسؤوليات ومؤشرات تنموية واضحة تُمكّن من المتابعة والتقييم. وشملت استراتيجية العناقيد الزراعة في طوباس، وجنين، وطولكرم، وقلقيلية والأغوار، والعنقود الصناعي في الخليل ونابلس، وعنقود العاصمة في القدس المحتلة، والعناقيد المتنوعة في قطاع غزة، والعنقود السياحي في بيت لحم وأريحا، وعنقود آخر متخصص في التكنولوجيا والإدارة العامة مركزه رام الله والبيرة. حيث هدفت الحكومة من هذه العناقيد لتحفيز الإنتاج الصناعي والزراعي والسياحي والخدمي من خلال مبادرات تنموية في مجال التكنولوجيا، وحوكمة الإدارة العامة والخدمات الحكومية، والاستثمار في الطاقة النظيفة، والموارد المائية، وتقوية إنشاء المدن الصناعية في كافة المحافظات، وأولت عناية كبيرة للقدس والشباب والمناطق المهمشة والأغوار، وضمان الحريات العامة وتعزيز الرواية الفلسطينية.

وجاء "عنقود التكنولوجيا والإدارة العامة" كجهد حكومي يهدف إلى تحقيق نقلة نوعية بالخدمات الحكومية، وتسريع إجراءات الإدارة العامة والترابط البيني بين المؤسسات الحكومية، وتحسين بيئة الأعمال لتشجيع وتحفيز الاستثمار. بما يواكب الثورة الصناعية الرابعة، أي ثورة الاقتصاد المبني على المعرفة، التي تتطلب إدماج التكنولوجيا الرقمية في القطاعات الإنتاجية كالزراعة (AgriTech)، والتكنولوجيا المالية (FinTech) وتكنولوجيا التعليم (EduTech) والتكنولوجيا السياحية (TourisimTech) والذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence)، لإبتكار منتجات ذات قيمة عالية تنافس المنتجات العالمية. وتكمن أهمية إدماج التكنولوجيا في هذه القطاعات كونها أصبحت عامل إنتاج أساسي في العملية الانتاجية وممكّن رئيسي لهذه القطاعات، الأمر الذي يزيد من القدرة التنافسية للشركات وتفتح أسواقاً جديدة لها.

ومن القطاعات الواعدة لدينا قطاع الخدمات والبرامج الإلكترونية والتطبيقات الذكية والابتكارية وخدمات الـ (Outsourcing)، بما يمكن من نقل المنتجات الناتجة عنها بواسطة التراسل الإلكتروني من المؤسسات والشركات والأفراد المُنتِجة في فلسطين إلى دول العالم المستفيدة من هذه الخدمات. ومن المرجو من هذا العنقود أن يرفع قيمة مساهمة قطاع التكنولوجيا والاتصالات إلى نسبة 10% من الناتج خلال 3 سنوات علماً بأن النسبة الحالية 5%، من خلال. ولكي تصبح فلسطين بلداً جاذباً لشركات التكنولوجيا العالمية (outsourcing destination) لا بد من توفير أكثر من 15000 مبرمج ومدير معلومات في مجالات البرمجية الحديثة وأدواتها، وصولاً لبناء "مجتمعات ذكية" تعزز قدرات جميع الجهات الفاعلة في القطاعات المختلفة بما يشمل رياديي الأعمال والشركات الناشئة.

لقد جاء هذا العنقود ليضع أولى الخطوات نحو اقتصاد رقمي فلسطيني كعنوان وهدف محوري يستطيع الانطلاق إلى العالمية من ناحية، ويساهم في توجيه فلسطين نحو اقتصاد يقوم على المعرفة، يوظف قنوات التجارة الالكترونية ويقدم خدماته الحكومية وغير الحكومية بطرق عصرية من ناحية أخرى، مما يتطلب التركيز على الاستثمار في رأسمال البشري الفلسطيني، وبناء القدرات المحلية لإنتاج وتسويق خدمات المعلومات والتكنولوجيا من القطاعين الحكومي والخاص، وتقديمها محلياً وفي الأسواق العالمية بسهولة نسبية، كما تتطلب هذه الخدمات تواصلاً الكترونياً فعالاً، تشمل الخدمات الحكومية (E-government) التي تتجاوز 1400 خدمة تقدم لكافة المواطنين، حيث يجري العمل الآن على تحويلها الكترونيا ضمن خطة متدحرجة تبدأ بأهم 20 خدمة حكومية. وهذا يستدعي إعداد وتطبيق سياسات ونظم عمل الكترونية لإدارة عمليات الوزارات وتدريب كوادر الوزارات عليها، وتعزيز بيئة وثقافة عمل جديدة تقوم على الكفاءة والإنتاجية بعيداً عن المحددات البيروقراطية، وإنتاج مخرجات تشمل قياس وإعداد مؤشرات محلية وعالمية تبين النجاح في تحقيق الأهداف، وحالات النجاح وكيفية الاستفادة منها في تحسين الخطط المستقبلية.

