|
خمارة القط الأسود
نشر بتاريخ: 01/07/2021 ( آخر تحديث: 01/07/2021 الساعة: 14:50 )
بعد هزيمة العام 1967 غرق الروائي الكبير نجيب محفوظ في حزن عميق . ولكن المثقف الحقيقي حين يحزن يبدع أكثر. ويعمل على تحويل الحزن إلى غضب ، ثم يعمل على تحويل الغضب إلى إبداع . بدأ نجيب محفوظ بكتابة رائعته ( خمارة القط الأسود ) والتي صدرت في القاهرة 1969 . وكان من خلال هذه القصص يوحي لنا بإسقاطات سياسية كبيرة وخطيرة . وكأنما يهمس لنا بأن كل الدول العربية صار حالها مثل حال خمارة القط الأسود . القصة الأولى التي اعطاها نجيب محفوظ اسم " كلمة غير مفهومة " . حيث المعلم حندس فتوة الحارة يذهب مع رجاله وأسلحته لضرب ابن حسونة الطرابيشي . وتكون النتيجة أن ابن حسونة الطرابيشي يقلب الموازين ويقتل المعلم حندس ويهرب رجاله من حوله . وهو تشبيه قاتل وحقيقي لحرب 1967 . ولكن بطريقة القصة الشعبية !! وبالفعل لا تزال نتائج حرب 67 غير مفهومة حتى يومنا هذا . امّا قصة " خمارة القط الأسود " فهي قمة الإبداع . وفي كل مرة تعيد قراءتها تفهم رسالة جديدة كان الكاتب يريدنا ان نفهم منها حالنا العربي . خمارة وضيعة وفقيرة لذوي الدخل المعدوم تسمى خمارة النجمة , يجتمع فيها البؤساء الفقراء والمعارف ليحتسوا الخمر بقرش أو قرشين فيطيروا من شدة السكر وينسوا همومهم وعائلاتهم وحياتهم . خمارة بائسة تمثل مجموعة من الزبائن المهزومين الذين يعترفون لأنفسهم أنهم فشلوا في الحياة ، ولا يبحثون سوى عن النسيان . زبائن الخمارة يطلقون عليها اسم خمارة القط الأسود لان صاحبها الرومي يربي قطا أسودا سمينا يتنقل بين طاولات السكارى بحثا عن فتات الخبز . حتى صار مثله مثل الزبائن البائسين . فضول القارئ يتضاعف لمعرفة ماذا يريد هؤلاء الزبائن أن ينسوا : - أن ينسوا كثرة العيال وقلة المال . - أن ينسوا الحر والذباب . - أن ينسوا وجود عالم خارج قضبان الخمارة . - أن ينعموا بملاطفة القط الأسود وهم سكارى . - أن تصفوا نفوسهم ويتحرروا من كل شيء ، أن يفيضوا بالحب لأي شيء ، أن يتحرروا من التعصب والخوف ، يتطهروا من أشباح المرض والكبر والموت ، يتصورون في صورة منشودة ، يسبقون الزمن بقرون كاملة . فجأة يدخل عليهم رجل غريب ومتجهم لا يعرفونه . يجلس على كرسي الخواجا نفسه . للغريب حضور مقلق فهو قاتم وقوي ومخيف كأنه مصارع أو ملاكم او رافع اثقال . يسكت الغناء وتنقبض الأسارير ويخمد الضحك . الغريب القوي يشرب النبيذ دفعة واحدة , يشرب ما يكفي لقتل فيل ولكنه يزداد تجهما وقوة . ويعاملهم بأقبح صورة للغضب . أراد السكارى التعساء مغادرة الخمارة فهم لا يرغبون في القتال . ولكنه يمنعهم . ويسألهم : من أنتم ؟ قالوا : نحن زبائن المحل من قديم . ثم يمنعهم من الخروج . ثم يتحداهم للقتال , فردوا عليه انهم لا قوة لديهم للقتال . ولكنكم سمعتم قصتي ؟ اقسموا له عدم سماعهم اي شيء وتوسلوا أن يتركهم يمضون في سبيلهم , ولكنه رفض الا حين يأتي الوقت المناسب . ومتى يأتي الوقت المناسب لتتركنا نذهب ؟ يزجرهم فينزجرون . ارادوا ان يقسموا له بأنه لم يسمعوا شيئا عن قصته . فقال وهل اصدق سكارى يقسمون بالله . نقسم لك بأولادنا . ولكن لا قيمة لشيء عند زبائن خمارة حقيرة كذه الخمارة . صحوا من سكرهم واقسموا له انهم مجرد اّباء صادقون ومخلصون . ولكن وصفهم بالأوغاد والانذال . والويل لكم ان تحركتم من اماكنكم أو حاولتم الخروج والمغادرة . أي داهية ؟ أي ذل ؟ أي خزي؟ هو يعتقد أنهم كشفوا قصته . وهم أصلا لا يعرفون عنه أي شيء وفجأة صار يتحكم بحياتهم !!
كيف يتخلصوا من هذا الموقف المهين . فجأة عادوا للشرب وعادوا للبؤس وتجاهلوا وجوده وقوته .واستيقظ القط الاسود وعاد يجول بين الطاولات .فتحللت الذاكرة ونفضت من خلاياها كل مكنونها . سكروا حتى لم يعد الواحد يعرف صاحبه . وسأل أحدهم : هذا القط الاسود هو الشيء المحسوس وهو الخيط الوحيد الذي سيوصلنا الى الحقيقة . هل يا ترى ان القط يعرف الحكاية ؟ وهل هو يتكلم أصلا ؟ ولماذا كان الاقدمون يعتبرون القط إلها وحفروا صورته مع الالهة ؟ نسوا وجود الرجل القوي المخيف الذي شتمهم وهددهم . وحين نسوا انه موجود . مضى الرجل الغريب واختفى . |