وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

الانتخابات واستطلاعات الرأي/ رؤية منهجية

نشر بتاريخ: 29/03/2021 ( آخر تحديث: 29/03/2021 الساعة: 11:53 )
الانتخابات واستطلاعات الرأي/ رؤية منهجية



تكثر استطلاعات الرأي العام في أجواء الانتخابات، ليس عندنا في فلسطين فحسب، بل وفي كل أقطار العالم، وفي الولايات المتحدة والكيان الصهيوني بشكل أكثر. ويجري التعامل معها من أوساط عديدة باهتمام بالغ.
بينما يبالغ البعض كثيرا بدور الاستطلاعات ونتائجها ويأخذها كمسلمات، يناصبها بعض آخر العداء، والبعض يستخف بها، ويتعامل معها آخرون بواقعية وعقلانية دون مبالغة.
من الأمور التي يجب أن يتعامل معها الناس كمسلمات بشأن الاستطلاعات، هي أن كل نتائج استطلاعات الرأي هي نتائج تجريبية وليست حقائق نهائية أو مطلقة، وبالتالي من الخطأ تقديسها، لأنها أصلا غير مقدسة، وغالبا ما تفتقر للالتزام بالقواعد والمواثيق المهنية والأخلاقية، وبالتالي يشوب علميتها ودقتها وحيادها نواقص ومثالب كثيرة.
فالاستطلاعات محركها المصلحة، والمصلحة انحياز، وتحمل المصلحة أصحابها- كما قال أحد الفلاسفة، إلى الاستعداد لتغيير البديهيات الهندسية إذا تعارضت مع مصالحهم.
إذن، ابحث دائما عن صاحب المصلحة في إجراء استطلاع الرأي! صاحب المصلحة الذي يمول المؤسسة التي تقوم بالاستطلاع وغاياته وغايات المؤسسة، وصاحب المصلحة في صياغة أسئلة الاستطلاع، وفي ترتيب الأسئلة، وفي انتقاء مجتمع وعينة الاستطلاع والقياس، وفي أسلوب اجراء الاستطلاع وتقنياته، وانتقاء المنفذين له وأماكن التنفيذ، صاحب المصلحة في النتائج المتوخاة وفي توجيه انتباه الفئة المستطلعة والرأي العام.
في عالم تحكمه المصلحة والقوة، يجب التعامل مع الاستطلاعات كأداة من أدوات السيطرة والهيمنة والاستغلال والتوظيف السياسي، وذلك من خلال إعادة تشكيل الرأي العام وتوجيهه وضبطه على إيقاع الأغلبية المراد لها الإبقاء على سيطرتها أو تعزيزها أو امتلاك السيطرة، وإحداث التغيير المرغوب من أجل ذلك، سواء عن طريق التأثير المباشر أو غير المباشر أو الاحتواء وإعادة توجيه الرأي العام.
وتتضح أهمية ما سبق في مراحل التحول والتغيير الديمقراطي كالعمليات الانتخابية للهيئات العامة، التي تحتاج فعلا لإطلاق حرية التعبير عن الرأي والانحيازيات والمواقف. والتي يجري فيها تنافس شديد، ويحاول البعض أن يروج لنفسه أو يلمع صورته وجماهيريته وقبوله من قبل الناخبين. وفي هذه المراحل، وبحكم تعقيدات النسيج الاجتماعي والسياسي، واختلاف طبيعة حركته نوعيا عن الحركات الأدنى منه كالحركة الميكانيكية أو البيولوجية التي تحكم عالم الحيوان، ثمة هنا أحاسيس وعواطف وانطباعات وتصورات ، وأفكار ومعرفة ومفاهيم ومقولات، واستعدادات ومواقف واتجاهات وأحكام، وقيم منطقية وأخلاقية وجمالية، عقلانية وغير عقلانية، تؤثر عليها ظروف وعوامل ذاتية وموضوعية، داخلية وخارجية، وبالتالي ثمة حركة دؤوبة لا تتوقف، وثمة مؤشرات غير نهائية تحكمها قوانين الاحتمال، وهي تجري في عملية تراكمية كمية ونوعية تحتمل القفزات. وما ينطبق على الفرد هنا ينطبق على الجماعة، لكن الفرد كخاص أو منفرد، قد يشذ عن العام الجمعي، فيتأثر بهذا العامل او ذاك بشكل أكبر أو أقل من الجماعة، وقد يتخلف عنها وقد يسبقها، وهو ما يفيد في الكشف عن بواعث صراع الفرد مع الجماعة وآليات تحويل الآراء والمواقف الفردية إلى جماعية، إلى رأي عام.
ان ميول الناخب ومواقفه واتجاهاته واستعداداته التي يعبر عنها، والتي تعطيها نتائج الاستطلاعات، من المفترض التعامل معها كاحتمالات للاستجابة وليست حقائق، مع التنبه إلى ان بعضها قد يعبر عن موروث ثقافي متجذر او ثقافة راسخة أو عقيدة متزمتة أو عن قوالب وأنماط تفكير وسلوك شكلتها التجربة، أو عن اكراهات لحظية اجتماعية او اقتصادية او سياسية أو فكرية أيديولوجية. ولذا من الأهمية بمكان دراسة علاقة الرأي العام بالاتجاه والسلوك وبالحكم والمعتقدات والمعرفة الثابتة والمتغيرة، وغيرها من المتغيرات ذات العلاقة.