سيمكّن هذا العنقود الشباب الفلسطيني من إطلاق طاقاتهم وإبداعاتهم وابتكاراتهم، وتحفيزهم على تخطيط وإنشاء مبادرات ومشاريع مبتكرة وتسويقها وتقديم منتجاتهم وخدماتهم في مجالات البرمجة والابتكارات والشركات الناشئة التكنولوجية والتعليمية والصحية والاجتماعية وغيرها. وهذا يتطلب العمل بشكل حثيث مع شركات القطاع الخاص والمنظمات الأهلية العاملة في المجال وصناديق الإبتكار، بما يضمن استقطاب وإرشاد أصحاب المبادرات التكنولوجية لإنشاء مشاريعهم وشركاتهم الناشئة، حيث تجاوزت هذه المبادرات الممولة 15 مؤسسة. كذلك يتطلب دوراً فاعلاً للدوائر الحكومية المختصة لتعزيز البنية التحتية للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، مثل خدمات الإنترنت السريع والخدمات الحكومية الذكية، والعمل مع مؤسسات التعليم والتعليم العالي لتقييم وتحديث برامج التعليم العام والعالي لزيادة الاستجابة للتطورات العالمية ووظائف المستقبل. وتشمل أيضاً العمل على تحديث منظومة التشريعات المؤثرة في هذا القطاع مثل الملكية الفكرية، التمويل والشركات والتجارة، والاتصالات، والضرائب، والقضاء والإدارة العامة وغيرها.

إن التسريع في تطبيق ومتابعة "عنقود التكنولوجيا والإدارة العامة" أصبح أولوية كبرى أمام الحكومة الفلسطينية خاصة في ظل جائحة كورونا، وذلك لتحويل هذا التحدي إلى فرصة لأتمتة جميع الخدمات الحكومية، والمواءمة مع التغييرات التي شهدها العالم، والتغلب على آثار هذه الجائحة بما يساهم في الحفاظ على الأعمال التجارية قائمة ونشِطة في ظل المتغيرات والتحديات، بما فيها الحصار الإسرائيلي غير القانوني المفروض علينا.

ويهدف عنقود التكنولوجيا والإدارة العامة الى تحقيق جملة من الغايات العامة مثل الاستغلال الأمثل لتكنولوجيا المعلومات بما يخدم الاقتصاد الرقمي الفلسطيني إلى أقصى درجة ممكنة، وربط وموائمة وتنسيق الجهود الحكومية لتطوير القطاع التكنولوجي والإدارة العامة، وأخيراً إعطاء الأولوية للمجالات التطويرية الضرورية وتحويلها لتدخلات كبرى وفق استراتيجية الحكومة.

وتركّز الأهداف الإستراتيجية لعنقود التكنولوجيا والإدارة العامة على عدة محاور:

 تعزيز البنية التحتية لتقنيات المعلومات والاتصالات بما يسهل تراسل البيانات والمعلومات وإنتاج المعارف ونشرها وتبادلها وتكييفها مع الاحتياجات وتقديم الحلول المحلية والعالمية.

 حوكمة الأعمال الحكومية ورفع كفاءة وفاعلية الخدمات من خلال تحديث البنية القانونية والسياساتية لتحقيق مزيد من الشفافية وزيادة إنتاجية حوكمة الخدمات الحكومية المقدمة للمواطن.

 إنشاء وتعزيز الشراكات الدولية والإقليمية في مجالات الابتكار وريادة الأعمال والشركات الناشئة التي تستند إلى البحث والتطوير وربط مؤسسات التعليم العالي باحتياجات السوق بغية التطوير المستمر.

 الشراكات والتعاون بين المؤسسات الحكومية وشركات القطاع الخاص مع نظرائهم الإقليميين والدوليين، من خلال المؤتمرات والمعارض والأبحاث المشتركة والاتفاقيات التجارية.

 بناء القدرات البشرية الفلسطينية في مجالات البرمجة الحديثة وعلم البيانات والذكاء الإصطناعي وتطبيقاتها في كافة النواحي الاقتصادية، الصناعية والزراعية والسياحية وصناعة الخدمات المالية والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وغيرها.

ومن الجدير بالذكر أن وثيقة عنقود التكنولوجيا والإدارة العامة لم تأتِ لتكون وثيقة سياسات عامة، بل تضمنت خارطة طريق تفصيلية تبين التدخلات لكل هدف استراتيجي ومؤشرات أداء تم تحديدها وموائمتها مع المؤشرات العالمية لقياس مدى التقدم في تحقيق الأهداف، كما تضمنت الموازنات المتوقعة وحددت المسؤوليات للجهات ذات العلاقة والإطار الزمني المتوقع للتنفيذ. ويتم متابعة تنفيذ هذه الإستراتيجية من خلال اللجنة الفنية المُشكلة من جميع الجهات ذات العلاقة من القطاع الحكومي ومؤسسات القطاع الخاص والأكاديمي، لتقدم التقارير الدورية إلى اللجنة الوزارية الخاصة بمتابعة عنقود التكنولوجيا والإدارة العامة، لعرضها على مجلس الوزراء لضمان التطبيق الفعال لخطة العنقود.

ومن المبادرات التي بدأت الحكومة بتنفيذها:

 إطلاق مشروع الخدمات الحكومية الالكترونية والبوابة الالكترونية "حكومتي" شاملاً تطوير وتفعيل الدفع الاكتروني، وإنجاز أتمتة ما لا يقل من 20 خدمة في الدوائر الحكومية، والتي سترى النور في غضون شهرين.

 تخريج وتوظيف أول دفعة من الكوادر المؤهلة (70 مبرمج) من مبادرة تأهيل الشباب في مجال البرمجة الحديثة، ضمن خطة لتدريب 5000 خريجة وخريج في تقنيات البرمجيات وإدارة صناعة البرمجيات.

 إلغاء 120 تخصص تقليدي في الجامعات الفلسطينية والاستعاضة عنهم بـ 60 تخصص وبرامج تكميلية لدعم برامج التعليم العالي ومواكبة التكنولوجيا الحديثة.

 إطلاق منصة "ابتكر" للريادة في القطاع المالي غير المصرفي، كأول منصة رقابية في فلسطين في مجال تعزيز التكنولوجيا المالية.

 البدء بتطبيق سياسة أمن المعلومات وتنفيذ حوكمة أمن المعلومات في الدوائر الحكومية وفق المواصفة الدولية ISO 27001 واستراتيجية الأمن السيبراني.

 إنشاء "بنك حكومي للتنمية والإستثمار – بنك الإستقلال" لتعزيز العمل الحكومي التنموي بهدف تمكين الشباب الفلسطيني من إنشاء شركات ناشئة وتسويقها عالمياً.

 إنجازات قانونية: تم الإنتهاء من وضع اللمسات الأخيرة على قانون الشركات وقانون الاتصالات، وتم تعديل قانون سلطة النقد بما يضمن استخدام أدوات الدفع الإلكتروني، وتم بدء العمل لإعداد قانون الشركات الناشئة. هذا بالإضافة لإنجاز العديد من أنظمة الخدمات والتراخيص وغيرها.

 إنشاء شركة حكومية للألياف الضوئية لتعزيز خدمات الانترنت وتسهيل وصولها للمواطنين.

وأخيراً، إننا في الحكومة الفلسطينية نتطلع لدور جميع الشركاء في جميع القطاعات والشركاء من القطاعين العام والخاص والشركاء الدوليين في هذا المجال لإنجاح هذا العنقود وتحويل فلسطين إلى عصر جديد نحو الاقتصاد الرقمي الذي يعتمد على المعرفة، عصر إطلاق طاقات الشباب كحلول للتحديات وتحويل الأفكار إلى مشاريع تجارية تعود بالفائدة على المجتمع الفلسطيني ككل. وهذا يشكل فرصة ذهبية لتثبيت هوية فلسطين التكنولوجية على المسرح العالمي، ليشكل رافعة للاقتصاد الوطني على المدى المتوسط والبعيد ويضع الأسس والمُمكنات التي تضع فلسطين على الخارطة العالمية الرقمية.