وليس بالضرورة أن يعبر الرأي العام الذي تعطيه الاستطلاعات عن نفسه في صناديق الاقتراعات تماما كالنتائج المعطاة. فبين احتمالات الاستجابة والسلوك الفعلي ثمة مسافة، بل وقد تكون فجوة كبيرة أو صغيرة. وتشير البحوث العلمية إلى أن الانتقال إلى حسم "السلوك القولي" أي الرأي وتحويله إلى سلوك فعلي لا تزيد احتمالاتها عن نسبة 50%. فكيف سيجري العمل على تقصير المسافة او تطويلها او تعميق الفجوة أو سدها؟
هنا الأمر لا يتعلق بمن أدلى برأيه في الاستطلاع وعبر عن موقفه واستعداده فحسب، بل بمن لم يعبر أيضا، وهم بالعادة نسبة قد تكون حاسمة إذا ما تم فقدانها أو كسبها.
وثمة هنا أساليب عديد يتم اللجوء اليها لكسب المحايدين غير الحاسمين والمترددين وغير المفصحين عن رأيهم، ومنها أن تستمر الاستطلاعات بذات النهج المؤثر ووجهة التأثير المطلوب، أو بتداول النسب والأرقام وتكرارها على مسمع الناخب، أو بعمل استطلاعات أخرى مختلفة نوعيا، او عبر التثقيف والتوعية والتعبئة وأشكال المناصرة والضغط المتنوعة، وعبر اثارة العواطف وعرض حقائق مماثلة أو مخالفة، والاستخدام الأمثل وعواطف والكفؤ لوسائل الاعلام كافة، التقليدية منها والحديثة والأكثر حداثة، أو بتحويل الانتباه نحو أمور أخرى، أو بافتعال أزمات وإثارة خوف ورعب، أو نشر الاشاعات والأخبار والمعطيات والمواقف المزيفة والملفقة وغيرها من أساليب. وفي مطلق الحالات، يجب الانشداد الى المصلحة واستثمار قوتها الدافعة.
وفي مواجهة تزييف الحقائق في استطلاعات الرأي العام وغيرها من أدوات القياس، سواء باللعب بعينات الدراسة او صدقيتها ومصداقيتها العلمية ونسبة الصح والخطأ فيها، والتي تعلو كثيرا في استطلاعات الرأي الاليكترونية التي بات يلجأ اليها بشكل واسع في الآونة الأخيرة، أو بحذف بعض معطيات ونتائج الاستطلاع او تحريفها، وغير ذلك من الألاعيب التي يعرفها المختصون، وفي مواجهة الاشاعة اجمالا، يبدو أننا كغيرنا من البلدان بحاجة ماسة لقانون بشأن الادعاءات الكاذبة.
لذا فموضوعية ودقة وعلمية استطلاعات الرأي ونتائجها تعتمد على منهجيتها العلمية التي تضبط إجراءاتها المنهجية والتنفيذية في عملية القياس والحصول على المعلومات، ولهذا أيضا هنالك أهمية كبيرة للبحوث العلمية في تحليل ونقد وتقييم الاستطلاعات ذاتها ونتائجها، وفي أن تجرى إلى جانب الاستطلاعات، وأن تستخدم فيها أدوات قياس ومناهج ومقتربات ليست كمية فحسب، بل وكيفية أيضا تستطيع الكشف عما وراء الأرقام والكم وتغطية ما لم تقسه وما لا تستطيع قياسه. وقد ظهرت مؤخرا عدة ادوات لقياس الرأي تختلف عن الاستطلاعات التقليدية، خاصة مع انتشار منصات التواصل الاجتماعي وابتكار أدوات خاصة بتحليل محتواها، قد تكون أكثر دقة من الاستطلاعات إذا ما أحسن استغلالها بواسطة مختصين محترفين، ومن المتوقع أن تتسيد الادوات مشهد اختبار وقياس اتجاهات الرأي العام لعقود مقبله.
وكخلاصة، علينا أن لا نركن الى استطلاعات الرأي العام التي تجريها مؤسسات ممولة من الخارج لها أجنداتها الخاصة وتمثل الحاكمية الدولية النيوليبرالية التي تستهدف التأثير على الرأي العام وضبط العمل الوطني على مقاس رؤيتها ومصالحها، كما وعلينا ان ندقق ونمعن النظر بكل استطلاع للرأي العام وأن لا نأخذه كمسلمات، وان نجري استطلاعات رأي علمية تحتكم لمعايير المصداقية والدقة والأمانة والحيادية، وان نجري إلى جانبها الأبحاث والدراسات العلمية التي تشخص وتحلل الواقع بموضوعية وأن نجيد استخدام التقنيات الجديدة لقياس الرأي عبر تحليل المحتوى في سائل وشبكات التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية، وذلك بهدف امتلاك المعرفة الأقرب الى الحقيقة والاعتماد على معطياتها ومؤشراتها الواقعية لاستشراف المستقبل. وإلى جانب كل ذلك، وقبل كل ذلك، علينا أن نعمل مع المواطن الفلسطيني عن قرب، في الميدان وفي كافة أماكن تواجده وعمله، نتحسس همومه ومشاكله واحتياجاته، ونضع البرامج والسياسات التي تعبر بصدق عن مطالبه واولوياته والغايات والأهداف الوطنية، وان نقدم له من يراه أمينا ومخلصا وكفؤا وقادرا بجدارة على أن يتشرف بتمثيله.